من وسائل تلبية الاحتياجات المائية في مناطق الشح إعادة استعمال ''المياه الرمادية'' التي تتولد على المستوى المنزلي. وهذه هي المياه المبتذلة التي تخرج من بواليع المطبخ وأحواض الاستحمام وغسالات الملابس والصحون. أما المياه المبتذلة التي تخرج من المراحيض فهي ''مياه سوداء".
عندما تعالج المياه الرمادية وتستعمل للري يمكن أن تحقق ثلاثة أهداف: الأمن الغذائي من خلال زراعة المحاصيل، وادخار المياه العذبة والمال الذي ينفق لشراء مياه الري، ووفورات في نفقات تفريغ الحفر الصحية.
منذ العام 1995، يتولى المركز الدولي لبحوث التنمية (IDRC) الذي مقره كندا دعم مشاريع بحوث لمعالجة المياه الرمادية واعادة استعمالها، في فلسطين والأردن ولبنان واليمن وبلدان كثيرة أخرى. وهناك سيل متواصل من تبادل المعلومات بين فرق البحوث الخاصة بهذه المشاريع. ومنذ العام 2002، نفذت الجمعية اللبنانية للتكنولوجيا الملائمة ومركز الشرق الأوسط للتكنولوجيا الملائمة مشروعين لمعالجة المياه الرمادية في لبنان، رافقهما تبادل للخبرة مع الشبكة الاسلامية لادارة وتنمية مصادر المياه في الأردن.
وبصفتي مدير هذين المشروعين، قمت في أيار (مايو) 2008 بجولة ميدانية في الأردن التقيت خلالها فريقي بحوث المياه الرمادية لدى الشبكة الاسلامية ومركز بحوث البيئة التابع للجمعية العلمية الملكية في الأردن. وتبادلت معهما التجارب حول تقنية معالجة المياه الرمادية والفوائد الاجتماعية والاقتصادية التي يجنيها المستفيدون في الأردن.
فوائد اقتصادية وبيئية وصحية
من خلال المقابلات والزيارات الميدانية مع فريق الشبكة الاسلامية، تبين لي أن النظامين اللذين يعتمدهما لمعالجة المياه الرمادية، من نوع ''الحفرة المحصورة'' و''البراميل الأربعة''، هما الأفضل من الناحية التقنية والأكثر موثوقية وقبولاً من المستفيدين. ويعتقد مدير الشبكة الدكتور مراد بينو وخبراؤها أن نظم معالجة المياه الرمادية فعالة في تخفيف حدة الفقر في المناطق التي تشهد شحاً بالمياه في الأردن.
وتعتبر السلطات الأردنية المعنية أن المياه المبتذلة مصدر يجب الاستفادة منه، ولكن لا توجد حتى الآن خطوط توجيهية لاستعمال المياه الرمادية. ومع ذلك، أعدت الشبكة عام 2007 مسودة خطوط توجيهية وهي في مراحل متقدمة للموافقة عليها.
في قرى العمرو الست في محافظة الكرك، حيث ركبت الشبكة الاسلامية 110 وحدات لمعالجة المياه الرمادية، اعتبر المستفيدون هذه النظم ''امتيازاً'' يوفرعليهم استهلاك المياه العذبة ويزيد محصول الزيتون. وتتولى النساء صيانة 75 في المئة من هذه النظم في القرى المذكورة.
في منزل أبوعمر في قرية أبوترابة، حيث تم تركيب نظام لمعالجة المياه الرمادية قبل ثلاث سنوات، أشارت ربة المنزل الى أن أشجار الزيتون الفتية الخمسين التي يمتلكونها تروى بمياه رمادية معالجة، وأن انتاجهم من زيت الزيتون تضاعف. ويولّد كل منزل ما معدله 250 ليتراً من المياه الرمادية في اليوم.
لقد نفذت الشبكة الاسلامية لادارة وتنمية مصادر المياه مشروعي بحوث حول المياه الرمادية في الأردن منذ العام 2000. وتراوح كلفة نظام البراميل الأربعة بين 260 و350 دولاراً لمنزل يضم 5 أو 6 أفراد، فيما تتراوح كلفة نظام الحفرة المحصورة بين 300 و500 دولار لمنزل يضم 10 أفراد. وبلغ معدل العائد للأسرة المستفيدة بين 200 و300 دولار في السنة. ويقدر العمر المتوقع لوحدات المعالجة بعشرسنين. وراوحت نسبة الفائدة الى الكلفة بين 1,76 و2,75، ما يعني أن جميع المنازل كسبت من المشروع.
