هل أنت من كتب الخطاب؟ سألني ابني وليم عقب انتهاء أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون من إلقاء خطاب التخرّج في كلية العلاقات الدولية بجامعة جونز هوبكنز في واشنطن الشهر الماضي. وليم، الذي تخرج في اختصاص سياسات الطاقة والبيئة، فوجئ بالنبرة البيئية العالية لخطاب الأمين العام. ففي السابق كان الحديث عن البيئة في كلام كبار المسؤولين يقتصر على بعض العبارات الخجولة التي يمررها المستشارون عن طريق التسريب.
الاضطراب الاقتصادي والمالي الذي يعصف بالعالم يشكل صيحة تحذير حقيقية، بما يستدعي تغيير الأنماط القديمة للنمو، قال بان كي مون، داعياً إلى صفقة بيئية جديدة، تستثمر في مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة. ''لو استثمرنا جزءاً يسيراً من الحوافز الاقتصادية في برامج ومشاريع صديقة للبيئة، لأمكننا تحويل الأزمة الاقتصادية الحالية إلى نمو مستدام في المستقبل".
وحث الأمين العام الحكومات والشركات والأفراد على اتخاذ خطوات ملموسة للحفاظ على هذا الكوكب: ''استخدموا وسائل النقل العام، أعيدوا تدوير النفايات، اغرسوا الأشجار، حمّلوا الشركات مسؤوليتها عن ممارساتها المسيئة للبيئة، واطلبوا من ممثليكم في الحكومات إبرام صفقة تاريخية في مؤتمر كوبنهاغن حول تغيّر المناخ".
هذه اللغة الصريحة الداعية الى وقف أنماط التنمية المتوحشة جديدة على رأس المنظمة الدولية. فهي كانت حتى وقت قريب محصورة في جماعات البيئة ومنظماتها. أما بان كي مون، فقد أظهر التزاماً بيئياً غير مسبوق. وهنا أكشف أنه ما كان لمبادرة الاقتصاد الأخضر التي أطلقها برنامج الأمم المتحدة للبيئة في نهاية العام المنصرم أن تنطلق، لولا الدعم الفوري من الأمين العام. ويبدو أن هذه المبادرة نجحت في تحويل الانهيار الاقتصادي من نقمة على البيئة إلى نعمة. فمعظم الدول خصصت نسباً مرتفعة من حوافز دعم الاقتصاد المتدهور لبرامج تصب في ما سميناه ''الاقتصاد الأخضر''. وهنا بعض الأرقام: كوريا الجنوبية، بلد بان كي مون، خصصت 80 في المئة من مجموع حزمة الحوافز للاقتصاد الأخضر، والصين 38 في المئة، والولايات المتحدة 25 في المئة، وألمانيا 12 في المئة.
لقد اقتنعت الحكومات أن تخصيص حوافز للاقتصاد الأخضر ليس ضرباً من الرفاهية، بل هو يخلق فرص عمل أيضاً. ففي الولايات المتحدة من المنتظر أن يخلق برنامج قيمته مئة بليون دولار لتحسين كفاءة الطاقة في الأبنية والمدن الأميركية مليوني فرصة عمل جديدة خلال أربع سنوات. وقد تطورت سوق الزراعة العضوية من 15 بليون دولار عام 1999 إلى أكثر من 50 بليوناً اليوم، وهي تخلق فرص عمل تبلغ أضعاف ما تحتاجه الزراعة الصناعية التي تعتمد كلياً على الآليات.
عدا عن الطاقة المتجددة وكفاءة استخدام الطاقة والزراعة العضوية والمستدامة، يمكن للدول العربية الاستثمار في مجالات لا حصر لها لخلق فرص عمل من خلال تطوير الاقتصاد الأخضر، في طليعتها إدارة المياه والسياحة البيئية. خمسون مليون عربي يفتقرون اليوم إلى مياه الشرب النظيفة، ونحو مئة مليون تعوزهم الامدادات الكافية من مياه الخدمات. ويقدر البنك الدولي حاجة الدول العربية إلى استثمار مئتي بليون دولار حتى سنة 2020 في مجال إدارة المياه. من شأن هذه الاستثمارات تحسين الأوضاع البيئية وخلق ملايين فرص العمل الجديدة. وكم يحتاج العالم العربي إليها، حيث أن 25 في المئة من الشباب تحت سن الثلاثين و17 في المئة من مجموعة القوى العاملة عاطلون عن العمل.
موجة الاقتصاد الأخضر التي بدأت تهب على العالم، من الولايات المتحدة مروراً ببريطانيا وصولاً إلى كوريا والصين، بدأت تلفح العالم العربي. المنتدى العربي للبيئة والتنمية اختتم الشهر الماضي المجموعة الأولى من ورش عمل في سبعة بلدان، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، لاطلاق مبادرة الاقتصاد العربي الأخضر، بمشاركة القطاع الخاص والهيئات الحكومية والأهلية. وستعرض لجان تم تشكيلها نتائج عملها في المؤتمر السنوي للمنتدى الذي يعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
وفي لحظة كتابة هذا المقال، دعا محافظ المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة في السعودية فهيد الشريف إلى توطين تكنولوجيا التحلية ومعداتها، حين أعلن: ''من غير المعقول أن نملك أكبر محطة تحلية مياه مالحة في العالم وأن نكون أكبر منتج للمياه المحلاة، ونبقى مستوردين لتقنيتها من الخارج، بينما تتوفر لدينا كل المقومات والفرص لتطوير تكنولوجيات التحلية ومعداتها محلياً".
هذا واحد فقط من مجالات الاستثمار المجدي في الاقتصاد الأخضر، يلبي حاجة المنطقة إلى المياه المحلاة ويدعم الاقتصاد الوطني ويخلق آلاف فرص العمل.
العالم يتغير نحو الأفضل، تحكمه إرادة البقاء. وإذا كنا نرحّب بكلام بان كي مون عن الاقتصاد الأخضر، فما يفرحنا أكثر أن نجد في كلام مؤسسة تحلية المياه السعودية صدى توصيات مؤتمر المنتدى العربي للبيئة والتنمية حول وجوب توطين تكنولوجيا تحلية مياه البحر.
هل يمكن أن نتصور كم مليوناً من فرص العمل وكم ألف مليون من الدولارات يمكن أن نجنيها من استثمار الشمس العربية لتحلية المياه أو لانتاج الهيدروجين من مياه البحر وتصديره مضغوطاً؟
في اجتماع عقد في بون منذ أيام، التزمت الولايات المتحدة، للمرة الأولى، بخفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون 17 في المئة مع حلول سنة 2020، كما التزمت دول الاتحاد الأوروبي بخفض الانبعاثات 20 في المئة، مع تعهّد الطرفين برفع نسبة التخفيض إذا ما دخلت الصين والهند في المعادلة. هذا التوجه يؤشر لمرحلة جديدة.
مع باراك أوباما وبان كي مون، ننتظر مشهداً لم نعهده من قبل. لا يمكن بعد اليوم أن نبقى متفرجين.