بعد اكتشاف نوع من طيور أبوقير كان يعتقد أنه انقرض في غابات تايلاند المطيرة، عزمت الباحثة بيلاي بونسواد على تحويل الصيادين المنتهكين والحطابين غير الشرعيين الى حماة لهذه الطيور الرائعة ولموئلها المحفوف بالأخطار. وبفضل خطتها منذ 1997 بأن "تتبنى" عائلات المدن أعشاش أبوقير لتمويل أعمال الحماية، أحدثت تغيراً ملحوظاً في سلوكيات المجتمع. وتقديراً لتفانيها في الحفاظ على هذه الطيور في أنحاء العالم، خصوصاً في جنوب تايلاند، تم تكريمها بلقب "الأم الكبرى لأبوقير". كما نالت جائزة رولكس لروح المغامرة للعام 2006.
جوليان كريب
واجهت بيلاي بونسواد النزعة العدائية والارتيابية لدى القرويين بالصراحة. وقالت لهم: "سوف ينبش أولادكم عظامكم ويلعنونها لما فعلتموه بالغابات". وران صمت ثقيل، ثم نهض وكيل زعيم القبيلة قائلاً: "هذا صحيح. أشعر في بعض الأوقات برغبة في أن ألعن والديّ لما فعلاه بالغابة".
تحت تأثير هذه الكلمات القليلة والقوية في شباط (فبراير) 1994، بدأ الرجال، الذين كانوا يجردون غابة المطر السريعة الزوال في جنوب تايلاند من مواردها الطبيعية الوافرة، يتحولون الى أوصياء على الغابة وأدلاء سياحة بيئية. وولد نموذج لاقتصاد اجتماعي يعيش فيه أناس عصريون في انسجام مع الغابات الدهرية.
وراء هذه المعجزة طائر جميل ومهيب يبلغ طوله 1,5 متر ويمتد جناحاه بعرض 1,9 متر. طيور أبوقير أو أبو قرن (hornbill) ذات الريش الأسود والأبيض والمتوجة بخوذة رائعة على منقارها، أو ذات الريش الخمري والقرمزي والذهبي، هي مثال على كل ما هو نادر وحيوي وغامض في الغابات الاستوائية من أفريقيا الى آسيا. لقد امتزجت حياتها بالغابة التي تساعد في تجددها بنشر بذورها. وعندما تتجزأ الغابة تضيع طيور أبوقير أيضاً. وتؤوي تايلاند 13 نوعاً من هذه الطيور من أصل 31 نوعاً في آسيا، منها نوع ربما انقرض وخمسة معرضة للخطر وأربعة شبه مهددة وثلاثة سريعة التأثر. وقد تم اجتثاث ثلث الغابات التي تعيش فيها.
الأنثى الحبيسة
هذا الجمع بين الجمال الطبيعي لأبوقير وهشاشته أمام الأخطار هو الذي قاد بونسواد الى الغابات التايلاندية وساعدها على فهم فداحة الدمار الحاصل. وما زالت تذكر لقاءها الأول مع هذا الطائر عام 1967 في منتزه كاوياي الوطني قرب بانكوك. فقد سمعت صوتاً صاخباً مخيفاً فوقها: "انه شبيه بصافرة قطار. شعرت بالخوف ظناً أنه ثور بري، وأخذت أركض كالمجنونة". ضربات جناحيه القوية، التي يضخّمها انعدام الريش تحت الجناحين، يمكن سماعها على بعد كيلومتر.
تفتح اهتمامها بأبوقير بعد عشر سنين، عندما طلب منها عالم الطيور الأميركي الشهير الدكتور إليوت ماكلور، الذي كان يعلمها في الجامعة، أن ترشد فريقاً من محطة BBC لتصوير فيلم وثائقي عن أبوقير في منتزه كاوياي أيضاً. كان البحث عن هذه الطيور مخيباً، فالغابة حارة ورطبة، وأمضت بونسواد ليالي في كيس نوم على أرض الغابة، وتعرضت لقرصات الحشرات، لكن طيور أبوقير استعصت على الظهور. ومن ثم أبلغها أحد حراس الغابة عن وجود عش مأهول. فمضت اليه، وعندما بلغته في الصباح الباكر سمعت الانثى تقرقع من داخل تجويف شجرة. وتسمرت في مكانها مندهشة وهي تشاهد الذكر يطعم أنثاه المحبوسة ثمار الغابة بمنقاره الضخم، من خلال فجوة صغيرة في جذع الشجرة.
