هل ما زال في إمكان اللبنانيين التمتع بالفصول الأربعة وجمال الطبيعة في ظل التغيرات المناخية؟ سؤال وجهته إليّ هيئة الاذاعة البريطانية الشهر الماضي، حين تجاوزت درجات الحرارة الثلاثين درجة في الأسبوع الأخير لفصل الشتاء. وكان قد سبق هذا موجة من الصقيع والعواصف الثلجية ضربت لبنان ومحيطه، في حين كانت موجة من الحر تجتاح أجزاء من أوروبا.
قد تكون هذه بعض مظاهر تغيّر المناخ. لكن لا يجوز أن نجافي أسلوب التحليل العلمي السليم بالتأكيد انها كذلك، إذ قد تكون مجرد تقلبات في الطقس. فهناك تبدلات طبيعية تحصل في الفصل نفسه بين سنة وأخرى، قد تكون عرضية لا علاقة لها بتغيّر عام في المناخ. لكن تكرار هذه التبدلات بوتيرة غير معتادة على مدى سنوات متواصلة، بالمقارنة مع فترة زمنية طويلة، يؤشّر إلى تغيّر في المناخ. المشكلة أنه لا توجد في لبنان، والدول العربية عامة، سجلات احصائية دقيقة عن أحوال الطقس خلال السنوات المئة الماضية، يمكن الركون إليها للمقارنة والخروج باستنتاجات حاسمة لتفسير التقلبات المحلية في الأحوال الجوية. غير أننا جزء من هذا العالم، الذي توصل علماؤه إلى شبه إجماع على أن المناخ يتغيّر، وذلك بسبب النشاطات الانسانية وليس الدورات الطبيعية العادية. فالسنون العشر الأخيرة كانت الأكثر حرارة في مئة سنة.
قبل أيام من سؤال هيئة الاذاعة البريطانية، طلبت مني إحدى دور النشر مراجعة كتاب تعده للأطفال حول موضوع تغير المناخ. ولم يكن عليّ سوى قـراءة المقطع الأول لأكتشف أن النص يعتمـد على التبسيط غـير العلمي. فقد جاء فيه: ''عندما تستيقظ في صباح أحد أيام الشتاء وتجد الطقس حاراً، ألا تفكر بأن المناخ يتغيّر؟'' لا، ليس بالضرورة، كتبتُ على هامش النص. إذ عليك أن تستيقظ مئات المرات في فصل الشتاء، خلال عشرات السنين، وتجد الجوّ شديد الحرارة، قبل أن يمكنك الاستنتاج أن المناخ يتغيّر. أما إذا حصل هذا مرة أو اثنتين أو ثلاث مرات، فقد يكون مجرد تقلّب عادي في الطقس. وبالطبع، فالناس العاديون يلاحظون فقط، أما الحكم الفاصل عما إذا كان المناخ يتغيّر فيأتي من الاختصاصيين والعلماء، نتيجة مراقبة وتحليل لأرقام وأحداث عبر فترة طويلة من الزمن.
في مقابل هذا الفهم التبسيطي الساذج لظاهرة تغيّر المناخ، تبرز موجة إنكارية تدّعي العلم. ومن حسن الحظ أن مروّجيها أصبحوا أقلية يرفضها إجماع المجتمع العلمي. من أبرز مظاهر هذه الموجة الانكارية كتاب ظهر أخيراً بعنوان ''الاحترار العالمي الذي لا يمكن وقفه... كل 1500 سنة''. مؤلفا الكتاب، فرد سنغر ودينيس آيفري، يعتمدان نظرية تقول إن هناك دورة طبيعية تمتد 1500 سنة، يتبدل فيها المناخ بين البارد والحار، ونحن الآن على أبواب دورة الحر. في الظاهر، قد نفهم أن الاستنتاج واحد، وهو أن المناخ يتغير نحو حرارة أعلى. لكن الفارق أن الكتاب يقول إن هذه ظاهرة طبيعية لا يمكن وقفها، ولا علاقة للنشاطات الانسانية بها. إذاً، لا بأس في أن نواصل الانماط الاستهلاكية المنفلتة، فنزيد انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من المصانع والسيارات ومحطات توليد الطاقة، ونقطع الغابات، ونلتهم موارد الطبيعة بنهم ـ فالمناخ سيتغير في أي حال. ليس هذا فقط، وفق سنغر وآيفري: فزيادة انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون ستفيد الزراعة، وارتفاع درجات الحرارة سيطيل عمر الناس ويدعم التنمية. هذا الكتاب يتوجه أساساً إلى المستهلك الأميركي، رداً على الحملة الناجحة للتحذير من عواقب تغير المناخ، التي أطلقها نائب الرئيس السابق آل غور.