أظهرت البحوث في الأردن أن الفوائد العامة المؤكدة لاعادة استعمال المياه الرمادية المعالجة على المستوى المنزلي تشمل ما يأتي: خفض استعمال المياه العذبة، ضغط أقل على الحفر الصحية، انخفاض استعمال الطاقة والمواد الكيميائية، نمو أفضل للنباتات وزيادة في المحصول، اعادة تغذية المياه الجوفية. كما حققت مشاريع معالجة المياه الرمادية فوائد اقتصادية أخرى، منها خفض الاستثمار المالي في الحفر الصحية وزيادة قيمة الممتلكات العقارية. أما الفوائد البيئية فأهمها التقليل من خطر تلوث المياه الجوفية، ومنع انتشار الحشرات مثل البعوض المسبب للملاريا.
وأظهرت نتائج البحوث أن اعادة استعمال المياه الرمادية المعالجة في الري لم يسبب مشاكل صحية. والسبب هو أن الشبكة نفذت معايير صارمة تتعلق بالصحة والسلامة، تتماشى مع مقاييس منظمة الصحة العالمية الخاصة باعادة استعمال المياه الرمادية المعالجة في الري المقيد. ومن هذه المعايير: الامتناع عن الري بالرش، عدم ملامسة المياه الرمادية المعالجة بصورة مباشرة، الامتناع عن استعمال المياه الرمادية المعالجة لغسل الملابس والاستحمام، عدم استعمال المياه الرمادية المعالجة بطريقة تؤدي الى تماس مباشر مع خضار أو نباتات تؤكل نيئة، تجنب دخول فضلات الطعام والزيوت والشحوم من مغسلة المطبخ الى نظام معالجة المياه الرمادية، وذلك بتركيب مصفاة مناسبة.
من جهة أخرى، أشارت نتائج المسوح الاجتماعية والاقتصادية للمستفيدين من المشروع الى أن 95 في المئة منهم وافقوا على أن المشروع يخفض عبء العمل في الأسرة. ورأى 82 في المئة أن نظام معالجة المياه الرمادية لا يزيد من الضغوط العائلية. وفي ما يتعلق باستدامة المشروع، اعتبر 95 في المئة من المستفيدين أن نظم معالجة المياه الرمادية ملك شخصي لهم وأن بامكانهم المحافظة عليها في المدى البعيد.
نظام معالجة للمؤسسات
التقيتُ أيضاً الدكتورة نسرين الحمود من مركز بحوث البيئة التابع للجمعية العلمية الملكية، وهي رئيسة فريق مشروع المياه الرمادية الذي يدعمه المركز الدولي لبحوث التنمية في جامعة مؤته بالكرك. ويهدف المشروع الى تطوير وترويج سياسة لادارة المياه الرمادية، يستفيد منها مستهلكون كبار في الأردن مثل الجامعات والمستشفيات ومؤسسات أخرى.
نظام المعالجة الكبير هذا، الذي تبلغ سعته ثمانية أمتار مكعبة في اليوم، يستخدم المياه الرمادية المتولدة من منامة الطالبات في الجامعة. ويتم الحصول على نوعية جيدة من المياه المعالجة التي تستعمل لري نباتات زينية في بيت محمي، ولري أشجار الزيتون في حرم الجامعة. وأظهرت نتائج الفحوص المخبرية أن المياه المعالجة تحتوي على مستويات منخفضة من المواد العضوية المستهلكة للأوكسيجين (BOD) والزيوت والبكتيريا المعوية ''إي كولي'' والمنظفات ومواد أخرى، هي أدنى من متطلبات المقاييس الأردنية الخاصة باستعمال مياه الصرف المعالجة للري المقيد.
ومن شأن نتائج هذه الاختبارات تشجيع أصحاب الفنادق والمستشفيات والأبنية الكبيرة على اعتماد هذا النظام لمعالجة المياه الرمادية واعادة استعمالها.
ان ثروة من الخبرة تتجمع في هذا المجال، ويجب الاستفادة منها للترويج على نطاق واسع لمفهوم اعادة استعمال المياه الرمادية في المناطق الجافة في البلدان العربية.
