دعا المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أخيم شتاينـر وزراء بيئة دول العالم، الذين اجتمعوا في نيروبي الشهر الماضي، الى اتخاذ قرار حاسم لاستبعاد خطر صحي عالمي يهدد حياة مئات الملايين، وتقديم استراتيجية للبدء جدياً في التعامل مع الزئبق المعدني الثقيل ومركباته العالية السمية. وقد حقق المؤتمر اختراقاً تاريخياً بالموافقة على تدابير ملزمة للحد من التلوث بالزئبق.
هنا نص كلمة شتاينـر التي قدمها أثناء المفاوضات:
إن ''الاطار السياسي''، الذي هو نتيجة سبع سنوات من المناقشات المكثفة التي أطلقها ''يونيب''، يمثل التصدي العالمي المنسَّق الأول للتلوث بالزئبق. وهو يشمل خفض الطلب على منتجات وعمليات صناعية، وخفض الانبعاثات الى الغلاف الجوي، والتخزين السليم بيئياً للزئبق، وتنظيف المواقع الملوثة.
لقد تأخرنا كثيراً، مع أن تأثيرات الزئبق على الجهاز العصبي البشري معروفة منذ أكثر من قرن. إن صانع القبعات المجنون في رواية ''أليس في بلاد العجائب'' اكتسب هذه السمعة لأن صانعي القبعات كانوا يستعملون هذا المعدن السائل لتقوية الحواشي، فيتنشقون الأبخرة السامة.
والتقارير المتعلقة بتناول أسماك مثل التونة متواصلة في كثير من البلدان. في السويد، على سبيل المثال، نحو 50 ألف بحيرة تحوي سمك الكراكي الذي تتجاوز مستويات الزئبق في أجسامه الحدود الصحية الدولية. وتنصح النسوة في سن الحمل بعدم أكل أسماك الكراكي والفرخ والبربوط والانكليس مطلقاً.
ووجدت دراسة في الولايات المتحدة أن نحو واحدة من كل 12 أنثى (أي نحو خمسة ملايين مواطنة) يحوي جسمها مستوى من الزئبق يفوق المستوى الذي تعتبره وكالة حماية البيئة الأميركية مأموناً. ومن التأثيرات المحتملة الأخرى ضعف وظيفة الغدة الدرقية والكبد، وحدةالطبع، والرجفة، واضطراب الرؤية، وفقدان الذاكرة وربما مشاكل قلبية وعائية.
وينبه علماء وناشطون بيئيون (خصوصاً منظمةSharkproject الالمانية غير الحكومية) الى سبب آخر للقلق، هو ازدياد استهلاك لحوم أسماك القرش في بعض أجزاء العالم، إذ تشير تقديرات الى أنها تحوي كميات من الزئبق تزيد 40 ضعفاً على الحدود المسموح بها لسلامة الغذاء، وربما أكثر من ذلك بكثير. وقد ازدادت مستويات الزئبق في أجسام الفقم المطوقة وحيتان البلوغا في المحيط المتجمد الشمالي بنحو أربعة أضعاف خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، مع مضاعفات للمجتمعات التي تؤكل فيها ثدييات بحرية.
الخبر السار هو أن أوروبا والولايات المتحدة دعمتا في الشهور الأخيرة فرض حظر على تصدير الزئبق، وحدد الاتحاد الأوروبي موعداً لذلك هو سنة 2011. في هذه الأثناء، وبالتعاون مع ''يونيب''، سلطت حكومات الضوء على مجموعة واسعة من المنتجاتوالعمليات الصناعية، التي كانت في ما مضى تعتمد على الزئبق وأحلت محله الآن بدائل قليلة الكلفة وفعالة وأكثر أماناً. لكن الوضع ما زال غير محسوم لدى بعض الصناعات والاقتصادات.
لذلك يجب إظهار مرونة. فالحكومات لا تستطيع أن تطرق باب الابداع وتشجع مجموعة المنتجات والعمليات الصناعية البديلة القليلة الكلفة الا من خلال تحديد إطار واحد حاسم لمستقبل منخفض الزئبق.
ولعل استخراج الذهب بوسائل بدائية وعلى نطاق صغير حالة خاصة، والضحايا هم من أفقر فقراء العالم. ويقدر ان 10 ملايين منقب عن الذهب وعائلاتهم يقاسون في أماكن تمتد من البرازيل وفنزويلا الى الهند وإندونيسيا وبابوا نيوغينيا وزيمبابوي. وقد وجدت دراسات ان نحو ثلث الأشخاص الذين لا يعملون مباشرة في هذه الصناعة، لكنهم يعيشون في المنطقة، ظهرت عليهم علامات تسمم مزمن بالزئبق. والبديل عن الزئبق في عمليات التنقيب الصغيرة ليس في الواقع بديلاً. انه السيانيد السام.
الحجج الاقتصادية الأوسع نطاقاً هي مقنعة أيضاً. ونقدر أن استبعاد كل كيلوغرام من الزئبق يُحدث فوائد اجتماعية وبيئية وصحية بشرية تصل قيمتها الى 12,500 دولار.
لكن ثمة دلائل على أن التلوث بالزئبق هو في ارتفاع، ويعود السبب جزئياً الى ازدياد حرق الفحم في آسيا. فمن أصل نحو 6000 طن من الزئبق تدخل البيئة سنوياً، يأتي نحو 2000 طن من محطات الطاقة ومواقد الفحم في المنازل. وعندما يدخل هذا السم الغلاف الجوي أو يتسرب الى النظم النهرية، يمكنه الانتقال مئات بل آلاف الكيلومترات.
وفيما تغير المناخ يذيب الجليد القطبي الشمالي، هناك أيضاً مخاوف متزايدة من أن يتسرب الزئبق المحتجز في الجليد والرسوبيات عائداً الى المحيطات والى السلسلة الغذائية. لذلك، ثمة روابط واضحة وايجابية بين القرارات التي يتخذها وزراء البيئة في مجلس ادارة ''يونيب''، وتلك التي ستتخذلاحقاً هذه السنة في الاجتماع الحاسم الذي سيعقد في كوبنهاغن للتوصل الى اتفاقية حول المناخ.
لا يوجد إنسان حالياً يخلو جسمه من بعض التلوث بالزئبق. وتقول منظمة الصحة العالمية إنه لا يوجد حد مأمون لهذا التلوث. لذلك، فان المراوغة والتراخي حيال هذا التحدي العالمي لم يعد خياراً. فنحن مسؤولون تجاه النسوة الحوامل والأطفال الذين لم يولدوا بعد في كل مكان، وتجاه المنقبين على الذهب وعائلاتهم، وتجاه أي شخص يريد عالماً أوفر صحة وأقل تلوثاً.