لن نردّ بالتفصيل على نظريات الكتاب واستنتاجاته. فقد جاء الردّ العلمي مسبقاً، وكان دقيقاً وواضحاً، في التقرير الرابع للجنة الحكومية الدولية حول تغيّر المناخ، الذي عمل عليه آلاف العلماء حول العالم، وأجمعوا للمرة الأولى على أن المناخ حتماً يتغيّر، والسبب الرئيسي هو النشاطات الانسانية وليس عوامل الطبيعة. وقد أيدت هذا الاستنتاج الهيئات العلمية المستقلة والرسمية في الولايات المتحدة نفسها، التي كان بينها، حتى فترة قريبة، من ينكر وجود إثبات علمي على أن الانبعاثات من الصناعة والنقل وتوليد الطاقة هي المسؤولة عن الاحتباس الحراري.
لماذا أصدّق كل هؤلاء العلماء عوضاً عن تصديق مؤلّفَيْ هذا الكتاب؟ لأن الحجج الانتقائية التي يعرضانها دفعتني إلى اكتشاف تاريخ علمي مشبوه.
فقد ذكّرتني استنتاجاتهما بآلاف ''الدراسات العلمية'' التي صدرت خلال السنوات الستين الأخيرة لتنكر وجود صلة بين التدخين والاصابة بأمراض القلب والرئة والسرطان، وتبيّن أنها ممولة من ''كارتيل'' مصنعي التبغ. اليوم أصبح الأمر محسوماً، ولم تعد العلاقة بين التبغ والأمراض موضع نقاش، بل أصبحت المسألة محصورة في معادلة أنه إذا أردت أن تدخّن وتموت أو تعتلّ صحتك، فهذا قرارك. وقد تم منع التدخين في الأماكن العامة في دول العالم المتحضرة، وانضمت إليها بعض الدول العربية، على اعتبار أنه لا يحق للمدخّن الذي لا تهمه صحته أن يعرّض الآخرين للخطر رغماً عن إرادتهم.
لماذا أتحدث عن هذه المسألة بالتفصيل، وما علاقتها بتغيّر المناخ؟ لأنه حين فكّرت بالرابط بين المسألتين، قمت ببعض الأبحاث، فوجدت أن المؤلف الرئيسي لكتاب المناخ، الدكتور فرد سنغر نفسه، كان المشرف ''العلمي'' على تقرير نُشر عام 1994، يُنكر وجود صلة بين ''التدخين السلبي''، أي آثار دخان التبغ على الناس المحيطين بالمدخّن، وأمراض القلب والرئة والسرطان. وقد استخدمت شركات التبغ هذا التقرير لمواجهة الأبحاث العلمية لوكالة البيئة الأميركية، التي أوصت بمنع التدخين في الأماكن العامة لوقف آثاره على غير المدخنين. وكما يعلم الجميع، فقد أصبحت المضار الصحية للتدخين السلبي حقيقة علمية معترفاً بها، على الرغم من تقارير سنغر وغيره.