ان عادات التكاثر الفريدة لدى هذه الطيور حاسمة بالنسبة الى مأزقها. فكل زوجين يبحثان عن فجوة مناسبة في جذع أو غصن يعلو ما بين 15 و40 متراً عن الأرض، في ثلاثة أنواع من الأشجار، حيث يربيان فرخاً واحداً. وبعد العثور على التجويف المطلوب تحشر الأنثى نفسها فيه وتسده مستخدمة الطين الذي يمدها به الذكر، وتحضن بيضتها حتى تفقس. كما تستخدم الطعام الذي يتقيأه الذكر لتأكل وتطعم صغيرها. ويواصل الذكر اطعامهما طوال ثلاثة اشهر، واذا فشل في ذلك فقد يهلكان. وتأكل هذه الطيور نحو 80 نوعاً من الثمار، ناثرة البذور على مساحات كبيرة من الغابة. ومع ندرة حيوانات أخرى موزعة للبذور، مثل القردة، باتت طيور أبوقير عنصراً حيوياً في الحفاظ على الغابة. لكنها نادراً ما تنثر بذور الأشجار التي تعشش فيها، فاذا زالت تلاشت معها الطيور، وتلاشت عشرات الأشجار والنباتات التي تساعد في تكاثرها.
عام 1994، أنشأت بونسواد "مؤسسة أبحاث أبوقير" لجمع الأموال من أجل دراسة هذه الطيور وحمايتها. يقول أناند بانياراشون رئيس وزراء تايلاند السابق: "اني أقدر كثيراً منظورها في العمل، من اجل الحماية على المدى البعيد ومن أجل البيئة عموماً". وتقول تيموثي لامان وهي عالمة طيور وباحثة في جامعة هارفرد الأميركية: "لم يسبق لي أن التقيت شخصاً له كل هذا التأثير على الحماية في بلده".
من صياد وقح الى حامي الغابة
التحديات التي قبلتها بونسواد لانقاذ أبوقير لم تكن سهلة أو مأمونة، فهي تقول: "واجهت في كل موقع أبحاث أخطاراً متنوعة، من مطاردة الفيلة لي ومواجهة النمور والدببة الآسيوية السوداء وثعابين الكوبرا الى الابتلاء بالقراد والعلق والطفيليات. وعلى رغم عدم وجود حيوانات كبيرة شرسة حيث يقع مشروعي الحالي في بودو ـ سونغاي بادي، وهما جبلان على شبه الجزيرة المتاخمة للحدود الماليزية، فهناك ارهابيون وصيادون وحطابون غير شرعيين يتعين علي التعامل معهم". تضاف الى ذلك الاضطرابات في جنوب تايلاند، حيث كانت بونسواد تعمل على ترويج أفكار متحدّية وتقترح نمط عيش جديداً للقرويين الفقراء.
زارت بونسواد منطقة بوندو ـ سونغاي بادي لأول مرة عام 1994 بحثاً عن أبوقير الكركدنّي ذي الخوذة الرائعة بلون المغيب، والذي كان يعتقد أنه انقرض هناك. وكان الجبلان بمثابة جزيرتين منكمشتين من غابة المطر العذراء وسط بحر من الأراضي المأهولة، وقد تقرر رسمياً تحويلهما الى منتزه وطني. هنا التقت أساي ماساي، الصياد الصلف الذي كان يصطاد طيور أبوقير من دون وجل وبحرفية عالية. تقول بونسواد عن أحاديثها معه ومع قرويين آخرين: "الناس فقراء جداً هنا، لا دخل لهم الا ما يحصّلونه كعمال زراعيين، وهذا قليل جداً. وسرقة فرخي أبوقير من النوع الأندر يمكن أن يدر عليهم أجر سنة. كان ذلك أحد السبل التي تبقيهم على قيد الحياة".
