يتساءل المرء عن مستقبل التنمية المستدامة في الوطن العربي، في ظل محدودية الموارد المتمثلة في أزمات الماء والغذاء والطاقة التي باتت تثقل كاهل قطاع واسع من الشعوب. ويبدو لي أن جوهر المشكلة يكمن في كيفية النظر الى القضايا التنموية، ما يستدعي مراجعة منهجيات الاستدامة في ظل العولمة.
إن مرحلة ما بعد الاستدامة تتطلب تمثلاً للمعرفة البيئية وتجذيرها ضمن الثقافة العربية والروح العربية والعقل العربي، وضمن المؤسسات العربية المختلفة، حتى تصبح فكرة الاستدامة نهج حياة لا مجرد شعار أو وصفة لحل أزمة موقتة. ويمكن تحديد ملامح مرحلة ما بعد الاستدامة في المحاور الآتية:
البعد الاقليمي: في عصر العولمة والتجارة الحرة، هناك فرصة لاعادة النظر في وحدة التحليل الجغرافية بحيث تكون الاقليم العربي وليس الدولة، وذلك للتصدي لقضايا الماء والغذاءوالطاقة بشكل متكامل. قد يبدو هذا حلماً بعيد المنال، لكن هناك مشاريع عملية قيد التنفيذ تؤيد هذا الطرح. ومنها الربط الكهربائي بين الأردن ومصر، والتعاون المائي بين الأردن وسورية، ومشاركة القطاع الخاص في الامارات والسعودية والأردن في مشاريع زراعية في السودان، والاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة في أبوظبي من خلال مشروع ''مصدر'' الذي يمكن أن يستخدم الخبرات العربية (في الأردن مثلاً) في مجال البحث العلمي التطبيقي. ان أهم سمات ما بعد الاستدامة للوطن العربي تتمثل في تفعيل التكامل الاقليمي وربط سياسات الماء والغذاء والطاقة على صعيد الوطن الكبير.
المسؤولية الاجتماعية: تتطلب مرحلة ما بعد الاستدامة فكراً جديداً لدور كل من القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني والشباب في تمثل ثقافة الاستدامة وعيشها. ليس من الممكن لأية دولة التصدي لمشاكل الفقر والبطالة والتعلم من دون اسهام حقيقي من هذه الأطراف الأربعة كلها. ان اقتصار تنفيذ المسؤولية الاجتماعية والبيئية على قطاع الأعمال هو، في رأيي، اغفال لدور المجتمع المدني والشباب في بناء مجتمع مستدام يعيش ضمن امكاناته ويبني مستقبله على بصيرة. وحالة ما بعد الاستدامة تتطلب صياغة عقد اجتماعي جديد في الوطن العربي لتمكين الشباب والمجتمع من تحقيق مبدأ التنمية المرتبطة بالإنسان.
مبدأ المساءلة والشفافية: ان ادارة الاستدامة تتضمن تحقيق التوازن في الأداء الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بشكل يضمن تحقيق الأهداف التنموية للقطاعات كافة. وهذا يتطلب تعميم ثقافة الاستدامة من خلال التعليم والاعلام والبحث العلمي. وكذلك يستدعي تقييم الأداء المؤسسي للقطاعين العام والخاص والمجتمع المدني لضمان المكانة والميزة التنافسية لكل قطاع. ولعل في اعتماد تقارير الاستدامة حسب المعايير الدولية بداية التحول، مع اعتماد مبدأ حقالحصول على المعلومة البيئية لكل مواطن وحق العيش في بيئة صحية.
تطوير التعليم والاعلام: هناك حاجة الى تفعيل البعد الاقليمي ودراسة العلاقات بين الماء والغذاء والطاقة والموارد البشرية. ولا بد من استحداث مناهج للدراسات العليا في مجال العلوم الاقليمية التي تعتمد التحليل الكمي والكيفي والنمذجة الرياضية لقضايا السكان والموارد والتجارة.
التعلم المنشود لمرحلة ما بعد الاستدامة هو الذي يمكن المتعلم من تفكيك المعرفة واعادة بنائها، ومن تحويل المعلومة الى معرفة وحكمة. هو ذاك التعليم الذي يؤكد على الذكاءات المتعددة، ومن ضمنها الذكاء الطبيعي (التعلم من الطبيعة) والادراك الكوني لترابط العوالم المختلفة على أنها ''أمم أمثالنا'' تسبّح للخالق الحكيم المبدع. والاعلام التحولي المطلوب هو الذي يتقن فن نقل الخطاب العلمي، من فيزياء وكيمياء وطب وعلوم أحياء ومناخ وفضاء، الى خطاب في السياسة العامة مع الموازنة بين الخيارات بشكل عادل ومعقول. انه ذلك الاعلام الذي يستطيع نقل النجاحات الصغيرة في الميدان والحقل الى صانع القرار والمصنع، حتى يتم تحقيق تنمية مستدامة وحياة طيبة.
إحياء مؤسسة الوقف البيئي التنموي: عرف المجتمع العربي الاسلامي نظام الوقف منذ أربعة عشر قرناً، حيث كان يمثل قاعدة اقتصادية ومعنوية لبناء مؤسسات المجتمع المدني ودعمها في المجالات العلمية والتعليمية والصحية والخدمية. ومما لا شك فيه أن نظام الوقف ما زال يحمل في داخله عوامل بقائه وامكانية تطوره إذا هُيئت البيئة الممكنة كي يرى النور. والتحدي يكمن في قدرة العقل العربي على بناء مؤسسات المجتمع المدني المعاصر من خلال استلهام الحضارة الاسلامية بحيث يحقق مفهوم التنمية المستدامة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يساهم الوقف البيئي في توفير دعم للزراعة العضوية والصناعات النظيفة والطاقة النظيفة ومشاريع المياه للحد من الفقر، ودعم البحث العلمي، وانشاء مكتبة بيئية عربية وتشجيع الاعلام البيئي وحركة الترجمة الى العربية، وتطوير تشريعات وسياسات بيئية على المستوى الاقليمي.
خلاصة القول، يمكن اختزال فكرة ما بعد الاستدامة بتجسيد فكرة الحكومة المستدامة في الوطن العربي والقيادة المستدامة في النظام العام والخاص والمجتمع المدني وأوساط الشباب.
الدكتور عودة الجيوسي هـو المدير الإقليمي للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) في منطقة غـــرب ووسط آسيا وشمال أفريقيا.