من نافذة الطائرة، استعداداً للهبوط في مطار تيميمون جنوب غرب الجزائر على بعد نحو 1250 كيلومتراً من العاصمة، تملكني الأسى لرؤية مساحات شاسعة من الواحات وقد مات نخيلها واقفاً وجفت سواقيها وانطمرت تحت الرمل.
ذات يوم كانت هذه الواحات يانعة الخضرة، و''القصور'' عامرة مزدهرة الحركة، والمياه متدفقة صافية بين السواقي. هذا في صورة تركتها معلقة على جدار مكتبي. (القصور في الجزائر عبارة عن مجموعة من المنازل التي بنيت بمواد محلية صلبة، يحيط بها سور عليه برج مراقبة، ويتوسطها قصر تقليدي يسكنه من يحكم المجموعـة. ومع الزمن أصبح يتوسطها المسجد الذي يعتبر مكان الالتقاء وفض النزاعات وتقسيم المساعدات على الفقراء. وبقي هذا النمط سائداً في المناطق الصحراوية المحافظة على نمطها المعيشي).
المنظر أنساني تعب الرحلة، فأسرعت بالاتصال لطلب مرشد يرافقني الى تلك الواحات في الغد الباكر قبل أن تباغتنا الشمس بأول شعاع.
مصدر حياة في الواحات
يتميز الجنوب الغربي الجزائري بتقنية خاصة لجرّ المياه عن طريق أنفاق تدعى فقاقير، وهي أقدم مصدر مائي للسقي ساهم منذ قرون في إنشاء الواحات والقصور في تيميمون عاصمة إقليم قورارة. وهذه أولى مدن ولاية أدرار من حيث السياحة وثانيتها من حيث الأهمية الاقتصادية، حيث يمارس 90 في المئة من السكان النشاط الفلاحي في الواحات القديمة وأراضي الاستصلاح الجديدة.
هذه الواحات والقصور تم تصنيفها وطنياً في أواخر الثمانينات كتراث مادي تتوجب حمايته، ولكن من دون أن يكون لذلك ترجمة على أرض الواقع. أما عالمياً فتعد هذه الواحات التي تنتج نحو 200 صنف من التمر، والقصور ذات الفقاقير المغرقة في آلاف السنين، من أهم المعالم التاريخية الأثرية والسياحية.
لعل لفظة ''فقارة'' بحسب ما هو شائع مشتقة من ''فقرة''، لأن المظهر السطحي للفقارة هو تسلسل الآبار على شكل العمود الفقري، تنساب من المناطق المرتفعة في اتجاه المنحدر الأرضي. نقطة البدء تكون البئر الرئيسية ذات العمق الأكبر والتدفق الأقوى، إلى أن تصل إلى سطح الأرض مستفيدة من قانون الميلان. وعندما يصل الماء إلى السطح يوزع وفق نظام خاص ارتبط أساساً بالمناطق القاحلة والجافة، مما يفسر توسط الفقاقير للعالم القديم، آسيا وأفريقيا. ويعود وجودها في هذه المناطق إلى توافر العوامل التالية: المنخفضات الطوبوغرافية الطبيعية، والعوامل الهيدرولوجية المناسبة، واليد العاملة المتمكنة.
لعبت الفقارة دوراً مهماً في استغلال المياه الجوفية. وساعدت طريقة الري هذه الحضارات على التطور اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وقد اهتدى أهالي هذه المناطق إلى تقنية جر المياه وتصريفها إلى السطح عبر قنوات أفقية تحت سطح الأرض. ويعود تاريخ ظهورها في المنطقة، حسب ما توصلت إليه أبحاث ابن المنطقة حمادي أحمد الحاج، إلى القرن الثاني عشر الميلادي.
وثمة أنظمة ري شبيهة بنظام الفقارة في أفغانستان وتدعى الخيراص، وفي إيران القناة، وفي العراق الكهريز، وفي اليمن الصهريج، وفي جنوب تونس نقولة، وفي المغرب الخطارة، اضافة إلى مصر وبعض أنحاء شبه الجزيرة العربية حيث تدعى فوالج أو شطاطير أو غير ذلك.
تتكون الفقارة من نفق أو قناة أفقية جوفية تحت سطح الأرض يتراوح عرضها من 50 إلى 80 سنتيمتراً، وسلسلة من الآبار الارتوازية حفرت عمودياً للوصول إلى المياه الجوفية السطحية متباعدة بمسافة تتراوح بين 3 أمتار و12 متراً. والآبار ذات عمق متغير وترتبط في ما بينها على مستوى القاعدة بالنفق أو القناة لتوصيل المياه بينها، مع انحدار بسيط يسمح بتدفق المياه عبر النفق ثم خروجها بواسطة ساقية ليتم توزيعها.
