الأزمة الاقتصادية العالمية كانت الحاضر الأبرز في جميع نقاشات الدورة الخامسة والعشرين للمنتدى الوزاري البيئي العالمي، التي عقدت الشهر الماضي في مقر برنامج الأمم المتحدة للبيئة ''يونيب'' في نيروبي. وقد نجح المدير التنفيذي للبرنامج آخيم شتاينر في تحويل النقاشات من البكاء على أطلال الاقتصاد المتهاوي إلى البحث في خلق فرص عمل جديدة عن طريق تطوير نشاطات صديقة للبيئة ـ من الطاقة المتجددة، إلى تدوير النفايات والانتاج الصناعي الأنظف والسياحة البيئية والزراعة العضوية. وفي حين كان هناك اتفاق على المبدأ، أجمع وزراء البيئة من 140 بلداً على ضرورة مشاركة وزراء المال والحكومات مجتمعة في السياسات البيئية، عن طريق تزويدهم بدراسات الجدوى الاقتصادية، التي تربط بين محدودية الموارد واستدامة التنمية.
الوفود العربية المشاركة في المنتدى نجحت في استصدار قرار وزاري بالاجماع حول غزه، يطلب من برنامج الأمم المتحدة للبيئة إرسال فريق استقصاء على نحو عاجل لاجراء الفحوص والتحاليل، وتقديم تقرير عن الآثار البيئية للاجتياح الاسرائيلي، وتقدير تكاليف معالجة الأضرار على بيئة غزه. وقد اقتضت التسوية التي حصلت بعد مفاوضات حول القرار الاكتفاء بتقدير الأضرار، من دون المطالبة بتعويضات. أما في الشكل، فتم تعديل عبارة ''الاجتياح الاسرائيلي'' إلى ''النزاع في غزه''. لكن القرار يبقى خطوة مهمة، اذ انه يمكن للدول العربية تقديم تقرير لجنة الاستقصاء لاحقاً إلى الأمين العام للأمم المتحدة لاستصدار قرار بالتعويضات من الجمعية العامة.
الزئبق: معاهدة تاريخية
الاتفاق الأهم الذي صدر عن الاجتماع الوزاري كان حول الزئبق. فقد أقر المجتمعون اتفاقاً ملزماً للحد من الأضرار الصحية لهذا المعدن الثقيل الذي يهدد حياة مئات الملايين من البشر. ولم يكن هذا ممكناً لولا الدعم الذي لقيه الاتفاق من الولايات المتحدة الأميركية، بما يعتبر الاشارة الأولى إلى السياسة البيئية العالمية الجديدة لادارة الرئيس أوباما. فقد كانت أميركا المعارض الرئيسي لهذا الاتفاق حتى اليوم، وهي ضغطت في السابق لجعله طوعياً. وشمل الاتفاق دعم قدرات الدول النامية في التعامل السليم مع مخزونات الزئبق لديها، والحد من كميات الزئبق الناجمة عن عمليات التعدين، وتقليل استعماله في المصابيح وموازين قياس الحرارة والصناعات البلاستيكية.
ومن المعروف أن الزئبق يضر بالجهاز العصبي. وتحظر بلدان كثيرة أكل بعض أنواع الأسماك ذات محتويات الزئبق المرتفعة، خاصة للنساء الحوامل. وتوجد في أسوج وحدها 50 ألف بحيرة ملوثة بالزئبق المتسرب من المصانع، بنسب تفوق المعدلات المسموحة عالمياً. لذاتمنع الحوامل هناك من أكل سمك البحيرات كلياً، بينما ينصح لبقية السكان بعدم أكله أكثر من مرة واحدة أسبوعياً. وقد ثبت في السنوات الأخيرة أن الزئبق يضر أيضاً بعمل الغدد اللمفاوية والكبد ويتسبب بضعف النظر وفقدان الذاكرة.
ويذكر أنه من أصل ستة آلاف طن من الزئبق تتسرب إلى البيئة سنوياً، يأتي نحو ألفي طن من حرق الفحم الحجري في محطات توليد الطاقة والمنازل. وبسبب ازدياد اعتماد كثير من الدول الآسيوية على الفحم الحجري، ازدادت كميات الزئبق المتسربة خلال السنوات الأخيرة. لذا حاولت الصين، وهي في طليعة الدول المستخدمة للفحم، التخفيف من شروط الاتفاق.
وقال المدير التنفيذي لـ''يونيب'' آخيم شتاينر: ''هذا الاتفاق هو تتويج لسنوات من العمل الشاق والدراسات العلمية والنقاشات السياسية. لقد قرر الوزراء في اجتماعهم الأخير أن وقت الكلام مضى وجاء وقت القرار لوضع معاهدة ملزمة تحد من التلوث بالزئبق".
