من أهم المشكلات البيئية التي يعاني منها العالم العربي ضعف إدارة البيئة. وتكمن صعوبة تطوير إدارة البيئة في كونه جزءاً من تطوير إدارة الدولة، التي تعاني في معظم البلدان العربية من غياب الرؤية الثاقبة والديموقراطية الحقيقية، وضعف الشفافية وتفشي الفساد، وبيروقراطية الجهات الحكومية وتدني كفاءة المسؤولين في إدارة المؤسسات، وعدم تفعيل القوانين والتشريعات النافذة. وقد تسبب ذلك في إضعاف الحس الوطني وإبطاء وتيرة الإصلاحات والإنماء الاقتصادي والاجتماعي وانتشار ثقافة الاستهلاك المفرط في بعض الدول العربية، وفي تعميق الفقر وتردي أوضاع البيئة في دول أخرى.
أما في حال توفر الارادة السياسية لتطوير إدارة البيئة، فلا بد من تناول جميع الجوانب المتعلقة بعملية التطوير والاصلاح. ومن أهم هذه الجوانب:
منهج الادارة المتكاملة: من المهم اتباع منهج الادارة المتكاملة لمنطقة التجميع الواحدة (Catchment Area) التي على ضوء معرفة خصائص الأنظمة البيئية فيها يتم تحديد الضوابط والمحددات. وعلى سبيل المثال، يتم اختيار مواقع المصانع ومكبات النفايات ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي في الأماكن الأقل حساسية بيئية.
التشريعات: ينبغي سن التشريعات الملائمة والقابلة للتطبيق. ويلاحظ في كثير من المدن العربية توفر تشريعات غير ملائمة (ناقصة أحياناً أو عامة جداً أو متشددة غير واقعية)، وأحياناً تتوفر تشريعات ملائمة ولكن يصاحبها ضعف في آليات الرقابة للتأكد من الالتزام بها. ولا بد من الإشارة هنا إلى أهمية تجنب النقل الأعمى للتشريعات (وخصوصاً من الدول المتقدمة) ومحاولة تطبيقها في المدن العربية من دون أخذ الظروف والأوضاع والتجارب المحلية بعين الاعتبار. ومن المهم أيضاً الحد من تشتت المسؤوليات الرقابية بين الجهات المعنية في المدن العربية (البلدية، وزارة البيئة، وزارة الصحة، وزارة المياه) وحصر المسؤولية في جهة رقابية واحدة مستقلة. إضافة إلى ذلك، يجب مراعاة التوجه الحديث في التشريعات، بعدم اقتصارها على العقوبات، وتضمينها حزمة من الأدوات الاقتصادية (كالحوافز المالية والضرائب والرسوم).
بناء نظام المعلومات: من الجوانب الهامة بناء نظام معلومات حول البيئة كجزء من نظام المعلومات في المدينة. ويتطلب ذلك تحديد البيانات المطلوبة وطريقة الحصول عليها، وتبويبها وخزنها في الكومبيوتر، وتحليلها لاستخلاص مؤشرات الأداء، وجعلها متاحة لأصحاب القرار والفنيين ولتوظيفها عند إعداد التصاميم الفنية وتشغيل المرافق وإجراء الصيانة. ومن المواضيع المكملة لنظام المعلومات تحديد مواضيع البحث العلمي وتنفيذها. وفي إمكان الجامعات العربية تأدية دور مهم في هذا المجال، إلا أنه ـ لأسباب متعددة ـ يلاحظ ضعف مساهمة الجامعات في المدن العربية في حل مشكلات البيئة المحلية، وتركيزها على الدراسة الأكاديمية وابتعادها عن الأبحاث التطبيقية.
الأنظمة المالية: يتعلق هذا الجانب بإعداد وتبني حزمة من الأنظمة المالية السليمة عند تنفيذ المشاريع البيئية. إن ذلك يتضمن تمحيص التكاليف، والابتعاد عن المغالاة والتحفظ الشديد عند إجراء التصاميم الهندسية وعند اختيار التقنية اللازمة، والذي تمارسه بعض المكاتب الاستشارية (بقصد أحياناً وبلا قصد أحياناً أخرى) ويؤدي إلى ارتفاع هذه التكاليف. وإضافة إلى الكلفة الرأسمالية لإنشاء المرافق اللازمة، يلزم أيضاً إعطاء اعتبار للكلفة التشغيلية، ومن أهم العناصر المؤثرة في ذلك كلفة استهلاك الطاقة. على سبيل المثال، عند اختيار محطات معالجة مياه الصرف الصحي يجب أن تؤخذ في الاعتبار ـ أينما كان ذلك ممكناً ـ الأنظمة المبسطة واستغلال الظروف المحلية (توفر الأراضي الصحراوية والطاقة الشمسية) بهدف تخفيض الأعباء المالية على المجتمع والفرد. ولا بد من الاهتمام بالاستدامة المالية للمرافق البيئية. ويتضمن ذلك تطبيق نظام تسعير مناسب للتمكن على الأقل من تغطية تكاليف الصيانة والتشغيل، وكذلك تشجيع مشاركة القطاع الخاص في إدارة هذه المرافق.