ويتراوح طول النفق الكلي لمجموع الفقاقير من مئات الأمتار إلى بضعة كيلومترات. أما فتحة البئر فتكون محاطة بالركام الناتج عن الحفر كي يكون حاجزاً أمام تسرب الرمال.
قواعد تقسيم الماء
أخبرني المرشد الذي رافقني في جولتي، ونحن عند مدخل أحد البساتين الباقية التي تشبه حدائق بغداد، أن الفقارة ملك مشترك، لهذا تتطلب أساليب عملية وقوانين شرعية من أجل ضمان توزيع عادل ودقيق للماء. فهي تعتمد على حساب منسوب الفقارة، ليس فقط بعد انجازها وإنما بعد كل تغيير يحدث في المنسوب الأولي. ويقوم كيّال الماء أو الحاسب، الذي يختاره أهل ''القصر'' نظراً لعلمه ونزاهته، بتحديد نصيب كل بستان من الماء بواسطة أداة حساب تدعى ''الشقفة''، وهي قطعة نحاسية فيها ثقوب مختلفة تجسد وحدة المنسوب.
لماذا تموت الفقاقير؟
دارسو تاريخ الفقارة كتراث عالمي يتفقون على أنه، منذ قرن تقريباً، بدأت الفقاقير بالتناقص عدداً وإنتاجية في العالم. وهذا التناقص زاد خلال العشرية الأخيرة. في الجزائر مثلاً، كان عدد الفقاقير كبيراً بين توات وقورارة وتدكلت في الجنوب الغربي عام 1904. وفي الفترة بين 2000 و2004 سجلت وزارة الموارد المائية ''موت'' 495 فقارة، أي أكثر من 40 في المئة من الشبكة القديمة. وتجدر الاشارة الى أن معظم الفقاقير الميتة هي حيث تكثر عمليات النقب التي تمر في المناطق العمرانية. وتبين خريطة المياه الجوفية أن السبب الرئيسي لذلك يعود الى آبار التنقيب على جوانب الفقارة. وتكشف القياسات التي تم تسجيلها خلال سنوات متتالية الانخفاض الشديد المسجل في المنسوب، ففي عام 1998 كان 23 ليتراً في الثانية، أما عام 2007 فوصل الى 4,5 ليترات في الثانية.
على ضوء المعاينات الميدانية التي قام بها الدكتور رميني بوعلام المتخصص بالري والدكتور محمد بن سعادة المتخصص بأنظمة الري التقليدية، يمكن حصر أسباب تدهور الفقاقير بالآتي:
أولاً، الهبوطات الطبيعية للطبقة المائية: تحتوي المناطق الصحراوية الجافة على خزانات عظيمة من المياه تكونت في العصور الماضية، ولندرة الأمطار فهي غير متجددة. من جهة أخرى، تساهم كثرة المخارج في الطبقة المائية على مستوى الصحراء الشمالية الغربية والشمالية الشرقية في إحداث هبوطات متكررة ومعتبرة في الحوض. على أثر ذلك يلجأ أصحاب الفقارة الى تمديدها لحفر آبار جديدة، كما يلجأون الى تعميق الأنفاق. ومن المعلوم أن البساتين تتوضع على مستوى أدنى من مستوى الفقارة، فعندما يعمق النفق يتوجب تخفيض مستوى البستان لكي تتم عملية السقي. وبتكرار هذه العملية تقترب بعض البساتين من السبخة، أما البعض الآخر فتهمل أراضيه العلوية التي يتعذر سقيها عن طريق الفقارة. هذه الظاهرة تنقص المساحات الزراعية تدريجياً لانحصارها من جهتين: من الجهة السفلى بواسطة السبخة الشديدة الملوحة، ومن الجهة العليا لعدم توفر شروط السقي وتراكم الكثبان الرملية.
ثانياً، العوامل البشرية: تحتاج الفقارة الى أيد عاملة كثيرة ومتمكنة لكي تنفذ الصيانة على أحسن وجوهها، ومن غير الممكن حالياً انجاز فقاقير جديدة وحتى صيانة القديمة لقلة اليد العاملة القادرة على ذلك. ويعود السبب الى عدم توريث الخبرة والحرفة للأجيال الحديثة، وكذلك نزوح اليد العاملة الفلاحية نحو قطاعات أخرى مثل البترول والبناء حيث يتوافر عمل مريح ومعاش مضمون. يضاف الى ذلك زهد الأجور، فعمال الصيانة يعملون ثماني ساعات يومياً وفي ظروف خطرة جداً، بحيث سجلت عدة وفيات نتيجة انهيار أجزاء من الفقارة، وفي مقابل ذلك يقبضون أجوراً متدنية ومن دون ضمان اجتماعي.