كادر
تقنيات بسيطة لمعالجة المياه الرمادية
نظام البراميل الأربعة
هناك نظم متعددة لمعالجة المياه الرمادية، لكن نظام البراميل الأربعة هو الأكثر نجاحاً وقبولاً لدى المستفيدين. وهو يتكون من أربعة براميل بلاستيك سعة كل منها 160 الى 220 ليتراً، توضع جنباً الى جنب وتصل بينها أنابيب بلاستيك PVC قطرها 50 مليمتراً. يعمل البرميل الأول كحجرة معالجة مسبقة، والأخير كحجرة تخزين. ويعمل البرميلان الأوسطان كهاضمتين لاهوائيتين، ويمكن ملؤهما بحصى لأداء بيولوجي أفضل.
بعد احتباس الجوامد المترسبة والمواد الطافية في البرميل الأول، تدخل منه المياه الصافية نسبياً الى أسفل البرميل الثاني، ومن ثم تدخل من أعلى البرميل الثاني الى أسفل البرميل الثالث. ويتم الهضم اللاهوائي في النظام، لكن على وجه الخصوص في البرميلين الأوسطين حيث تعمل بكتيريا لاهوائية على تفكيك المواد العضوية في المياه الرمادية. وعندما يمتلئ البرميل الأخير بالمياه الرمادية المعالجة، تشغل عوامة (فواشة) مضخة صغيرة تدفع المياه المعالجة عبر شبكة ري بالتنقيط الى حديقة المنزل حيث تسقي 20 الى 30 شجرة مثمرة وتشكيلة من الخضار والبقول.
تبقى المياه الرمادية نحو يومين في نظام البراميل الأربعة، تتعرض خلالهما لمعالجة تعتبر بين الابتدائية والثانوية، وهي تفي بمواصفات منظمة الصحة العالمية للري المقيَّد الذي يستثني الخضار والنباتات التي تمس أجزاؤها المأكولة مياه الري بشكل مباشر، كما في طريقة الري بالرش.
نظام الحفرة المحصورة
نظام المعالجة في حفرة محصورة هو تعديل لنظام البراميل الأربعة ويستوعب كمية أكبر من المياه الرمادية. يتم تعديل النظام باحلال حفرة سعة ثلاثة أمتار مكعبة مكان البرميلين الأوسطين، وتبطينها بغلاف بلاستيكي (سماكة 400 ميكرون أي 0,4 مليمتر). تملأ الحفرة بالحصى، ويوصل بها البرميلان الأول والأخير. يعمل البرميل الأول كمصفاة للزيوت الطافية والجوامد المترسبة، ويعمل البرميل الأخير كحجرة تخزين تسحب منها المياه المعالجة بواسطة مضخة كهربائية.
نظام المعالجة الكبير في جامعة مؤتة
نظام معالجة المياه الرمادية الذي صممته جامعة مؤتة الأردنية يستوعب 8 أمتار مكعبة من المياه الرمادية، ويتكون من ثلاثة أجزاء: الحفرة الصحية، يليها خزان تنظيم الجريان، تليه مصفاة رملية تعمل بشكل متقطع. وتنساب المياه الرمادية عبر النظام بقوة الجاذبية.
تقنية ملائمة في سلطنة عمان
تدوير مياه الوضوء
لسقي حديقة مسجد
محمد عبدلله العليان (مسقط)
صمم باحثون في جامعة السلطان قابوس في عُمان نظاماً رخيصاً لإعادة تدوير مياه الوضوء لسقي حديقة مسجد. وتعد مياه الوضوء من ''المياه الرمادية''، لأنها لا تختلط بمياه الصرف الصحي التي تعد من ''المياه السوداء".
يمر ماء الوضوء أولاً بطبقة من الرمل لتصفية المواد الصلبة، ثم بطبقة من الكربون المنشط لإزالة الروائح، وبعدها بمضخة كلور لإبادة الجراثيم. وتتجمع المياه المعالجة في خزان أرضي متصلبنظام ري بالمرشات.
لم يكلف المرشح (الفلتر) الذي صممه فريق أبحاث من قسم التربة والمياه والهندسة في الجامعة سوى 390 دولاراً. وهو بذلك أرخص بكثير من أنظمة معالجة المياه الرمادية المستوردة من الدول الصناعية. وبلغت الكلفة الإجمالية للنظام كله 3900 دولار.
