تلقت ''البيئة والتنمية'' كتاباً من مدير مركز الاعلام والتوعية البيئية في وزارة البيئة العراقية، رداً على مقال الدكتور كاظم المقدادي بعنوان ''لماذا التعتيم على التلوث الاشعاعي في العراق؟'' ينفي خطر هذا التلوث ويرده الى أسباب طبيعية.
وقد أرسلنا هذا الرد الى الدكتور المقدادي الذي رد عليه بدوره. في ما يأتي كتاب مدير المركز، ورد المقدادي عليه
إشارة الى ما نشرته مجلتكم في عددها 117 في كانون الأول (ديسمبر) 2007 تحت عنوان ''لماذا التعتيم على التلوث الاشعاعي في العراق'' بقلم الدكتور كاظم المقدادي، نود أن نبين التالي:
1. ان اليورانيوم المنضب (المستنفد) الذي استخدمت قذائفه في تدمير الآليات والدروع والتحصينات والمواقع ليس سلاحاً نووياً، وأعتدته من اطلاقات وقذائف يوفرها تجار السلاح لمن يريدها. يستخرج اليورانيوم من الطبيعة على شكل مركبات كيماوية (أكاسيد وغيرها) من المناجم، وكذلك من الصخور الفوسفاتية التي يتوفر مثلها في شمال وغرب العراق بكميات هائلة. ولو تم الاطلاع على تلك المناطق لعثر على خلفيات اشعاعية عالية اذا ما قورنت بمناطق أخرى من مناطق العراق، وذلك ناتج عن تواجد تراكيز من اليورانيوم الطبيعي في الصخور. وتختلف تلك التراكيز من مصدر الى آخر، حيث يتم فصل اليورانيوم (النظير 235) ذي الخصائص النووية والذي يتواجد بوفرة طبيعية مقدارها 0,7 في المئة من اليورانيوم الكلي الذي يتألف من النظائر 234 و235 و238 باستخدام طرق معقدة، وتدعى هذه العملية التخصيب. أما الباقي من اليورانيوم الاجمالي فهو اليورانيوم النظير 238 الذي يشكل 99 في المئة من الكل، حيث يعتبر ناتجاً عرضياً لا يمكن الاستفادة منه في الصناعة النووية. فضلاً عن ذلك، فقد وجدت بعض الصناعات ومنها الصناعات الحربية استخدامات للكميات الكبيرة لليورانيوم المنضب 238، ومن تلك الاستخدامات الدروع الواقية من الاشعاعات الناتجة عن استخدام النظائر المشعة في العلاج الطبي (المصادر الاشعاعية ذوات النشاط الاشعاعي العالي مثلاً) وأثقال توازن الطائرات الحربية والمدنية وغير ذلك من الاستخدامات العلمية.
وتتمتع سبائك اليورانيوم المنضب بخاصية فريدة تغني عن سبائك التنكستون الغالية الثمن، ولكثافتها العالية (الكتلة في وحدة الحجم) وقابليتها لتحمل درجات الحرارة العالية الناتجة عن التصادم، مما يعطي قذائفها قدرة عالية على اختراق الدروع. يشار الى أن موضوع استخدام اليورانيوم المنضب قد تم تسييسه في العراق مثلما حصل في يوغوسلافيا السابقة (البوسنة والهرسك) واستمر ليومنا هذا، لذر الرماد في العيون وجعلها لا ترى الأسباب المهمة الأخرى التي أدت الى تدهور الحالة البيئية في العراق بشكل عام والجنوب بشكل خاص. وبقي اليورانيوم المنضب المتهم الرئيسي والأوحد والمسبب الأكيد لظهور الحالات المرضية الخطيرة. واستمر تجاهل العوامل الاخرى الأكثر أهمية وتأثيراً، حيث أكدت الدراسات التي أجرتها منظمة الصحة العالمية والمنظمة الدولية لحماية البيئة في البوسنة والهرسك والجبل الأسود أن لا علاقة مطلقاً لليورانيوم المنضب بظهور حالات سرطانية أو غيرها. وأوصت الأخيرة بجمع بقايا الاطلاقات والشظايا المصنوعة من سبائك اليورانيوم المنضب لكي لا تقع في أيدي الأطفال أو تجار التحفيات، مما يزيد من احتمالية التلوث أو التعرض الاشعاعي الواطئ غير المستحب هذا، بالإضافة الى سميته المشابهة للرصاص.