مبادرة الاقتصاد الأخضر
استحوذت ''مبادرة الاقتصاد الأخضر'' التي أطلقها برنامج الأمم المتحدة للبيئة على معظم نقاشات المنتدى، فقدم عشرات الوزراء والخبراء مطالعاتهم حول ضرورة الاستثمار في الرعاية البيئية و''تخضير'' الاقتصاد، كواحد من أكثر الأساليب فعالية وجدوى لحفز التقدم العلمي والابتكار، وخلق فرص عمل مستقرة. وكمبادرة متواضعة في هذا الاتجاه، قرر الوزراء زيادة ميزانية برامج ''يونيب'' من 171 إلى 180 مليون دولار، رغم الأزمة الاقتصادية، في حين كان البعض يتخوف من خفضها.
ومن أبرز بنود ''الاقتصاد الأخضر'' دعم البحث العلمي والابتكار في مجالات الطاقة المتجددة وكفاءة الاستهلاك والاستخدام الأنظف للطاقة التقليدية، والاستثمار في الثروة الطبيعية مثل تنمية الغابات والمراعي ومصادر المياه.
وشدد الوزراء على أن تطوير الاقتصاد الأخضر في الدول النامية يتطلب دعم القدراتالتكنولوجية وتطوير المهارات البشرية، بما يستدعي تغييراً في سياسة مساعدات التنمية الدولية، بحيث تتوجه إلى برامج جديدة تحمل مقومات الاستدامة، بدل حصرها في المساعدات ''الخيرية'' الموقتة.
وفي حين حذرت وزيرة البيئة العراقية نرمين عثمان من خطورة تطبيق أفكار عامة في ''تخضير الاقتصاد'' تستند إلى واقع الدول الغنية وحاجاتها، دعت الى تطوير معايير وبرامج تتناسب مع أوضاع الدول النامية وتستجيب لحاجاتها الفعلية. وشددت على ضرورة الدعم الفوري لبرامج الاقتصاد الأخضر في الدول النامية، من النواحي التكنولوجية والمالية والادارية، ''لأن الناس يفتقرون إلى الخدمات الأساسية أصلاً، ولم يصلوا إلى مرحلة رفاهية التفكير بتحويلها من ملوثة الى نظيفة''. وأعطت مثلاً عن توفير الكهرباء لقرى عراقية تفتقدها كلياً، مؤكدة أن ''الحاجة الملحة إلى الطاقة لن تنتظر البحث عن بدائل''، داعية إلى تسريع وتيرة تعميم برامج الاقتصاد الأخضر لتصل إلى الناس بأسرع فرصة وأقل التكاليف.
وقال مندوب لبنان ان جدوى ''الاقتصاد الأخضر'' تعتمد على فرض سياسات وطنية ودولية يلتزم بها الجميع، لتأمين المنافسة العادلة، مشدداً على أهمية إعطاء دور محوري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في هذا المجال، ''خاصة لدعم البحث العلمي والابتكار وتوحيد السياسات''. وقال إن تحول الدول العربية إلى الاقتصاد الأخضر سيؤدي إلى استثمار أفضل للموارد وتنويع مصادر الدخل، مما يجنب المنطقة الهزات المتكررة للانهيار الاقتصادي وتذبذب أسعار النفط، كما يجنبها مواجهة 70 مليون عاطل عن العمل خلال عشر سنين. ودعا إلى الاستثمار في الثروة الطبيعية المتنوعة للمنطقة، بما فيها التنوع البيولوجي والسياحة البيئية، وتكنولوجيات الانتاج الصناعي والزراعي النظيفة، وكفاءة استخدام الطاقة التقليدية والمصادر المتجددة خاصة الرياح والشمس، وتكنولوجيات تحلية المياه، والعمارة الخضراء. وأشار المندوب اللبناني إلى مبادرات رائدة بدأت في المنطقة في طليعتها شركة أبوظبي للطاقة النظيفة (مصدر) وبرامج سياحة المحميات البيئية في الأردن، ومشاريع الطاقة المتجددة في مصر وبرنامج ترشيد استخدام الطاقة في لبنان.
ونوه وزير البيئة الأردني خالد إيراني بمبادرة ''الاقتصاد العربي الأخضر''، التي أعلن عنها المنتدى العربي للبيئة والتنمية خلال الاجتماعات، على أنها ''نموذج للتطبيقات الاقليمية التي تأخذ الواقع المحلي في الاعتبار وتشرك جميع المعنيين، من قطاع خاص ومجتمع أهلي وحكومات".
وقد بحث الوزراء أموراً أخرى من أبرزها الحفاظ على التنوع البيولوجي، في ضوء التسارع الخطير في خسارة الأنواع. كما شكّلوا لجنة عالية المستوى لوضع مقترحات حول تعزيز آلية العمل البيئي الدولي، ودعوا ''يونيب'' إلى مساعدة الدول في تطوير برامج فعالة للادارة المتكاملة للنفايات، وقرروا إنشاء مركز لأبحاث المناخ في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا، لمساعدة افريقيا في دراسة آثار تغيّر المناخ.