ازدادت العواصف الترابية في منطقة الخليج مؤخراً، وهي تعيق خطوط الطيران وتملأ الأجواء بسحابة تخلّ بعمل المحركات وسلامة المطارات، إضافة إلى أنها تضر بصحة الإنسان. يعتقد البعض أن هذه العواصف ربما نشأت نتيجة لتغير المناخ الذي يشهده العالم حالياً. لكن العالم المصري الدكتور فاروق الباز، مدير مركز أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن الأميركية، يعتقد أنها ازدادت خلال الأعوام الأخيرة بسبب تدهور سطح الصحراء نتيجة لحركة المركبات العسكرية في العراق، وخصوصاً في غربه. وهو كتب هذا المقال الخاص لـ''البيئة والتنمية'' مدعَّماً بالصور الفضائية
كنت متجهاً من القاهرة إلى الرياض في 19 نيسان (أبريل) الماضي لالقاء محاضرة في اليوم التالي. جلست كالعادة بالقرب من نافذة الطائرة لمشاهدة تضاريس الصحراء تحت خط الطيران. لاحظت أن هذه التضاريس لا تظهر بالوضوح المألوف. وعندما بدأت الطائرة في الهبوط التدريجي إلى مطار الرياض اختفى كل شيء. علمت حينئذ أننا نهبط في عاصفة ترابية شديدة. وتبين ذلك بشكل قاطع بعد الهبوط، حيث أن كل شيء على سطح الأرض كان مغطى بالتراب.
عادت إلى ذاكرتي في تلك اللحظة نتائج ملاحظاتي في صحراء الكويت بعد حرب الخليج الأولى عام 1991. في ذلك الوقت طلبت مني مؤسسة الكويت للتقدم العلمي مشاركة زملاء من معهد الكويت للأبحاث العلمية في تقصي الآثار البيئية للحرب. وقد نتج أهم هذه الآثار عن حرق آبار النفط في الكويت، ونقلت وسائل الاعلام صوراً كثيرة لها، وبعد إطفاء هذه الحرائق اعتقد الناس أن الحياة عادت إلى ما كانت عليه. لكنني لاحظت أن تدهور سطح الصحراء نتيجة حركة الآليات العسكرية، مع أنه يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، يمثل خطراً طويل المدى. والسبب هو تعرض أتربة دقيقة الحجم لعوامل الرياح، فتنتج عن ذلك عواصف ترابية عاتية.
دلتا النهر القديم
تمتد على سطوح الصحراء العربية طبقة من الصلبوخ (الحصى أو الزلط) تتكون من حبات صخرية يميل معظمها إلى الاستدارة، وهي تحمي ما تحتها من تربة. فاذا ما أزيلت هذه الطبقة أو تدهورت، تتعرض الحبات الدقيقة للتعرية بالرياح. ولقد أثبتت ملاحظاتي في الصحارى العربية، من المغرب العربي إلى الإمارات العربية المتحدة، أن حبات الصخور التي تكون طبقة الصلبوخ كانت جزءاً مما رسبته أنهار عديدة خلال عصور ممطرة في الماضي.
أثبتت دراستي لأرض الكويت وما يجاورها أن الرسوبيات التي تغطي سطح شمال شرق شبه الجزيرة العربية تمثل ما تبقى من دلتا نهر عظيم الشأن، نبع من روافد عديدة في جبال الحجاز شمال شرق المدينة. وقد تجمعت هذه الروافد في واد أساسي يعرف ما تبقى منه باسم وادي الرمة الذي يصل إلى بلدتي بريدة وعنيزة.
اتصل وادي الرمة بواد آخر في قديم الزمن يعرف بوادي الباطن الذي يتجه إلى الشمال الشرقي حتى حدود الكويت الجنوبية الغربية. وصبَّت رواسب وادي الباطن بالقرب من ساحل الخليج لتكوّن دلتا عظيمة تشمل كل مساحة الكويت وما يجاورها. وكالعادة، تباينت أحجام فئات الصخور المنقولة في مسار النهر القديم، من كتل بحجم اليد إلى أخرى بحجم حبات الحصى إلى تربة دقيقة الحجم.
وبعد تغير المناخ، الذي نتجت عنه ندرة المطر، جفت الأودية وتعرضت الرسوبيات لعوامل التعرية بالرياح. وتهب الرياح في هذه المنطقة من الشمال إلى الجنوب معظم السنة، ومن الغرب إلى الشرق تقريباً في فصل الربيع عموماً.