وقد قامت منظمة الطاقة الذرية ومركز الوقاية من الاشعاع في العراق باجراء مسوحات اشعاعية في مناطق العمليات الحربية، وتم جمع الكثير من الآليات المدمرة بقذائف اليورانيوم وتم ابعادها عن السكان (وأغلب تلك الآليات المدمرة هي خارج المدن وبعيدة عن التجمعات السكانية أصلاً). وما زال مثل هذا النشاط جارياً ليومنا هذا. ولعل الاقتراب من الآليات والمواقع المدمرة باستخدام قذائف اليورانيوم قد يسبب تعرضاً اشعاعياً بسيطاً أو تلوثاً، ولكن مستوى تلك الجرع لا يبلغ مستوى الجرع المؤذية ولا هي الجرع المسببة للكوارث والاصابات المميتة كما جاء في المقال. ان مقدار الجرعة المؤثرة والتي تظهر عندها تأثيرات بيولوجية وتغيرات في كريات الدم البيضاء تبلغ ملايين أضعاف الجرع المذكورة في المقالة (2800 ميكرورم) (وتساوي هذه الجرعة مكافئ 2,8 ملي رم بالساعة، وهي المسموح بها تقريباً للعاملين على المصادر المشعة لفترة 40 ساعة اسبوعياً و2000 ساعة سنوياً).
ومن الجدير بالاشارة أن تلك الجرعة المذكورة في المقالة مقاسة على مسافة قصيرة عن المصدر، بمعنى الملامسة تقريباً، وهذا يعتبر خطأ جسيماً فيعمليات القياس لتقدير الجرع الاشعاعية الحقيقية التي يستلمها الأشخاص. ومن خبرة المختصين العراقيين الذين عملوا عشرات السنين في المؤسسات والمواقع النووية في الخارج والداخل، الذين رفضوا المشاركة في تضليل أهلهم وذويهم من العراقيين باطلاق التصريحات والاشاعات المرعبة غير المسؤولة (حيث نؤكد في هذا الصدد أن اليورانيوم المنضب يأتي في آخر قائمة الأسباب التي أدت الى تدهور البيئة العراقية وهبوط المستوى الصحي للانسان العراقي، وهو ليس بالأهمية التي يستحق بها التهويل والضجة الاعلامية بالمقارنة مع الأسباب الحقيقية الأخرى)، ان تضليل الناس والاستمرار بدق طبول خطر اليورانيوم والاشعاع المميت المنبعث منه يعطي المبررات لمن لا يريد معرفة الحقيقة العلمية.
2. لقد تم الوقوف على حقيقة الأمر في البصرة وفي المناطق التي تجري فيها عمليات استخراج النفط الخام ومحطات عزل الغاز، حيث أن ما أثيرمن ضجة اعلامية حول تعرض العاملين الى مخاطر الاشعاع ليس له رصيد من الصحة مطلقاً. وتأتيكم الحقيقة من القياسات الميدانية التي أجريت سابقاً وتم تأكيدها من قبل خبراء في القياسات الاشعاعية (وهي مطابقة). وباختصار فان الحقيقة هي كالآتي:
يحتوي الوقود الاحفوري (نفط، غاز، فحم حجري) وكذلك المياه المعدنية المتدفقة من باطن الأرض على نظائر مشعة متعددة مثل اليورانيوم والثوريوم، وكذلك نواتج انحلالهما كالراديوم 226 وغيرها العديد من النظائر المشعة. وتحتوي النفوط أيضاً على تراكيز قليلة من المعادن، ذلك لقدرة بعض مكونات النفط على اذابة بعض المكونات المعدنية للصخور الملامسة في باطن الأرض (كمذيب عضوي).
وتتشابه آبار ومناجم الاستخراج في جميع أنحاء العالم بتلك الخصائص المعروفة والمشخصة منذ زمن طويل. الا أنه في الآونة الاخيرة أعطيت بعض الاهتمام بسبب التوصيات الدولية لتقليل جرع التعرض الشعاعي غير الضرورية، مهما كانت مصادرها ومهما كانت مقاديرها. لقد سميت هذه الدراسات بالنورم (NORMS) أي المواد المشعة ذات المنشأ الطبيعي.