وقد استطعنا كشف مجموعة كبيرة من الهيئات ذات الأسماء البراقة التي ارتبط بها فرد سنغر، وكلها بتمويل من مجموعات استخدمتها لمحاولة تمرير أجنداتها في الادارة الأميركية، تحت غطاء العلم، مثل: مؤسسة واشنطن للقيم في السياسة العامة، والمركز الدولي للبيئة العلمية. والواضح أن دور سنغر في جميع الحالات كان لعب دور ''حصان طروادة'' لانكار الحقائق العلمية تحت غطاء العلم. لكن ''ورقة التوت'' تسقط سريعاً حين نراجع التاريخ المشبوه له ولزملائه، والجهات التي تموّل مؤسساتهم وتقاريرهم. إذ تظهر ارتباطاتهم أنهم ''بنادق برسم الايجار''.
أما بعد، فماذا يريد سنغر وآيفري والذين يروجون لكتابهما؟ هل نفهم الرسالة دعوة الى الاستمرار في الأنماط الاستهلاكية المنفلتة، التي تقوم على الهدر المفرط للطاقة والموارد؟
أريد أن أعطي الكتاب ''فضيلة الشك''. ولمتطلبات الجدل المفيد، أنا مستعد أن أعطيه ''نصف حق''. فهو يؤكد أن المناخ يتغيّر، ولكن لعوامل طبيعية مرتبطة بدورة الـ1500 سنة العادية. لنعتبر أن هناك ''نصف شك'' أيضاً بأن النشاط الانساني يساهم في تسريع هذا التغيّر وزيادة حدّته. ماذا تخسر الانسانية إذا أخذنا ''نصف الشك'' هذا في الاعتبار، فاعتمدنا الاستخدام الرشيد والنظيف لمصادر الطاقة التقليدية، وطورنا مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، واعتدلنا في استهلاك الموارد الطبيعية بدل استنفادها؟ وهذا ليس لتخفيف الانبعاثات فقط، بل للحفاظ على مواردنا المحدودة، حماية للأجيال المقبلة.
الجواب أن اعتماد هذه الخيارات سيوفر فرص عمل جديدة ويؤمن مستقبلاً أفضل للحياة على الأرض. والخاسر الوحيد بعض الشركات الجشعة التي ترى أن استمرارها في الربح الشخصي السريع أكثر أهمية من استدامة الربح العام واستمرار الحياة على الأرض.
يتخوف سنغر وآيفري من الآثار المدمرة لتدابير الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على الاقتصاد الأميركي. حتى اليوم، لم تكن الولايات المتحدة جزءاً من المساعي العالمية لمواجهة تغير المناخ، لكنها استمرت في سياسات السوق الاستهلاكية المفتوحة والنمو المتفلّت. فهل منع هذا الاقتصاد الأميركي من الانهيار المفجع الذي نعاينه اليوم؟
وهل ستعاني الانسانية الويلات إذا تحوّلت صناعة السيارات الأميركية من انتاج الدينوصورات التي تتجرع الوقود بنهم وتبث أطنان الغازات، حفاظاً على ما يُسمى ''طريقة الحياة الأميركية''، إلى السيارات الصغيرة النظيفة المقتصدة في الوقود والقليلة الانبعاثات؟
وماذا يُضرّ منتجي النفط لو خُفِّضت كمية الانتاج وارتفعت الأسعار، وبقي بعض الاحتياطي في باطن الأرض ثروة للأجيال المقبلة؟
قد نفهم لجوء بعض مدّعي العلم إلى الشعارات الديماغوجية والجدل الشعبوي لاستقطاب التمويل من مؤسسات ذات مصالح خاصة، أو لترويج كتاب يخالف الاجماع العلمي. لكن من غير المقبول أن تتبنى بعض المؤسسات العربية هذه الادعاءات، بلا مناقشة.
نرجو أن تراجع الهيئات الرسمية في الدول المنتجة للنفط التاريخ العلمي لمثل هؤلاء الكتّاب، قبل أن تتبنى نظرياتهم.