تكون الفقارة غير الملبَّسة من الداخل عرضة للانهيارات، خصوصاً في المواضع الرخوة أو على مستوى الآبار. ويعود سبب الانهيار الى تشبع الجدران الداخلية بالماء ثم تفتتها وانجرافها بفعل التيار. وتشكل الانهيارات خطراً على المارة الذين يعبرون المنطقة. وقد أدى غياب المخططات المدروسة للنقل والتعمير الى مزيد من الانهيارات بسبب الضغط على الفقاقير التي لا يتم إصلاحها.
وتؤدي أشغال مد قنوات الصرف الصحي ومياه الشرب قرب الفقارة الى انهيار أجزاء منها بسبب الحفر أو انسداد الأنفاق بالردم. ويتعذر بعد ذلك إصلاح الأنفاق لاختلاط الشبكات. ومن جهة أخرى، قد تتعرض أجزاء الفقاقير التي تمر عبر المناطق السكنية الى تسربات من شبكات الصرف الصحي، ولوحظت هذه الظاهرة في المدن الجنوبية الكبرى مثل تيميمون وأدرار ورقان، بحيث لم يعد ممكناً في هذه المدن استعمال مياه الفقارة للشرب.
وينصح ذوو الاختصاص ألا تقل المسافة بين موقع التنقيب والفقارة عن ثلاثة كيلومترات، في حين يقترح أصحاب الفقاقير عشرة كيلومترات.
مطلوب صيانة مستعجلة
كثيرون هم المهندسون الذين زاروا المنطقة ضمن بعثات دراسية وعاينوا الحالة المزرية التي آلت اليها الفقاقير. وهم يدافعون عن بقائها كمصدر رئيسي لحياة الكثير من أهالي الواحات، نظراً لتعدد أبعادها الاقتصادية كتأمين معيشة نحو 90 في المئة من سكان المنطقة وسقي 7000 نخلة للفقارة الواحدة، وأبعادها السياحية اذ تعتبر بمثابة إرث حضاري وثقافي يعطي طابعاً خاصاً للمنطقة، وأبعادها الاجتماعية المتمثلة في تعزيز الروابط الانسانية بين سكان القصور (التطوع الجماعي المعروف بالتويزة، والعدالة في توزيع المياه).
يُطلق أهالي الواحات اسم ''الفريضة'' على عملية الصيانة نظراً لأهميتها. وهي تتم في فصل الصيف اذ يتفرغ لها معظم الفلاحين. وفي بعض الأحيان يتعذر على الفلاحين القيام بهذه المهمة، فيلجأون الى استئجار عمال.
وحسب الجهات الادارية والفلاحية في المنطقة، تقدر كلفة صيانة كيلومتر من الفقارة بنحو 160 دولاراً في ظرف 10 أيام وبواسطة 4 عمال يبلغ أجر كل منهم 4 دولارات يومياً. وهي تشمل تعميق الأنفاق وبناء الآبار المنهارة وتلبيسها.
وانطلاقاً من الحالة المتدهورة التي آلت اليها الفقاقير بات من المستعجل التفكير في حلول تقنية وإدارية لاحيائها، لأن بانقاذها سينقذ مصير سكان مناطقها، وهم تجمعات استفحلت فيها البطالة حتى سجل أكثر من 14 ألف طلب عمل لدى الوكالة الوطنية لتشغيل الشباب على مستوى ولاية أدرار. هذا من دون حساب الفلاحين الكبار السن الذين لم يبق لديهم سوى قلب الكفين حسرة على خيرات سادت ثم بادت.
ويبقى التنبيه الى أن الانخفاضات الناجمة عن عمليات النقب هي في أحيان كثيرة نتيجة قرارات سياسية ارتجالية لم تراع خصوصيات المنطقة ولا هشاشة الوسط، فكان المتضرر الرئيسي الفلاحون المستعملون للفقاقير. ويتواصل سيناريو الفقاقير المحتضرة والعائلات التي تهجر أراضيها بالآلاف نازحة الى مناطق أخرى زاد الضغط عليها، بانتظار قانون حماية الفقاقير الذي تأخر كثيراً.
يعتقد كثيرون أن التكنولوجيات الحديثة، مثلاً تحلية مياه البحر، هي وحدها القادرة على ربح التحدي في مواجهة الطلب المتزايد على المياه والشح المترافق مع تغير المناخ. وينسون أن أنظمة الري التقليدية كالفقاقير استطاعت لقرون أن تثبت نجاعتها في بيئة كان الجفاف سمتها، حيث حولت الصحارى الى واحات تنبض بالحياة. المفارقة التي تزيد المشكلة في واحات الجزائر هي التوجه الجديد نحو تكثيف الاستصلاح الزراعي وتخصيص أغلفة مالية كبيرة لذلك من دون التفكير في تأمين مصادر مياه. فهل تستمر الحياة بعد موت الفقاقير؟