ستة أشخاص اجتازوا على الأقدام مسافة 440 كيلومتراً في دروب جبلية متواصلة من شمال لبنان الى جنوبه، مروراً بأكثر من 75 بلدة وقرية ومحميات طبيعية ومواقع أثرية، في رحلة أولى من نوعها نظمتها جمعية درب الجبل اللبناني خلال شهر نيسان (أبريل) 2009
ليز ـ لوت بيترسن سولوكدجيان (بيروت)
كنا فرحين مثل البطل الأسطوري ''أوليس'' المنطلق في رحلة شائقة. فأمامنا تجربة ممتعة بكل ما للكلمة من معنى، من ناحية الطبيعة والطقس والعلاقات الانسانية والصداقات. ولدى كل منا، نحن الستة، سبب وجيه للمشاركة.
لم أكن أجهل تلك الدروب، بفضل مشاركتي في التحضيرات واجتيازي ثلاثة أرباع المسافة عام 2007. أردت أن أبرهن أن امرأة في مثل سني المتقدمة تستطيع تحمّل رحلة كهذه: شهر كامل مشياً على دروب جبال لبنان مسافة 440 كيلومتراً من شماله الى جنوبه. كما كنت بحاجة الى شيء من السكينة الداخلية بعد موت ابنتي.
في البداية، ولنجاح هذه المغامرة، كان لا بد من جو من الهدوء والتسامح والاحترام المتبادل كي يعتاد كلّ منا على الآخرين. وقد توجت جهودنا بصداقة متينة تطوّرت مع مرور الأيام.
ها نحن جاهزون للانطلاق من بلدة القبيات في الشمال صباح 2 نيسان (أبريل). في تلك البراري، على ارتفاع 700 متر، بدأ لقاؤنا مع الأزهار والأشجار والآثار، ومع العنصر الأساسي للسائر في الطبيعة: الماء. كان يتدفق من النبع بارداً نقياً هادئاً مثل أغنية صباحية، فانتهزنا الفرصة لملء قواريرنا. وكان النبع التالي على ارتفاع 1317 متراً، مياهه أشد برودة وصخباً، كفرقة موسيقية كاملة مع طبل وصنوج!
عند المساء، وصلنا الى بيت الضيافة في تاشع. حمام منعش، وعشاء لذيذ، وسهرة ممتعة مع أصحاب البيت. وقبل الخلود الى النوم، قليل من الكتابة وكثير من الذكريات عن أول ''بلد'' اجتزناه. وما زال أمامنا 24 ''بلداً''. نعم، لأننا زرنا في شهر واحد 25 بلداً. أنا أعني طبعاً 25 منطقة، ولكن، كان الاحساس أشبه باجتياز حدود جديدة مع كل صباح، لأن الطبيعة كانت تختلف مع اختلاف المناطق.
لبنان صغير في مساحته، لكنه كبير جداً في تنوعه البيولوجي ومناظره الطبيعية. كل واد مختلف عن الآخر، وفي كل واحد تجد آثاراً لعصور مختلفة. مرّت على هذا البلد شعوب وثقافات عديدة، وما زالت، وكلّ يترك بصمته.
كلما ازداد الارتفاع تغيرت النباتات طبيعياً، فحلّت مكان الصنوبر أشجار التنوب أو البلوط أو العرعر أو الأرز، ومن ثم اختفت الأشجار تاركة الساحة لوسائد من الزهور الصغيرة.
سيمفونيات الطبيعة
يمتد ''درب الجبل اللبناني'' في معظمه على ارتفاع يراوح بين 1200 و1500 متر عن سطح البحر، لكنه يصل أحياناً الى مستويات أعلى كثيراً. وقد رُسم قبل سنتين واصلاً الدروب القديمة التي كان يسلكها أهالي الجبال مشياً أو على الدواب. وذلك بهدف ثقافي وإنمائي، كي يتعرف اللبنانيون والسياح الذين يسلكونه الى الطبيعة الجبلية والتراث الجبلي، ومن أجل إحياء القرى المنسية القليلة السكان. في كل يوم كنا نصطحب الدليل المحلي، أحد أولئك الشباب الذين تم تدريبهم لتعريف الزوار على المنطقة وخفاياها وسماع الطرائف والأساطير التي تناقلها السكان من جيل الى جيل.