عند هبوب الرياح تندفع الحبيبات الدقيقة (التي يقل حجمها عن 0,2 مليمتر) في الهواء وتندلع العواصف الترابية. أما الحبيبات التي تراوح بين 0,2 و2 مليمتر فتتحرك مع الريح بالقرب من سطح الأرض وتكوّن الكثبان الرملية التي تزحف ببطء مع اتجاه الريح. وأما الحبات الأكبر حجماً فتبقى على السطح حيث تثبت ما تحتها من أتربة وتحميها من الرياح. هكذا يعم الثبات على سطح الصحراء، ولا يهدد هذه الطمأنينة الا إزالة طبقة الصلبوخ.
"لم يخبرنا أحد بذلك"!
شاهدنا جميعاً أعداداً هائلة من المركبات العسكرية والدبابات وغيرها من الآليات أثناء اندلاع حرب العراق الثانية عام 2003. واستمر العمل العسكري خلال السنوات الخمس الأخيرة، وما زالت القوات الأميركية تجوب صحراء العراق الغربية وخصوصاً منطقة الرمادي. هذه الأراضي القاحلة، على شكل مثلث يبدأ رأسه جنوب الموصل وقاعدته بين بحر الملح وبلدة الرتبة في جنوب غرب الرمادي، تشبه الى حد كبير سطح الصحراء في الكويت، حيث تغطيها طبقة من الصلبوخ كما توضح التضاريس التي تظهرها الصور الفضائية بجلاء.
كلما نقلت وسائل الإعلام خبراً أو صوراً للقوات العسكرية التي تجوب هذه المنطقة الشاسعة، انتظرتُ ضرراً بيئياً طويل المدى ينذر بأن حركة السيارات والدبابات تدهور طبقة الصلبوخ الواقية. ويؤلمني هذا، لعلمي بأن تلك العمليات العسكرية ـ من دون دراية وعن غير قصد ـ سوف تنتج عنها عواصف ترابية على مدى عقود من الزمان، حتى تعود طبيعة الأرض إلى ما كانت عليه قبل الغزو. ولأن الرياح تهب من الشمال إلى الجنوب في معظم أيام السنة، فسوف تتأثر منطقة الخليج بأسرها بازدياد العواصف الترابية الى حد كبير.
تعلُّق حبيبات الأتربة في الهواء يضعف الرؤية، مما يزيد حوادث السيارات في الطرق الرئيسية. كذلك تؤثر الأتربة على الطيران، ليس فقط بإضعاف الرؤية ولكنها أيضاً تضر بالمحركات والسطوح الخارجية للطائرات.
أهم من هذا كله، تؤثر الأتربة العالقة في الهواء على الجهاز التنفسي للإنسان، ويقول الأطباء إن جزيئات التراب تمثل سبباً أساسياً لسرطان الرئة. فمن المعروف أن الإنسان البالغ يستنشق يومياً نحو 3000 غالون هواء في اليوم (13,6 متراً مكعباً). واذا شمل ما يستنشقه من تراب واحداً في الألف من جزيئات الهواء، فهذا خطر جسيم لا بد من تحاشيه.
يمثل ذلك أحد مساوئ الحروب الحديثة في الصحراء، ولا بد من التفكير في التعامل معه. العلاج هو إعادة سطح الصحراء إلى ما كان قبل الحرب، وذلك بإعادة نشر الصلبوخ ليكون طبقة تحمي حبيبات التربة.
تعرفت بعد حرب الكويت بالسيد إدوارد غنيم السفير الأميركي اللبناني الأصل. وشاءت الأقدار أن التقي معه بالجنرال كيلي رئيس القوات العسكرية الأميركية في ذلك الوقت. شرحت للقائد العسكري ملاحظاتي عن سطح الصحراء، مقترحاً أن تقوم قواته بنشر الصلبوخ على المواقع المهددة بالتعرية. وقد أبدى الجنرال كيلي أسفه لأن أحداً لم يخبره بذلك في وقت أبكر قبل مغادرة 90 في المئة من المارينز.
السؤال الذي يطرح نفسه حالياً هو: هل نتعلم من أخطاء الماضي، ونحاول معالجة ما فعله شر الإنسان من تدهور لسطح الصحراء في العراق نتيجة الحرب الحالية؟