يصطفّ عشرات السائقين أمام مطعم ''الأصيل'' في غزة، الذي يبيع مأكولات شعبية كالفلافل والوجبات السريعة، فمقلاته لا تخلو من الزيت صباحاً ومساء.
لقد عمد الاحتلال الاسرائيلي الى ''تقنين'' الوقود المرسل الى قطاع غزة، وقطعه في أحيان كثيرة، منذ انتزعت حركة المقاومة الاسلامية (حماس) السيطرة عليه في حزيران (يونيو) 2007 من السلطة الفلسطينية. فلجأ سكان القطاع الى تصنيع مادة تشبه الديزل، باستخدام كمية كبيرة من الزيت المستهلك بعد القلي، وخلطه بالسولار أو الكيروسين الأبيض الذي يستخدم للمدافىء. وتصلح هذه المادة ''المبتكرة'' وقوداً للسيارات.
مجدي عوض (34 عاماً) سائق أجرة من مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة. انه الآن لا يذهب الى محطات الوقود، بل الى الدكان المجاور لمنزله حيث يبتاع ''غالوناً'' من زيت الطبخ ويسكبه في محرك سيارته بدلاً من البنزين. ويرد على منتقديه الذين يقولون ان هذه الطريقة تضر بمحرك السيارة: ''ليس لدي الا خيار آخر: أن يموت أولادي السبعة من الجوع".
ويضع زميله رياض أبو صالح (53 عاماً) كمامة على أنفه، وهذا منظر بات شائعاً في قطاع غزة. وهو يدرك أن الزيوت المحترقة تطلق غازات مسرطنة وملوثات أخرى قد تؤثر على حياته، إلا أنه يقول: ''هذا هو الحل الوحيد كي لا أضطر الى التسول، فعندي ثمانية أطفال يتعين علي اطعامهم وكسوتهم".
هذه البدعة استقطبت اهتمام وسائل الاعلام العالمية منذ شهر أيار (مايو) الماضي، خصوصاً بعد ارتفاع صيحات الاستغاثة من سكان القطاع الذين يصاب عشرات منهم يومياً بحالات اختناق نتيجة الأجواء العابقة بدخان ''بنزين'' القلي.
وأكد الدكتور مبروك القدرة أن انبعاث الغازات السامة، وخاصة أول أوكسيد الكربون، الناجمة عن استخدام الزيوت غير القابلة للاحتراق الكامل كوقود للسيارات، يؤدي الى زيادة في عدد الحالات المرضية ولا سيما الربو وضيق التنفس ومضاعفات لأصحاب الأمراض المزمنة.
وكان مئات السائقين حولوا محركات سياراتهم لتشغل بالغاز المنزلي، الذي يستخدم للطهي أيضاً، مع بداية انتفاضة الأقصى عام 2000، حيث أنبوبة الغاز أرخص من سعر البنزين. وتصطف عشرات المركبات أمام محطة توزيع الغاز. ويقول رمزي أبو سليمان (44 عاماً) إنه بات يخشى أن تقطع إسرائيل أيضاً إمدادات الغاز المنزلي عن قطاع غزة. ورغم أن خبراء يؤكدون أن هذا الغاز يضر أيضاً بمحركات السيارات، إلا أن خليل حرب، وهو رجل في أواخر الستينات، يقول إن زوجته تعاني من مرض مزمن وهي بحاجة ماسة الى نقلها يومياً الى المشافي، وبالتالي فإن ''صحة زوجتي أهم من صحة سيارتي".
ويعاني كثيرون من الغثيان جراء استنشاق الغازات المنبعثة من تلك المحروقات. ويحذر الأطباء من أن أمراضاً عديدة ستصيب المواطنين الفلسطينيين في المستقبل القريب، خاصة الأطفال والمرضى، نتيجة استنشاقهم الغازات السامة.
ومن المفارقات أن رجال الشرطة يضعون الكمامات خلال تنظيم حركة السير في الشوارع. وفيما يصمّ العالم آذانه عن نداءات الاستغاثة وطلبات رفع ''حصار الوقود''، لم تتخذ أي إجراءات وتدابير لمنع كارثة بيئية وصحية قد تطال 1,5 مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة.
شهر عسل على زيت القلي
ولئن اضطر سكان غزة الى هذا التحويل الممرض والقاتل، ففي أسفل الكرة الأرضية انطلق مهندس اوسترالي وعروسه الانكليزية في أيار (مايو) الماضي برحلة ''شهر عسل صديق للبيئة'' حول اوستراليا، في سيارة تستخدم زيت القلي النباتي المستهلك في مطاعم السمك وقوداً. ويأمل المهندس جيرالد ميمو (36 عاماً) وزوجته ريتشيل (28 عاماً) اجتياز مسافة 30 ألف كيلومتر بهذه السيارة المعدلة لتعمل بالديزل والزيت النباتي، والتي أطلق عليها اسم ''السمكة المتفسخة'' بسبب الرائحة النفاذة للدخان المنبعث منها.
قال ميمو: ''بكبسة على لولب في لوحة القيادة يمكن التحول من الديزل الى الزيت النباتي. حين يكون المحرك بارداً يجب البدء بالديزل، وبمجرد ارتفاع الحرارة يمكن التحول الى الزيت".
قال الزوجان إنهما يأملان تمضية ''شهر عسل خال من الكربون''، بالاعتماد على ما تقدمه المطاعم من زيت قلي لسيارتهما، واستخدام المنتجات التي تتحلل بيولوجياً، والاقامة في مخيمات سياحية، وشراء أطعمة منتجة محلياً، والمساهمة في تمويل أنشطة لزرع الأشجار بما يعادل أي تلوث كربوني يتسببان فيه خلال شهر العسل.
وتسابقت وسائل الاعلام على تغطية هذا الحدث، مصدقة أن سيارة تحرق زيت القلي وتطلق في الأجواء انبعاثات سامة هي سيارة صديقة للبيئة".
كادر
سيارة كهربائية في غزة
اجتذبت سيارة كهربائية فلسطينية التصميم نظرات الاعجاب من سكان غزة، الذين اضطروا الى استعمال زيت القلي لتشغيل سياراتهم بعد تفاقم أزمة نقص الوقود في القطاع. يقول المهندس فايز عنان: ''في البداية ضحك الناس علينا قائلين ان السيارة لن تعمل، والآن يرجوننا أن نحوّل سياراتهم الى الكهرباء".
تعاون عنان مع زميله المهندس الكهربائي وسيم الخزندار، فوصلا محرك السيارة الى 32 بطارية. وهما يؤكدان أن باستطاعتها اجتياز 200 كيلومتر بكل شحنة. قال عنان: ''نقص الوقود والرائحة الكريهة المنبعثة من السيارات العاملة على زيت القلي، واستمرار الحصار، دفعتنا الى المثابرة حتى نجحنا وشغلنا السيارة".
وقد كلفته العملية 2500 دولار، لكنه قال إن كلفة تحويل السيارة الى الطاقة الكهربائية يعتمد على حجمها.