الأنواع النباتية ليست الوحيدة التي كانت تتغير من واد الى آخر، إنما العادات والأديان والأزياء والغذاء أيضاً. لذلك كان علينا مراعاة هذا الاختلاف من حيث ملابسنا وسلوكنا. وفي نهاية كل أسبوع، كانت تنضم الينا مجموعات مشاة من ''حبيسي المكاتب'' الزاحفين من المدن والتوّاقين الى الحـرية والهواء الطـلق، فيزداد عدد الأصدقاء.
من الناحية الصحية، شخصان فقط انزعجا في بداية الرحلة لمدة يوم أو اثنين، بفعل التحضيرات المرهقة على الأرجح. ولم نواجه أي مشكلة في الطعام المحلي الذي كنا نتناوله في بيوت الضيافة المتناثرة على تلك الدروب، بل كنا نستمتع بتلك الوجبات التي يحضرهـا السكان المحليون. أما الحادث الوحيد الذي تعرضتُ له فكان سقوطي من مكان مرتفع وتدحرجي على التراب والحجارة في اليوم العاشر. لكن ملاكاً حماني واستعطت المتابعة، ويبدو أن هذا الملاك يرافقني أينما ذهبت منذ فارقنا على هذه الأرض.
كنا نكتشف كل يوم أشياء جديدة، ونتعرف على أناس يعملون في الحقول ورعاة يقودون قطعان الماعز. وكانوا يظهرون سروراً في الاجابة عن أسئلتنا وسرد الحكايا ودلّنا على الطريق. الراعي ليس مستعجلاً ولا مرهقاً، إنه يراقب الماعز ويكلمها بلغة تفهمها هي وحدها، ويرمي حجراً من وقت الى آخر لتجميع القطيع إذا تباطأت الكلاب أو نامت. ولا تزعجك الكلاب إذا عرفت كيف تلزم حدَّك، بل تقوم بواجبها وهو حماية القطيع.
المؤسف أننا، بسبب الصيادين، لم نلتقِ بحيوانات غير الكلاب والماعز والقطط والدجاج والحمير والبغال. الطيور المسكينة هي المغيَّب الأكبر، فقد رأينا خرطوش صيد على الأرض أكثر مما رأينا من أجنحة طائرة في السماء. ولقد لاحظت، خلال رحلات المشي التي شاركت فيها على مر السنين، أن الأشخاص الذين يميزون أصوات أصدقائنا الطيور هم في غالب الأحيان صيادون تائبون.
ولئن كان القليل من الغناء يأتي من السماء، فقد أتانا الكثير من الأرض. موسيقى الماء سيمفونيات ترواح بين الرقة والتصعيد. وما أكثر الينابيع التي تتفجر مياهها من بين الصخور وتجري لتسقي البساتين، أو تكمل مجراها الطبيعي لتصب في البحر محدثة حيّزاً من المياه القليلة الملوحة تعشقه أنواع من الأسماك.
وسط العاصفة
شهرا نيسان (أبريل) وأيار (مايو) في الربيع، وشهرا تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) في الخريف، هي الأكثر متعة للمشي على دروب لبنان. ففي الربيع، يُظهر نقاء الهواء روعة ألوان الأزهار والصخور، وتضفي الثلوج الذائبة على سفوح الجبال تضاريس فنية تحلو للعين وللكاميرا. وفي الخريف، يتجدد نقاء الهواء بعد أول هطول للأمطار، ونجد الثمار على الأشجار والشجيرات في كل مكان. وبفضل الثلوج المتأخرة هذا الربيع، تمكنا من مشاهدة روائع موسمية في الطبيعة الجبلية.
الأيام الثلاثة الأولى من مسيرتنا في كنف هذه ''البودرة'' البيضاء تحت سماء صافية كانت مثل عالم الخيال. لكن الروعة تلاشت مع اقتراب عاصفة شديدة حولت هذه البودرة الى ماء حوّل بدوره التراب وحلاً. وكل من يمشي على الدروب يعرف معنى ذلك: كيلوغـرام إضافي من الوحل في أسفل كل قدم، وأحذية وجوارب مبللة لغير المجهّزين جيداً. لقد واجهنا أوقاتاً صعبة في العاصفة التي تركتنا مبللين حتى العظام وسط ضباب كثيف.
