يدخل العالم سنة جديدة وهو يرزح تحت وطأة أزمتين كبيرتين عصفتا به عام 2008: أزمة الغذاء وأزمة أسواق المال والاقتصاد. وقد تم تحميل أسباب أزمة نقص الغذاء للتوسع في إنتاج الوقود الحيوي من محاصيل زراعية مخصصة أصلاً لاطعام الناس. وكان الرئيس الأميركي الغابر جورج بوش قد روّج لانتاج وقود الايثانول من الحبوب وقصب السكر، للتخلص من الاعتماد على استيراد النفط، فقطع لقمة العيش عن أفواه مئات ملايين البشر. ولم تكن أزمة الغذاء قد انتهت حين ضربت العالم أزمة أسواق المال، فانهارت الأسهم ومعها كبريات الشركات، ودخل الاقتصاد العالمي في ركود.
وراء أزمة المال، كما أزمة الغذاء، سبب رئيسي: الإدمان. فبدلاً من وضع سياسات تحد من ''الادمان'' على الوقود وتضمن كفاءة استهلاك الطاقة، تمادى عهد بوش في تشجيع إنتاج السيارات الكبيرة ودعم عادات استهلاكية مسرفة، وصولاً إلى محاولة إشباع الحاجة إلى المزيد من الوقود بتحويل الغذاء وقوداً حيوياً. وتمادى المجتمع الاستهلاكي بالاستدانة فوق طاقته، حتى سقط وأسقط معه اقتصادات العالم. إن معالجة الأزمة الاقتصادية الراهنة بمجرد ضخ مزيد من السيولة في النظام المالي نفسه، مثل معالجة المدمن بإعطائه المزيد من المخدرات والكحول. هذا يشابه معالجة تناقص الموارد الطبيعية بمزيد من الاستغلال والهدر وتسريع وتيرة الانتاج، بدلاً من ترشيد الاستهلاك. والنتيجة مزيد من الادمان وتراكم الديون والكوارث.
الحل قد يأتي من رحم هذه الأزمة الخانقة. فما لم يتم استغلال الركود الاقتصادي لاستنباط حلول تحفظ البيئة وتضمن استدامة استهلاك الموارد، لن يكون بعيداً اليوم الذي ينزل فيه الانهيار الإيكولوجي كالصاعقة. ولا تصدّقوا أولئك الذين اعتادوا اطلاق رسائل الطمأنة أنّ البيئة بألف خير. فهؤلاء أنفسهم هم من كانوا يقولون لكم إن الاقتصاد بألف خير، حتى قبل لحظات من الانهيار العظيم.
قد نكون أمام فرصة تاريخية لدعم التوجه نحو ''الاقتصاد الأخضر''. على الحكومات أن تشترط على أية شركة تطلب الدعم المالي لانقاذها من الافلاس أن تتحول إلى التكنولوجيا النظيفة. وعلى الاستثمارات الجديدة أن تتوجه نحو الخدمات الايكولوجية التي تستخدم موارد أقلّ وتنتج انبعاثات أقلّ.
ما نتحدث عنه بدأ يتحول الى حقيقة. فرؤساء شركات السيارات الأميركية الثلاث الكبرى، الذين جاؤوا إلى واشنطن الشهر الماضي لطلب قروض بالبلايين تحميهم من الافلاس، لم يجدوا وسيلة أكثر جدوى لاقناع الكونغرس والشعب الأميركي بأنهم قرروا تغيير أساليبهم، من استخدام سيارات هجينة صديقة للبيئة للسفر من ديترويت إلى واشنطن. وهم جميعاً وعدوا في خططهم الاصلاحية بالتحول إلى انتاج السيارات الصغيرة المقتصدة في الطاقة والقليلة الانبعاثات. هؤلاء أنفسهم كانوا جاؤوا إلى واشنطن قبل أسبوعين بطائرات خاصة.
حتى رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون، خلال رحلته الاقتصادية المكوكية التي شملت عدداً من الدول العربية الخليجية، تحدث في كل محطة عن الاقتصاد البيئي الجديد، ونجح في الحصول على تعهدات استثمارية بمئات الملايين... للاستثمار في اقتصاد بريطانيا الأخضر.
لعلنا نجد الحلول لتبقى الاستثمارات العربية الخضراء في أرض العرب لخدمة شعوب المنطقة. ولعلّ الركود الاقتصادي يكون دافعاً لاعادة النظر في بعض المشاريع الانمائية العملاقة التي توقفت قسراً على شواطئ العرب. فقد تكون هذه فرصة للتأمّل والتفكُّر واستغلال الوقت الضائع لإجراء دراسات جدية تحدّد ماهية الأثر البيئي.
العالم يتغير ولا يمكن أن نبقى متفرجين. وقد يكون غلاف أحد أعداد مجلة ''نيوزويك'' الأميركية الشهر الماضي الأكثر تعبيراً عن التحوّل، إذ تحدث لأول مرة عن ''الانقاذ الأخضر'' للاقتصاد.
ومن الاشارات اللافتة أن شركة جـنرال إلكتريك أعلنت، في خضم الانهيار الاقتصادي، ارتفاع مداخيلها من المنتجات البيئية والمقتصدة في الطاقة بنسبة 21 في المئة إلى 17 بليون دولار عام 2008.
هناك ضوء أخضر في غيوم العاصفة الاقتصادية السوداء.
|