كنت، خلال سنوات تجنيدي في القوات المسلحة المصرية من 1970 إلى 1974، حكمداراً (قائداً) لفصيلة استطلاع كيميائي مهمتها تأمين قيادة إحدى فرق المجهود الحربي الرئيسية ضد «ضربات الغاز». وكنا نعلم أن لدى العدو الإسرائيلي مخزوناً ضخماً من الغازات الحربية (غازات أعصاب، ودم، وكاوية، ومهلوسة)، وأنه مستعد لاستخدامها في أي وقت إن تأزم موقفه. وكنا ندرب جنود الفرقة على التأهب لهذه الضربات، بالاتفاق على صوت رتَّالة (أداة تشبه الصفارة) حاد جداً، ما إن يسمعوه أينما كانوا حتى يسارعوا بارتداء الأقنعة الواقية. وكان همنا تقصير زمن الاستجابة إلى أدنى حد ممكن.
وقد فوجئتُ بذاكرتي تسترجع صوت الرتالة فيتردد في أذنيَّ، وأنا أتابع أمام شاشة التلفزيون ضربة الغاز التي وجهها أفراد من قوات الأمن المصرية، بكثافة غير مبررة، إلى شباب ثورة 25 كانون الثاني (يناير). وقد نالت هذه «الحرب الكيماوية»، التي شهد ميدان التحرير في قلب القاهرة وقائعها، من مئات من هؤلاء الشباب، الذين تأذوا بالغازات بدرجات متفاوتة، فحرّقت أجفان عيونهم وأهاجت مسالك الهواء في صدورهم. ولم تكن هناك «رتالة» تحذرهم، ولا أقنعة واقية تحميهم. ولكني أطلق رتالتي الآن، وثمة نداءات كثيرة إلى المجتمع الدولي، بأن يسعى لإضافة الغازات المسيلة للدموع وشبيهاتها إلى قائمة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية التي تحظرها معاهدة جنيف.
استخدمت الغازات المهيجة للأغشية المخاطية والمسيلة للدموع في مواجهة أعمال الشغب وتفريق التظاهرات في دول كثيرة على مدى نحو نصف قرن. إلا أنها كانت معروفة قبل الحرب العالمية الأولى، واستخدمت فيها قبل استخدام الغازات الحربية مثل الكلور والفوسيجين والخردل.
وكانت الولايات المتحدة عملت جاهدة على استبعاد الغازات المسيلة للدموع من اتفاقية جنيف للعام 1925، التي تحظر استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. ونجحت في ذلك، كأنها كانت تتحسب لما اقترفته بحق الشعب الفيتنامي. فقد استخدمت هذه الغازات على نطاق واسع في مطاردة عناصر المقاومة الفيتنامية في الأنفاق الأرضية، التي كانوا يلجأون إليها بعد توجيه ضرباتهم إلى القوات الأميركية. كما استخدم الأميركيون مبيد الأعشاب السيئ السمعة المعروف باسم «العامل البرتقالي»، في تدمير مساحات شاسعة من الغابات والزراعات الفيتنامية. ويبدو أن بشاعة هذه الممارسات كانت الدافع وراء اقتصار استخدام الجيش الأميركي لهذه الغازات على عمليات محددة يصدر بشأنها أمر رئاسي.
وغاز الدموعCS هو الأشهر والأوسع استخداماً بين مجموعة من الغازات المهيجة للعين والجلد والأغشية المخاطية في الجهاز التنفسي، يشار إليها بحروف مختصرة، مثل CN وCNC وCA و CR وCNB وPS. أما الـ CS فهو مركب كيميائي إسمه «أورثو ـ كلوروبنزايليدين مالونونيترايل»، وكان أول من صنعه في المختبر كيميائيان أمريكيان هما كورسون و ستوتون، وقد أخذ اسمه المختصر من أول حرفين في إسميهما. وهو عبارة عن مادة صلبة متبلرة، ذات ضغط بخاري منخفض، شحيحة الذوبان في الماء، ولها رائحة طحين الفلفل الحار النفاذة التي تسبب أعراض التهيج.
والحقيقة أن مادة الكلوروأسيتوفينون (CN) كانت قد أنتجت واستخدمت من قبل كمهيج غازي للجهاز التنفسي. ولكن أزاحها CS الذي يفوقها تأثيراً بمقدار عشرة أضعاف، كما أنه أقل سمية منها. ومنذ بداية ستينات القرن العشرين، خلت ساحات المعارك وميادين الشغب والتظاهرات الجماهيرية للغاز CS. أما CN فيجري تداولها بلا قيود في صورة عبوات رذاذ للدفاع عن الذات.
وقد شهد العام 1962 تخليق مركَّب جديد، هو «داي بنـز ـ1 ـ4ـ أوكسازيباين» المعروف بالحرفين CR واستخدامه كغاز مسيل للدموع. وهو أكثر فعالية من CS وأقل سمية، إذ لا يلحق ضرراً شديداً بالجهاز التنفسي، وذلك لانخفاض خاصية تطايره. أما المركَّب الذي شاع باسم «رذاذ الفلفل»، واسمه المختصر هو OC، فمتوفر في السوق كمحلول بتركيز 1%، أما تركيز 10% فيعمل على زيادة إفراز أحد المركبات المكونة من الأحماض الأمينية في الجهاز العصبي، مسبباً آلاماً والتهابات.