ويدخل ضمن هذا الباب عدد كبير من المواقع والنشاطات الاستخراجية والتصنيعية، مثل مناجم استخراج اليورانيوم ومعامل الاسمنت وتصنيع الزيوت، بالإضافة الى ما ذكر أعلاه وفي كافة مراحل الصناعات النفطية. ومثلما في العالم، لدينا في العراق عمليات استخراج النفط، حيث يتم في المراحل الاولى فصل الغاز عن النفط الخام في عازلات، وبمرور فترة طويلة قد تتجاوز عدة سنوات تشغيلية، تجرى أعمال الصيانة ويتم استخراج الترسبات القيرية من قعر تلك العازلات لاستعادة حجم الاستيعاب الطبيعي لها والرجوع الى كفاءتها التصميمية. ان تلك الكميات من القير والرواسب هي ليست بالكميات الكبيرة في معظم الحالات، ولا تتجاوز بضعة أمتار مكعبة لكل عملية صيانة. ومن الطبيعي جداً أنتتحول تلك الكتل القيرية الى عدد من النظائر المشعة طبيعياً، وأهمها الراديوم 226 الذي يتحلل باعثاً دقائق ألفا وبيتا وأشعة غاما النافذة، حيث قيست الجرعة الاشعاعية الناتجة عن غاما على مقربة نحو سنتيمترين (مسافة التماس تقريباً) من سطوح الكتل القيرية والترسبات حتى سجلت الأجهزة الجرعة القصوى وهي بحدود 20 ملي رم/ساعة (200 ميكرسيفرت/ ساعة). وقد تم الابتعاد متراً واحداً عن تلك الكتل القيرية وانخفضت الجرعة حسب قانون التربيع العكسي الى مقدار يقارب 8 ميكرورم/ساعة، وهذه الجرعة تقارب الخلفية الاشعاعية الطبيعية التي قيست في البصرة عام 1987 وما بعدها وهي 7 ميكرورم/ساعة في أقصاها.
وأؤكد أن الحساب المبني على أساس البعد مسافة متر عن المصدر هو المعتمد عالمياً لتقدير جرعة التعرض الاشعاعي أو الجرعة الاشعاعية الممتصة. وأكرر أنه من الخطأ أن تقاس الجرعة الملامسة للمصدر فقط ويتم اعتمادها، اذ ان اليدين لهما القدرة على تحمل الجرع الاشعاعية بمقدار 15 مرة بالمقارنة مع تعرض عموم الجسم. كما أن للفترة الزمنية المقضية في العمل حسابها المؤثر والمهم في تقييم الجرعة السنوية. وفي قناعتنا العلمية الكاملة: ان التعرض لمخاطر الاشعاع في حقولنا النفطية هو مجرد مبالغات واشاعات ومزايدات لا تمت الى الواقع بصلة.
ان الجرعة الاشعاعية المقرة دولياً للسكان بمختلف أجناسهم وأعمارهم هي بين 100 ملي رم/سنة و 1 ملي سيفرت/سنة، وقد تتجاوز هذا الرقم لتكون 500 ملي رم/ سنة ولعدة سنوات. وان الجرعة 100 ملي رم/سنة (100,000 ميكرورم/سنة) تبلغ آلاف أضعاف الجرعة المتأتية من الاشعاعات المنبعثة عن سطح الارض بالدرجة الأولى في مواقع العمل في حقولنا النفطية وعلى بعد بضعة أمتار عن الكتل القيرية، حيث تكون الخلفية الاشعاعية اعتيادية وتساوي الخلفيات الاشعاعية المقاسة داخل مدينة البصرة المأهولة. وقد أوصت الهيئات الدولية عادة بالعمل لاتخاذ الاجراءات الضرورية لتقليل جرع التعرض الاشعاعي أينما تأتي ومهما كان مصدرها. الا أنه من المستحيل أن نحقق جرعة اشعاعية بيئية تساوي صفراً مهما كانت الاجراءات والتكاليف. ففي مواد البناء والبيوت التي نسكنها والأرض التي نزرعها ونعيش عليها والمواد الغذائية التي نتناولها وفي داخل أجسامنا مجموعة نظائر مشعة طبيعية مسببة لجرعة اشعاعية دائمية، لا يمكننا التخلص منها مطلقاً ولا يمكن تفاديها مهما بلغت الاحتياطات.