ولم يكن هذا الوضع ساراً لأصحاب دار الضيافة تلك الليلة، إذ رأوا ستة أزواج من الأحذية في حالة يرثى لها. لكننا، مثل كل صباح، استيقظنا وقد جفت أقدامنا وأحذيتنا، وأكملنـا مسيرتنا بعد تناول فطور شهي.
آخر المراحل كانت حاصبيا ـ مرجعيون، وأعتقد أنها كانت الأكثر حزناً، لأننا كنـا ندرك أن لحظة الفـراق حانت بعد شهر كامل من الحياة المشتركة، وأن علينا العـودة الى الحياة اليومية بعد رحلة ممتعة.
من حسن الحظ أن رحلات مقبلة في الطبيعة سوف تصالحنا مع أنفسنا من جديد. وستبقى لدينا جميعاً ذكريات مؤثرة عن تجربة رائعة وصداقة مميزة لا تنشأ الا بالمغامرة.
ليز ـ لوت بيترسن سولوكدجيان دانماركية متزوجة من لبناني ومتمرسة في سلوك الدروب الجبلية.
الصور: كريستيان أخرس
لمزيد من المعلومات عن ''درب الجبل اللبناني'' وسبل سلوك مراحله الـ26، كلياً أو جزئياً، يمكن زيارة الموقع الالكتروني:
www.lebanontrail.org
كادر
الطبيعة في جبال لبنان مذهلة. مع كل منعطف يتغير المشهد، فتلوح أمام ناظريك أودية مهيبة وجبال مكللة بالثلوج وجداول رقراقة وأنهار وشلالات دافقة. عبرنا غابات من الصنوبر والعرعر والأرز والسنديان، وحقولاً مترامية ارتدت حللاً مزركشة من الأزهار البرية.
ليس المشهد الطبيعي وحده الذي يتغير، بل الطقس أيضاً. شهدنا يومين ماطرين باردين، حجب الضباب خلالهما الرؤية تماماً. وكم ارتحت لوجود دليل محلي معنا يعرف الطريق. وشهدنا أياماً كانت السماء خلالها زرقاء صافية والشمس ساطعة ونحن نعبر الثلوج. كما مرت علينا أيام حارة في الجنوب.
يسألني كثيرون عن أجمل جزء من تلك الدرب، وهذا سؤال لا أجد له جواباً. ولكن، بالطبع، المشي عبر الثلوج في الجبال تحت شمس ساطعة تجربة نادرة لشخص هولندي، ولكن كانت هناك تجارب رائعة أخرى لا تحصى.
ويم بالفرت
هولندي، جاء الى لبنان خصيصاً للمشاركة في الرحلة
كادر
استغرقت الرحلة 30 يوماً مشياً على درب الجبل اللبناني. وكانت لها عدة أهداف، منها تعريف الجمهور على الدرب، وتجربة بيوت الضيافة المنتشرة عليها والتي تقدم خدمات المبيت والطعام، وإزالة العوائق من بعض أجزائها، والتوقيع على عريضة لحمايتها، ومساعدة الأدلاء المحليين على تحسين أدائهم أثناء السير مع مجموعات.
إنها للمرة الأولى التي يسير شخص أو مجموعة على كامل درب الجبل اللبناني لمدة 30 يوماً متتالية. اجتزنا 440 كيلومتراً على ارتفاع راوح بين 600 و2100 متر فوق سطح البحر، ومررنا بأكثر من 75 قرية، ونمنا في بيوت 30 عائلة أكلنا معهم وشاركناهم في حياتهم. والتقينا مئات الأشخاص في طريقنا، لم يصدق معظمهم أننا نعبر جبال لبنان من الشمال الى الجنوب. كثيرون دعونا الى الاستراحة وتناول المرطبات أو الطعام في بيوتهم، وطرحوا أسئلة حول ما صادفناه في طريقنا: هل هاجمتكم حيوانات برية؟ هل أوقفكم أحد في الجبال؟ ألن تتعبوا من السير كل يوم طوال 30 يوماً؟
كريستيان أخرس
لبناني، قائد المجموعة