وقال المهندس سيف بن سالم العدوي، الذي شارك في ابتكار المرشح المحلي، ان كلفة الصيانة السنوية لا تزيد على 200 دولار، وهي تشمل قشط طبقة من حاجز الرمل بسماكة خمسة سنتيمترات وتغيير الكربون المنشط. وأضاف أن العمر الإفتراضي للمرشح هو عشر سنين.
دعـي نظـام المعالجة الجديد هذا WWW وذلـك اختصاراً لعبارة بالإنكليزية تعني أشغال مياه الوضوء (Wadu Water Works). وهو يعمل حالياً في مسجد حمد بن حمود في السيب، بالقرب من العاصمـة العُمانيـة مسقط. ويعالج زهاء ألف ليتر من المياه يومياً، ويزداد هذا المقدار في أيـام الجمعة وخلال شهر رمضان. وتبلغ سعته الإجمالية أربعة أمتار مكعبة، وهي كافية لاستيعاب زيادة الاستخدام في المستقبل.
ومن المتوقع أن يؤدي انتشار هذا النظام الرخيص في دول الخليج وبقية البلدان الإسلامية الى إحداث طفرة بيئية، لأن هذه المناطق تقع في الحزام الجاف وشبه الجاف وتعاني من شح المياه.
كادر
''مقاشم'' اليمن
ترويها مياه المساجد
اليمن من البلاد التي يتوضأ فيها المسلمون خمس مرات يومياُ استعداداً للصلاة. وفيها يعتمد نموذج فريد للاستفادة من ماء الوضوء الذي كان يهدر عادة، إذ يعاد استعماله في ري الحدائق التراثية. ومن خلال برنامج المبادرة الاقليمية للطلب على المياه (WaDImena) بات المجتمع اليمني قادراً على ري أكثر من 45 حديقة كانت ذاوية في ما مضى.
المشروع الذي بدأ في أيار (مايو) 2006 يهدف الى تشجيع المحافظة على المياه الجوفية في مدينة صنعاء القديمة اعتماداً على ممارسات تقليدية أصيلة لاستغلال مورد مائي بديل. وقد ساعد ذلك أيضاً على تعزيز الأمن الغذائي والتخفيف من حدة الفقر في المدينة.
واستخدام مياه الوضوء في الري لم يكن مألوفاً في العالم الاسلامي. لكن اليمن كانت استثناءً فريداً. وقد بدأت هذه الممارسة بمبادرة الأثرياء اليمنيين الى التبرع بحدائق تراثية تدعى ''مقاشم'' ويقع كل منها بجانب مسجد يمدها بمياه الوضوء. يضخ الماء الى المسجد من إحدى الآبار. ويتولى البستاني المسؤول عن المقشمة تصريف مياه الوضوء الى بركة، ومنها ينساب في قنوات ري الى الحديقة المجاورة. هكذا كانت ادارة مياه الوضوء من مسؤولية البستاني، الذي كان يحصل على الماء مجاناً مقابل الخدمات التي يؤديها للمسجد والجوار.
ولكن منذ سبعينات القرن الماضي تدهور وضع المياه الجوفية في أنحاء اليمن وباتت حصة الفرد من المياه 200 متر مكعب سنوياً، أي دون عتبة الفقر المائي. وعانت الحدائق من جفاف وتلوث بالنفايات، وفقدت غالبيتها دورها التقليدي في إمداد المساجد والمناطق المجاورة بالمياه، مما أدى في أحيان كثيرة الى توترات اجتماعية.
وقد نجح فريق مشروع WaDImena الذي يضم أربع باحثات شابات ومهندسين وطلاباً جامعيين أن يشرك المجموعات المعنية بالحفاظ على المقاشم والمياه، بمن فيهم البستانيون وشيوخ العشائر وسكان الجوار وبلدية صنعاء ووزارة الأوقاف ووزارة المياه والبيئة. وأطلقت حملة توعية حول مشروع ري المقاشم بمياه الوضوء، الذي تم تنفيذه في صنعاء وبات نموذجاً يقتدى به في أنحاء اليمن.
لمزيد من المعلومات يمكن الاتصال بالجمعية اللبنانية للتكنولوجيا الملائمة ومركز الشرق الأوسط للتكنولوجيا الملائمة عبر البريد الالكتروني mectat@mectat.com.lb