تطوير الكوادر البشرية: إن تأهيل الكوادر البشرية وتدريبها أحد أهم عوامل النجاح. ويلاحظ في معظم المدن العربية نقص الكوادر المختصة في مجالات البيئة المختلفة. ومن الضروري العمل على تطوير أداء المقاولين والمكاتب الاستشارية العربية العاملة في هذا المجال وتقديم الدعم والمساندة لها، والاشتراط على الشركات الأجنبية (المقاولين والمكاتب الاستشارية) العاملة في البلاد العربية التآلف مع الشركات والمكاتب المحلية، بهدف اكتساب الخبرة وتطوير الأداء.
مشاركة المواطنين: مما لا شك فيه أن مشاركة المواطنين وإفساح المجال لهم للإدلاء بآرائهم تجاه مشاريع التنمية يؤديان إلى تقوية الشعور بأنهم جزء من الإنجازات البيئية، وعليهم مسؤولية الحفاظ عليها. كما يجب ترسيخ مبدأ أن النقد البنّاء واجب على كل مواطن صالح ويستوجب التقدير والاحترام وليس المساءلة والعقاب. إن ذلك يتضمن العمل لرفع مستوى الوعي البيئي، خصوصاً لدى متخذي القرار، والتعاون مع وسائل الإعلام المختلفة لتحقيق ذلك.
المشاريع البيئية الممولة من الصندوق العربي
حظيت المشاريع ذات المكونات أو الأهداف البيئية باهتمام كبير لدى الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي، لإيمانه بأهمية توفير بيئة صحية سليمة للمواطنين، مما ينعكس إيجاباً على مستوى المعيشة والإنتاجية ومسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي. ومن أهم المشاريع البيئية في المدن تلك التي تتضمن تجميع النفايات الصلبة والتخلص الصحي السليم منها، وكذلك تجميع مياه الصرف الصحي ومعالجتها واستخدامها. وتعتبر المرافق البيئية جزءاً مهماً من البنى الأساسية للمدن، لما في ذلك من ارتباط وثيق بالإجراءات الوقائية للحفاظ على الصحة العامة وضبط التلوث. وقد أدركت معظم الدول العربية هذه الحقيقة، وكثفت منذ مطلع السبعينات من القرن المنصرم إجراء الدراسات وتنفيذ المرافق المتعلقة بالبيئة. وأضيف إلى ذلك منذ منتصف الثمانينات تنفيذ مشاريع فرز النفايات وتدويرها واستخدام مياهالصرف الصحي المعالجة للأغراض المختلفة، خصوصاً في الزراعة، للاستفادة من هذا المورد المائي غير التقليدي في مواجهة الاحتياجات المائية المتزايدة.
من هذا المنطلق، ساهم الصندوق العربي في تمويل مجموعة من المشاريع المرتبطة بالبيئة في الدول العربية، إما بشكل مستقل وإما بدمجها أحياناً مع مشاريع القطاعات الأخرى. وهو قدم 16 قرضاً لمشاريع الصرف الصحي والنفايات الصلبة في المدن العربية، توزعت على الأردن وسورية ومصر والسودان والبحرين واليمن ولبنان، بلغ إجمالي قيمتها نحو 620 مليون دولار. وتركزت المشاريع في إنشاء شبكات تجميع مياه الصرف الصحي ومحطات لمعالجتها ومرافق إضافية لاستخدام المياه المعالجة في الأغراض الزراعية. وتضمنت المعونات إعداد الجدوى الاقتصادية والتصاميم الفنية وإجراء البحوث العلمية وإنشاء المشاريع البيئية الصغيرة ورفع مستوى الوعي حول البيئة.
كما قدم الصندوق 6 قروض لتطوير البنى الأساسية بهدف تحسين الوضع البيئي في المناطق المعنية والحفاظ على البيئة والإرث الثقافي فيها، بلغ إجمالي قيمتها نحو 250 مليون دولار. وتركزت المشاريع على تطوير البنى التحتية في المدن العربية، وإعادة إعمار البنى الأساسية المتضررة من الحروب والكوارث الطبيعية (الزلازل والفيضانات). وتضمنت المعونات، التي توزعت بشكل رئيسي على تونس والسودان وسورية ومصر واليمن ولبنان والمغرب، إعادة تأهيل المناطق المتضررة وترميم الآثار والمعالم التاريخية في المدن المعنية.
وجدير بالذكر أن الصندوق العربي قدم الكثير من المعونات لتمويل مشاريع حماية البيئة والمحافظة على التراث في فلسطين، ومن بينها مشاريع المحافظة على المسجد الأقصى، وإعمار المتحف الإسلامي في القدس، وترميم وإعمار المباني التاريخية في مدينتي القدس والخليل، بالإضافة إلى تقديم الدعم للكثير من البلديات والجمعيات الخيرية والجامعات لتنفيذ مشاريع البنى الأساسية والتنمية الريفية، والتي تنعكس إيجابا على الأوضاع البيئية في فلسطين. وشكلت قيمة المعونات لهذه المشاريع جزءاً هاماً من مجمل المعونات التي قدمها الصندوق إلى فلسطين، والتي بلغت حتى نهاية عام 2008 ما يزيد على 300 مليون دولار. إضافة إلى ذلك، قام الصندوق العربي بدعم الكثير من المؤسسات الإقليمية العاملة في المجال البيئي، ومنها المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (ايكاردا) ومنظمة المدن العربية والمعهد العربي لإنماء المدن والمعهد العربي للتخطيط وهيئات الأمم المتحدة .
عبداللطيف الحمد هو المدير العام ورئيس مجلس ادارة الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي.