الذين وضعوا ''إعلان الاستقلال'' و''دستور الولايات المتحدة الأميركية'' كانوا أبناء عصر التنوير. كانوا يدركون قدر القوة التي تنبثق عن الجمع بين عقل الانسان والمعارف العلمية، ويتبينون أن النظام السياسي الذي كانوا يضعون أسسه سيزدهر إن كان في إطار ثقافة تتبنى قيم التنوير. وقد تحقق ازدهار النظام السياسي والاجتماعي لأن الناس والحكومة تبنوا هذه القيم على امتداد القدر الغالب من تاريخ الولايات المتحدة.
لكن الزمن الحديث شهد نسيان قواعد التنوير، وشاعت نظرة التحقير في ما يتصل بالنهج الذي يستخدم فيه العلم في إدارة شؤون الدولة: الرأي المسبق الجامد له الكفة الراجحة على ما تدل اليه البراهين، وأصبح للمعتقد الكفة الراجحة على حقائق العلم. ومن حسن الطالع أن الرئيس باراك أوباما أصدر في 9 آذار (مارس) 2009 إعلانين زفّا إلينا أن الانفصام بين العلم والحكومة انتهى، وأن التلاحم بين العلم والحكم أصبح المطلب.
الاعلان الأول تناول موضوعاً متفرداً ذا توابع سياسية، وهو التمويل الحكومي لبحوث الخلايا الجذعية. وقد استحق هذا الاعلان الاهتمام البالغ، لأنه رفع القيد على انطلاق العلم عبر الآفاق الجديدة. والاعلان الثاني تناول كيان العلم في تكامله وفي أن يكون له ''الاعتبار''. كان لهذا الاعلان المدى الأوسع. ومن كلمات الرئيس: ''لا يقتصر دعم العلم على إتاحة الموارد التي تمول نشاطه، إنما يشمل أيضاً حماية حرية الدراسة وشفافيتها... وأن يكون العلم متحرراً من التأثيرات التي تعمل على توجيه خطاه أو تهدد هذه الخطى، ويشمل أيضاً وجوب الانصات الى ما يقوله لنا العلم، حتى لو سبب لنا الحرج، بل وخاصة عندما يسبب لنا الحرج".
ولم يكن الرئيس، عندما استخدم كلمات ''التأثيرات التي تعمل على توجيه خطاه''، يتكلم من فراغ، إنما كان يشير الى أحداث اختراق للقواعد التي ينبغي على الحكومة أن تلتزم بها إذا كان للعلم أن يؤدي دوره السليم في نصح الحكومة في القضايا المعقدة المتصلة بالصحة العامة وتغير المناخ وحماية البيئة. عندما تهمل الحكومة هذه القواعد فانها تخل بالدور التاريخي للعلم باعتباره أحد ركائز الديموقراطية المستنيرة.
وأصدر الرئيس مذكرة عن ''الاعتبار المستحق للعلم''، وجهت الى رؤساء المصالح والأجهزة الحكومية. كان توجيه الرئيس لهم أن لا يخفوا أو يغيروا في المعارف العلمية والتقنية التي تكون الأساس في وضع السياسات. وطلب كذلك أن تكون المعلومات العلمية التي تنشأ في أجهزة الحكومة أو التي تستخدمها الهيئات الحكومية متاحة للجمهور. ولتكون هذه التوجيهات في موضعها السليم، طلب الرئيس من مكتب سياسة العلوم والتكنولوجيا أن يضع ـ في غضون 120 يوماً ـ توصيات بلوائح يكون القصد منها ''تأكيد الاعتبار للعلم في سائر فروع الأجهزة التنفيذية'' وضمان ''عدم تعرض البيانات العلمية للتحريف أو الإخفاء بقصد خدمة أغراض سياسية".
التوصيات التي طلبها الرئيس لتحفظ هذه الأهداف الطموحة ستضع الكفاءة العلمية في مكانها الصحيح، والاعتبار للجهد العلمي في قلب المبادئ التي تجعل السعي الحكومي قائماً على أسس علمية. على سبيل المثال، يكون اختيار العلماء للوظائف الحكومية على أسس المؤهلات والخبرة العلمية. من ذلك وضع القواعد التي تحسم الرد على حالات العدوان على الاعتبار العلمي أو الغض من قدره، والقواعد التي تحمي أولئك الذين يلفتون النظر الى حالات عدم قبول النصح العلمي وتجاوزه. إن الحاجة الى هذه الاجراءات والقواعد الحاكمة نشأت نتيجة عدة حالات موثقة تعرض فيها الاعتبار العلمي للازدراء، وحالات حيث كانت التعيينات في الوظائف السيادية موصدة في وجه العلماء، وهي وظائف تحتاج الى المعارف والخبرة العلمية، وحالات حبست فيها تقارير علمية عن الكونغرس، بالاضافة الى تعيين أفراد غير مؤهلين علمياً في لجان علمية ترضية لتوجهاتهم السياسية، وحبس تقارير حكومية عن تغير المناخ وانقراض الأنواع.
إن لدى العشيرة العلمية الأميركية الآن فرصة لدعم المبادرة الرئاسية، بأن يبينوا لتلاميذهم وزملائهم ومواطنيهم الأمور ذات الحرج، وأن يكونوا على استعداد لتقديم النصح العلمي للحكومة، سواء بطريق غير رسمي أو عندما يُدعون للخدمة في لجان الأجهزة الحكومية، وأن يدعموا ويشجعوا العلماء الذين يتقدمون لوظائف دائمة في الحكومة أو يُندبون لمهام موقتة.
لقد اتخذ الرئيس أوباما خطوة كبيرة تدعو الى الأمل في أن يستعيد العلم مكانته في النسيج الاجتماعي، وأن يستعيد المجتمع التوازن الصحي بين العلم والحكومة. ينبغي علينا جميعاً أن نقدم العون والدعم لهذا الجهد التنويري الذي دشنه.
|