درجات التحمل
لم يستقر العلماء حتى الآن على تصور الكيفية التي يُلحق بها غاز CS الأذى بمن يتعرض له، وإن كان يُظن أنه يعمل على تعطيل بعض الإنزيمات المهمة في الجسم. وقد ظهرت مؤخراً نتائجُ أبحاثٍ تقول بأن هذه الغازات تُنشِّط بدرجة كبيرة مستقبلات الإحساس بالضغوط العصبية. ويشبِّه بعضُ الخبراء حال من يحيط به هذا الغاز كأنه في «حمَّــام مغربي» من دقائق مجهرية من مادة CS،معلقة في الهواء (إيروسول)، تشتبك بالأغشية المخاطية الرطبة والجلد المبلل.
والعين هي أكثر أعضاء الجسم حساسية لهذا الغاز، إذ يصيبها بالإدماع، ويلهب جفنيها، ويسبب مشاكل في الإبصار. ويصاب من يدخل هذا «الحمّام» الخانق بالسعال والصداع الحاد والدوار وضيق التنفس، مع زيادة في إفراز اللعاب والإفرازات المخاطية. وتبدأ هذه الأعراضُ في الظهور في مدى 5 ثوان إلى 60 ثانية. فإن كان التعرض للغاز قد وقع في الهواء الطلق، زالت الأعراض في معظمها خلال فترة تتراوح بين 10 دقائق و30 دقيقة من الإصابة، مع تخليص المصاب من ملابسه التي لوثها الغاز. فإن بقي المصاب في المنطقة الملوثة لزمن أطول، اشتدت حدة التهيج. وقد ثبت من التجارب أن الضرر البيِّن يحدث للأفراد العاديين عند التعرض لتركيزات من CS تتراوح بين 3 و5 مليغرامات في المتر المكعب من الهواء، قبل أن يسارعوا بمغادرة المنطقة.
ويرد نفر من علماء الكيمياء الحيوية تأثير CS إلى تسببه في إطلاق مركبات تسمى «براديكينينات» في أنسجة الجسم التي تتعرض له، فينتج عن ذلك شعور بالألم وتورمُ هذه الأنسجة (ارتشاح خليوي)، مع تسرب سوائل عبر جدران الأوعية الدموية الصغيرة. وقد لوحظ أن المعتادين على تعاطي الكحوليات والعقاقير المخدرة لا يتأثرون بالـCS،لقدرتهم على عدم الإحساس بالألم. كما أثبتت التجارب إمكانية أن يكتسب أفراد عاديون قدرة أعلى على تحمل هذا الغاز، فقد تم تعريض عدد من المتطوعين لتركيزات بدأت بـ 0,43 مليغرام في المتر المكعب، ثم تزايدت ببطء وعلى مدى ساعة إلى 2 مليغرام في المتر المكعب. وقد تمكن المتطوعون، الذين نجحوا في تحمل التأثيرات الابتدائية، من الصمود في مواجهة التركيزات الأعلى، وكان بعضهم يتسلى بلعب الورق (الشدة) أثناء إجراء التجربة، وحاول اثنان منهم القراءة .
كيف يُـطلق الغاز؟
قد يتصاعد تأثير التعرض للغازات المسيلة للدموع وصولاً إلى الوفاة، نتيجة مضاعفات لحقت بالرئتين، ونتيجة للاختناق. وقد حدثت حالات وفاة من هذا النوع في أحداث تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 في ميدان التحرير بالقاهرة، بينها حالة لطبيبة أصيبت بالاختناق أثناء قيامها بالعمل على إنقاذ المصابين في المستشفى الميداني. كما أن ثمة حالة لطفل رضيع أشرف على الموت عندما تعرض عن طريق الخطأ لرذاذ الفلفل (OC)، فأصيب بتوقف التنفس وتم إسعافه بإجراءات عاجلة مكثفة.
في أي حال، وعلى رغم عدم خضوع هذه الغازات لمعاهدة جنيف واتساع نطاق القبول بها كأداة أمنية، فليس ثمة اتفاق على وسائل إطلاقها، كما تختلف الجهات الأمنية حول كيفية تقدير تركيزات المادة الكيميائية الفعالة. فيستخدم البعض معادلات وصيغاً حسابية، بينما يعتمد البعض الآخر على التقدير التقريبي، الذي يأخذ في اعتباره الملابسات العامة للواقعة التي يجري التعامل معها.
وتختلف تلك الجهات الأمنية التي تقوم بتنفيذ «ضربات الغاز» حول أسلوب توجيه الضربة، فيتبع بعضها أسلوب «أطلق بقسوة وكثافة»، وفيه يتم إطلاق الغاز بسرعة وبتركيز يكفي لتلويث موقع اعتصام أو تجمع، لضمان إلحاق حالة من الارتباك والعجز بالمتجمهرين. ويوفر هذا الأسلوب لعناصر الأمن ميزة الحد من قدرة العنصر المتمرد على استرداد حالته الطبيعية أو الإتيان بأي تصرف أو اتخاذ أي موقف دفاعي، كما يتميز بعدم الحاجة إلى مزيد من عمليات الإطلاق. وعيب هذا الأسلوب هو تلويث الملكيات الخاصة بالغاز الكثيف، وقد يدخل في نطاق تأثيره أفراد غير مقصودين. وهذه أمور قد تجــرُّ إلى مساءلات قضائية.
أما الأسلوب الثاني في توجيه ضربات الغاز فهو «الضرب المفرط»، حيث تطلق مقذوفات الغاز بلا حساب، وبلا توقف، على نحو ما رأينا في «موقعة محمد محمود»، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، فلا يكون ثمة مفر أمام من يتعرض للغاز إلا أن يستسلم، قبل أن يجد نفسه غارقاً في مستويات أعلى من الـCS.