ان تخويف الناس بنشر معلومات وبحوث غير دقيقة تفتقر الى الأمانة العلمية له أثر سلبي على وضعهم النفسي وينعكس على أدائهم في مختلف مجالات الحياة. ويمكن أن توصف تلك المعلومات الخاطئة وتهويل الأمور بالشاكلة التي جاء فيها مقال الدكتور المقدادي وغيره بأنها زوبعة في فنجان. وهل مثل هذه الزوابع هي التي ستهدد الحياة وستهلك الحرث والنسل؟
شاكرين اهتمامكم بنشر اجابة وزارتنا هذه. مع فائق الاحترام والتقدير.
كريم عبد كاظم
مدير مركز الاعلام والتوعية البيئية
وزارة البيئة ـ جمهورية العراق
كادر
كاظم المقدادي يرد:
تبريرات تفتقر الى المصداقية العلمية
مما يلفت النظر أن هذا الرد موجه الى مجلة ''البيئة والتنمية''، بينما أرسل ونشر في وسائل إعلام عراقية! والغريب أيضاً أن يأتي الرد باسم وزارة البيئة، والوزارة غير مسؤولة أصلاً عن التلوث الذي كتبنا عنه. والأغرب من ذلك أن تتهمنا ''الوزارة'' بـ ''نشر معلومات وبحوث غير دقيقة، وتفتقر الى الأمانة العلمية... تخوف الناس، وتضلل العراقيين، بإطلاق تصريحات وإشاعات مرعبة غير مسؤولة''، و''مبالغات ومزايدات لا تمت الى الواقع بصلة''. وهي التي أرسلت الينا قبل أسابيع ـ أي بعد نشر مقالنا بنحو ثلاثة أشهر ـ كتاباً موقعاً من وزيرتها السيدة نرمين عثمان حسن، تشكرنا على رأس مجموعة من الباحثين ''للجهود المبذولة من قبلكم، من خلال إسهاماتكم الجادة والمخلصـة في رفـد الثقافة البيئية بالمواضيع والمقـالات التي من شأنها توسيع دائرة الثقافة والوعي البيئي'' (الكتاب: وزارة البيئة، مكتب الوزير، العدد م/و/164، التاريخ 10/3/2008). وأرسلت نسخ من هذا الكتاب الى العديد من مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، والجامعات المعنية، والمركز الذي وقع مديره الرد الذي نحن بصدده.
إننا نشك بأن الرد يمثل وزارة البيئة، ونعتقد أن ما ورد فيه يمثل رأي كاتبه وحده، علماً أن الشخص المقصود سمح بنشر العديد من مقالاتنا وأبحاثنا في مجلة ''البيئة والحياة''، وهو يرأس تحريرها، ومعظمها مكرس لمخاطر التلوث باليورانيوم المنضب. فما الذي تغير؟
الى هذا، يفتقر الرد الى المصداقية العلمية، ومعظمه ترديد لمزاعم البنتاغون. وجاء مليئاً بالمغالطات والتناقضات، وأولها تأكيده أن ''اليورانيوم المنضب يأتي في آخر قائمة الأسباب التي أدت الى تدهور البيئة العراقية''، وأنه ''ليس بالأهمية التي يستحق بها التهويل والضجة الإعلامية بالمقارنة مع الأسباب الحقيقية الأخرى''. مع أن وزيرة البيئة نفسها أعلنت في محافل دولية، وفي وسائل الإعلام، وضمنها مجلة ''البيئة والتنمية''، وبرنامج ''في مكتب الوزير'' على قناة ''العراقية'' الفضائية في 14/2/2008، أن الإشعاع المنتشر في العراق يعود لليورانيوم المنضب، مشيرة الى وجود معطيات ودراسات وخرائط. وأكدت أيضاً علاقة الحالات السرطانية بالإشعاعات. فهل هي أيضاً تنطبق عليها المواصفات السالفة؟ وهل ستشمل هذه المواصفات من يحذر من مخاطر الألغام مثلاً؟