زارت بونسواد كل قروي على حدة، شارحة خطتها لدفع أجور لهم مقابل مساعدتها في تحديد أماكن أعشاش أبوقير وحمايتها وجمع معلومات عنها. وبينت لهم الفوائد الاقتصادية للسياحة البيئية، وما سيتركه نهب الغابات من عواقب على أولادهم. أسرت قلوبهم بشغفها وصدقها، وأصبح ماساي مساعدها المقرب بما يملكه من مهارات فائقة في الغابات. فتحول من صياد منتهك الى حارس لطيور الغابة وحيواناتها. وتكلل نجاحهم بالعثور على أبوقير الكركدنّي في جبل بودو. وبحلول عام 2005 كان 41 شخصاً من تسع قرى يحرسون أكثر من 176 عشاً لستة أنواع من أبوقير.
عائلة لكل عش
مضى المشروع في خضمّ وضع عنيف: تهديدات الارهابيين المختبئين في القرى والغابة، والهجمات المضادة للقوات الحكومية. تقول بونسواد ان القرويين بذلوا جهوداً جبارة لابقاء المشروع مستمراً. وعندما أدى الركود الاقتصادي في تايلاند عام 1997 الى قطع التمويل الهزيل الذي كان يدفع لهم، لجأت بونسواد الى العائلات الموسرة في المدن وأقنعتها بأن يتبنى كل منها عشاً لأبوقير. فدفعت كل عائلة 120 دولاراً سنوياً لحماية العش بواسطة القرويين، على أن تحصل في المقابل على تقارير منتظمة وصور لـ"طيورها". ومن خلال اطلاق حملات عبر وسائل الاعلام والمسارح والمعارض، جمعت الأموال اللازمة لحماية اكثر من 100 عش لمدة عشر سنين، ومواصلة الأبحاث المتعلقة بطيور أبوقير. واستجاب القرويون الفقراء بسخاء، فتبرعوا بقطعة أرض لاقامة مركز تعليمي توعوي لتعميم معلومات عن الطيور وخطة إنقاذها وإنقاذ الغابة.
المشروع الذي خصصت له بونسواد قيمة "جائزة رولكس لروح المغامرة" البالغة 100 ألف دولار هو مشروع متعدد الرؤى. ولتأمين استمرارية الأعشاش، تقوم فرق من القرويين بصيانة مواقع الأعشاش القائمة وبناء أعشاش اصطناعية من الأخشاب والفيبرغلاس والصموغ. وقد أخذت أزواج من أبوقير تستعمل صناديق التعشيش هذه. ويتولى القرويون تعليم الأشجار التي تقتات عليها هذه الطيور وقياسها وأخذ عينات من بذورها. وأقيم مشتل لانتاج غرسات لهذه الأشجار بهدف اعادة تحريج البقع الخالية الناتجة من الاحتطاب غير المشروع. ويعمل الرجال والنساء والأولاد جنباً الى جنب في هذه المهمة.
ويقوم مركز تعليمي متنقل ومدرسون مدربون بنشر معلومات عن المشروع لقرويين آخرين في جنوب تايلاند، فيما يقوم صيادون سابقون بتعليم زملائهم أن مستقبلاً أكثر أماناً لعائلاتهم يكمن في التجديد بدلاً من التدمير والابادة. ويقوم باحثون بتوثيق العلاقات الرئيسية بين النباتات والطيور والحيوانات في غابة المطر.
تحلم بونسواد بأن تدعم هذه المبادرات مزيداً من الأبحاث، وأن يتعلم التايلانديون من جديد معنى العيش بانسجام مع الغابة. تقارن مستقبل المشروع بذكر أبوقير الذي يعتني بأنثاه: تقريب البشرية من رعاية العالم الطبيعي الذي نعتمد عليه جميعاً.