التلوث المزمن الذي يصبغ أجواء مدينة مكسيكو باللون الأصفر، ويدفع الحكومة أحياناً الى اطلاق تحذيرات للسكان كي يلزموا منازلهم، يمكن أن يقضي على حاسة الشم لدى أهل المدينة. فقد أظهرت الاختبارات أن سكان عاصمة المكسيك، التي تكتظ بنحو 20 مليون نسمة و4 ملايين سيارة، يميزون بصعوبة روائح القهوة وعصير البرتقال وأشياء يومية أخرى، بالمقارنة مع مقيمين في منطقة مجاورة.
وقالت الباحثة روبين هدسون التي أجرت الدراسة ان أنوف السكان تضررت كثيراً من استنشاق جزيئات سامة طوال حياتهم، وبات من الصعب عليهم حتى تمييز رائحة الطعام الفاسد. وتضيف هدسون، وهي عالمة أوسترالية تجري أبحاثها في جامعة المكسيك الوطنية المستقلة: ''وضعنا في الحليب المجفف مادة تنبعث منها رائحة تثير الغثيان شبيهـة برائحـة ملفوفـة متعفنـة. وعندئذ فقط بدأوا يظهرون امتعاضاً وتمنعاً عن تناول الحليب''.
مكسيكو هي احدى أكثر العواصم تلوثاً، مثل بيجينغ. فقد ابتليت بهواء خفيف بسبب ارتفاعها الشاهق عن سطح البحر، وبحلقة من الجبال تزنرها وتحتبس الأبخرة والأدخنة التي تنفثها عوادم السيارات ومداخن المصانع على أطرافها.
لقد باتت مستويات التلوث أفضل الآن مما كانت قبل عقدين. ولكن من نافذة في أحد الأبنية العالية، ما زال يصعب في معظم الأيام رؤية القمم التي تكسوها الثلوج من خلال حجاب الضباب الدخاني الكثيف. وتفوق مستويات الأوزون الأرضي في هواء المدينة مقاييس منظمة الصحة العالمية في نحو 300 يوم من السنة.
قارن الباحثون في فريق هدسون قدرات الشم لدى مقيمين في مكسيكو مع مجموعة من ولاية تلاكسكالا الريفية المجاورة، ووجدوا أن الريفيين يستطيعون اكتشاف الملوثات بتركيزات أخف. وهم يجرون الآن اختبارات لمعرفة ما اذا كان التلوث يسبب مزيداً من الضرر الخليوي الخطير في الأنف والعينين.
عندما تدخل الروائح الى الأنف، تمرّ عبر طبقة رقيقة من المخاط حيث تكتشفها خلايا تحسس تبعث برسائل الى الدماغ تعلمه بأن شيئاً ما يطلق رائحة ورد مثلاً. وتقول هدسون ان هذه الخلايا عرضة للتلف نتيجة الملوثات، مضيفة: ''ان مستقبلات الشم مكشوفة جداً، فهي معلقة في المخاط''. وهي تشتبه بأن التلوث قد يؤثر أيضاً على الذوق، نظراً للصلة الوثيقة بين الحاستين.
خسارة الشم هي واحدة من مجموعة مشاكل يسببها الضباب الدخاني في مكسيكو، ما يدفع السلطات المختصة الى اطلاق عدد من التحذيرات سنوياً الى المقيمين لتجنب مزاولة الرياضة أو التسكع في الخارج. ويحذر خبراء الصحة من الاصابة بالتهابات رئوية وربو ونوبات قلبية وأمراض سرطانية. وقد وجدت دراسة أميركية أجريت عام 2007 أن رئات أطفال المدارس في مكسيكو أصغر من المعتاد.
وما يفاقم المشكلة أن المدينة تقع على ارتفاع 2220 متراً عن سطح البحر، في قاع بحيرة جافة تحيط بها الجبال. ويؤدي غلافها الجوي الرقيق وواديها الذي يشبه شكله الفنجان الى تركيز الملوثات في داخلها. وقد عملت سلطات المدينة على ازالة السيارات الشديدة التلويث من الشوارع، لكن مع النمو السكاني ازدادت مشتريات السيارات الجديدة 250 ألفاً كل سنة. وباتت أمراض الحساسية والربو ومشاكل تنفسية أخرى شائعة لدى السكان الذين يضطرون الى كشط السخام عن نوافذهم كل بضعة أيام.
ويشير معهد بلاكسميث للأبحاث في الولايات المتحدة، الذي يعنى بمحاربة التلوث عالمياً، الى أن انخفاضاً بنسبة 10 في المئة في جسيمات الهواء السامة يمكن أن ينقذ حياة 3000 فرد سنوياً ويمنع 10,000 حالة التهاب شعبي مزمن في عاصمة المكسيك.
قال بائع حلوى في شارع مزدحم: ''أنا أعلم أنني أستنشق السم، ولكن ليس في يدي حيلة''.