من جهة أخرى، وصف حرصنا على أبناء وبنات شعبنا، عبر تنبيهنا لمخاطر نفايات اليورانيوم، بـ ''دق طبول'' و''تضليل للناس'' و''يعطي المبررات لمن لا يريد معرفة الحقيقة العلمية ولا يرغب في البحث العلمي الصادق''. هذا من دون أن يعطينا ولو دليلاً واحداً على تأكيداته أو اتهاماته. كما لم يذكر ما هي الأسباب الحقيقية الأخرى لإنتشار أمراض السرطان في العراق، وما هي ''الحقيقة العلمية'' التي يعرفها. فماذا ينتظر؟ أن يموت المزيد من العراقيين؟
أما استناده الى تقرير منظمة الصحة العالمية، فهو تقرير يتيم لا قيمة علمية له، لأن المنظمة أصدرته عام 2001، تحت ضغط الإدارة الأميريكة، وجوبه بانتقادات علمية جدية لافتقاره الى المصداقية اذ لم يستند الى مسح ميداني ولا فحوصات ولا تحليلات. وفي ما بعد افتضح الأمر اذ منعت المنظمة كبير خبرائها البروفسور كيث بافرستوك من نشر بحثه، الذي كشف فيه أن استنشاق جزيئات أوكسيد اليورانيوم المنطلقة من الذخائر الحربية يسبب السرطان والتشوهات الولادية. وهذا الموقف المشين فضحناه في وقته، وموجود على الانترنت، ولم تتجرأ المنظمة بالرد عليه حتى اليوم. كما لم يعلن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي يسميه الكاتب خطأ ''المنظمة الدولية لحماية البيئة'' أن ''لا علاقة مطلقاً لليورانيوم المنضب بظهور الحالات السرطانية وغيرها، كما زعم. والدليل أن البرنامج ''أوصى بجمع بقايا الإطلاقات والشظايا المصنوعة من اليورانيوم المنضب لكي لا تقع في أيدي الأطفال أو تجار التحفيات مما يزيد من احتمالية التلوث أو التعرض الإشعاعي''، باعتراف صاحب الرد.
وهو يجهل المستجدات العلمية للتأثيرات البيولوجية للإشعاع، متحدثاً عن تقييمات قديمة للإشعاع ''الواطئ''، في حين أثبت العلم اليوم أن لا وجود لحد أدنى من الإشعاع يمكن الجزم بأنه آمن. واكتشف العلمـاء أن لأشعـة ''ألفا'' المنبعثة من اليورانيوم المنضب تأثيرات تسمى bystander effects أي ''التأثيرات بالجيرة''، إن صحت الترجمة، مثبتين دورها الكبير في تدمير الحمض النووي DNA. وفي حدوث الطفرات والسرطانات في الخلايا التي تتعرض لها، ليس مباشرة فحسب بل لجاراتها أيضاً، وجاراتها تعرضها بدورها لجاراتها، وهكذا دواليك. ويتواصل الكشف عن المزيد بشأن أضرار اليورانيوم المنضب، خصوصاً عقب الانتقال الى مرحلة الأبحاث على الخلايا البشرية بدلاً من الحيوانات. وأحدثها ما توصل إليه عالم السموم جون وايز وزملاؤه في جامعة ساذرن ماين في بورتلاند، بعد أن عرّضوا سليفات خلايا ليفية fibroblasts مأخودة من قصبات هوائية بشرية مستنبتة الى جسيمات أوكسيد اليورانيوم، كالموجودة في غبار اليورانيوم المنضب. فسببت طفرات في كروموسومات الخلايا، وأفنت الخلايا نفسها. وازداد خطر إصابة الإنسان بسرطان الرئة مع زيادة تركيز الجسيمات التي تعرضت لها الخلايا البشرية، والتي أدت الى زيادة أثر السمية الجيني (genotoxic).
ويبرر الرد وجود خلفيات إشعاعية عالية بذريعة وجود تراكيزمن اليورانيوم الطبيعي، بينما يشير في مكان آخر الى أن ''الهيئات الدولية أوصت عادة بالعمل لاتخاذ الإجراءات الضرورية لتقليل جرع التعرض الإشعاعي أينما تأتي ومهما كان مصدرها".
ولنأتِ الى ''بيت القصيد'' وهو: ''في قناعتنا العلمية الكاملة: إن التعرض لمخاطر الإشعاع في حقولنا النفطية مجرد مبالغات وإشاعات ومزايدات لا تمت الى الواقع بصلة على الاطلاق''. وقناعاته ''العلمية'' تستند الى قياسات تمت في البصرة عام 1987 وبعده، باعترافه، وكانت بحدود 7 ميكرورم/ساعة في أقصاها. ولم يشر الى القياسات الحالية، حيث بلغت جرعة التعرض الإشعاعي في محطة العزل المركزية في الرميلة الجنوبية نحو 24 ألف ميكروراد/ساعة. وأثبتت القياسات أن تركيز الراديوم 226 في تربة المحطة المذكورة بلغ آلاف أضعاف التركيز الطبيعي في تربة البصرة، بينما المتوسط المعتمد هو 50 بكريل/كغم كما أكد لي زميل في جامعة بغداد. وأثبت فريق باحثي مركز الوقاية من الإشعاع ودائرة المواد الخطرة ''وجود تراكيز عالية لنظائر مشعة، وارتفاع التعرض، والتلوث الإشعاعي في محطات عزل الغاز الموجودة في حقل نفط الرميلة الجنوبي، واحتمالية وجود مصدر آخر للتلوث الإشعاعي نتيجة قصف مواقع الخزانات والعازلات باليورانيوم المنضب نتيجة للعمليات الحربية'' (راجع كتاب دائرة الدراسات والتخطيط والمتابعة، وزارة النفط، العدد: ت/8/152/177/16، المرسل الى مكتب المدير العام لشركة نفط الجنوب. ولدينا معلومات بأن توصيات الفريق حُرفت تحت ضغط آخرين، لدينا أسماؤهم".
وقبل ذلك أجرى الدكتور بهاء الدين معروف حسين وزملاؤه من الخبراء المتخصصين في وزارة العلوم والتكنولوجيا دراسة ''توصيف النشاط الإشعاعي في بعض محطات عزل الغاز في حقل نفط الرميلة الجنوبي''. وأثبتت نتائجها، بالمسح الميداني والتحاليل المختبرية والصور الموثقة، انتشار التلوث الإشعاعي بدرجة خطيرة.
وفي عام 2006 دافع الباحث البيئي الفيزيائي خاجاك وارتانيان عن أطروحته العلمية المكرسة للتلوث بإشعاع اليورانيوم المنضب في البصرة، والتي حددت أكثر من 100 موقع ملوث، ورسمت خريطة لها، وحذرت من مغبة بقاء مخلفات الحرب المضروبة باليورانيوم قريبة من السكان.
وقبل أيام أخبرني باحثون يعملون في وزارتي البيئة، والعلوم والتكنولوجيا، أنهم اطلعوا في أواخر عام 2007 على مواقع السكراب (الخردة) الملوثة بالإشعاع في حقول نفطية وحولها، في غرب القرنة والمصب العام (نهر صدام سابقاً)، حيث توجد مقبرة للدبابات وأنواع الآليات لا حدود لها، وحقلي الرميلة الشمالي والرميلة الجنوبي حيث يمتد السكراب الى منطقة خرانج المشهورة بالتلوث الإشعاعي منذ عام 1991. أما المناطق السكنية الموجود فيها السكراب الملوث، فذكروا لي: الهارثة، قرب معمل الورق والبيوت المجاورة، الكزيزة، الأصمعي، طريق كراج بغداد الموحد في البصرة، قرب الشقق السكنية، القرنة، المدَينة، بني منصور، أبو الخصيب، الدير، القبلة، العشار، قرب الداكير، كرمة علي، أبو صخير، وغيرها. وكل هذا موثق لديهم بالصور. وأكد باحثون شاركوا في الندوة العلمية التي نظمت في البصرة بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة السرطان في آذار (مارس) 2008، وجود السكراب الملوث حتى اليوم في مناطق سكنية في البصرة.
وضمن ''بيت القصيد'' تأتي التغطية على الإصابات السرطانية بين العاملين في شركة نفط الجنوب، وهي موثقة لدى الجهات الطبية المختصة. والرد يجزم بأن ''مقدار الجرعة المؤثرة، والتي تظهر عندها تأثيرات بيولوجية وتغيرات في كريات الدم، تبلغ أضعاف الملايين من المرات بقدر الجرع المذكورة في المقالة''، أي: ملايين المرات x 2800 ميكرورم/ساعة. فأي ''علم'' هذا الذي يستند إليه؟ وأي ''حرص'' يبديه على أهله وذويه؟
والسؤال: هل يقبلالعلماء والخبراء المختصون بالإشعاع والطب الذري والسلامة النووية بمثل هذه الطروحات الخطيرة؟ وهل يقبل كاتب الرد نفسه أن يتعرض شخصياً أو أحد أولاده ولو لدقائق لمثل هذه الجرعات الإشعاعية، حتى يرتضيها للعاملين في نفط الجنوب؟ نشك في ذلك!
د. كاظم المقدادي
استوكهولم، السويد