جورج وهنرييت طعمه
لا شك في أنّ من دعا هذا الموقع الجميل ''وادي جهنم''، وفقاً لخريطة لبنان السياحية، دفعته إلى ذلك صعوبة تسلّق هضابه الوعرة الشديدة الانحدار. ولكن كان من الأنسب تسميته ''وادي الجنّة''، نظراً لجماله الفتّان وطبيعته الساحرة، خصوصاً أنّ طريق الجنّة أصعب من طريق جهنم، كما يحلو لبعضهم أن يقول مازحاً.
بدأت رحلتنا بالسيارة انطلاقاً من سير الضنية برفقة الطبيب الإنساني الدكتور حيدر هرموش. تسلقنا أولاً منحدرات الضنية نحو موقع نبع سكر الذي يغذي نهر البارد، وقد اختفى منبعه منذ سنوات قليلة بغية استغلال مياهه بطريقة أفضل، فنقل عشرات الأمتار غرباً عن موقعه السابق.
تابعنا التوجه شرقاً نحو مرابين، تاركين الطريق العامة الجديدة التي تصل الهرمل بالضنية. وبعد نصف ساعة على طريق ترابية سهلة، أوقفنا السيارة قرب نبع رأس النهر، وهو واحد من عدة ينابيع تغذي الروافد التي تتجه نحو وادي جهنم.
وادي جهنم معبر ضيق عميق يبدأ من موقع رأس النهر على ارتفاع نحو 2200 متر عن سطح البحر، ويتجه شمالاً حتى نهر موسى (على ارتفاع نحو 490 متراً) الذي ينبع تحت فنيدق (1200 متر) ويتجه بدوره جنوباً ثم غرباً حتى يلتقي نهر البارد.
كنا نعرف جيداً موقع نبع رأس النهر، فتفقدنا ضفافه مجدداً وتمتعنا بمناظر ''الشير'' الصخري العالي الذي يمتد منه نحو الشمال، وبأشجار الجوز المظللة للنبع. واستوقفتنا كالعادة نواويس حجرية تستعمل أحياناً كمعالف ومشارب للحيوانات. وكنا نعرف النباتات البرية المتنوعة التي يتفرّد بها هذا الموقع إنما لا يرتوي الإنسان من التمتع بمنظرها. ولفتت انتباهنا دوماً رفوف من الحمام البرّي النادر في المنطقة الذي يتّخذ من كهوف أعلى الشير مبيتاً آمناً.
بعد فترة وجيزة من الراحة، حملتنا السيارة مجدداً نحو الشمال. فولجنا طريق الوادي المشقوقة حديثاً والمنحدرة بشدة انطلاقاً من شرق مرابين، قاصدين الوصول إلى بلدة قمامين.
رماح تتحدى الغيوم
كيف لنا أن نصف روعة هذا الوادي؟ في أعلاه بعض أشجار لزّاب وسنديان تظلل صخوراً مرتفعة كالرماح متحدية الغيوم. في زوايا الصخور وتحت الأشجار موائل غنية لنباتات ولا أجمل. حتى في وسط الطريق الترابية وجدنا باقات من نبتة الغُبيرة القليلة الوجود والمتحليّة بردائها القطني الأبيض وأزهارها الملوّنة. وفي كنف الصخور ونتوءاتها جنبات من الكشمش الشرقي والحباحب الذهبية التي يتمنى كلّ من رآها أن يزيّن بها حديقته أو شرفة منزله.
زهور من كل شكل ولون، ومن أقربها إلى الطريق ''عايق طور طابور'' و''شرونة موترد'' بأزهارها الصفراء. وكان العالم الراهب موترد، المتوفى سنة 1972، أمضى 33 عاماً من عمره يدرس نباتات لبنان. وهو اكتشف هذه النبتة تحت بلدة حرار في طريقه إلى قمامين في 13 حزيران (يونيو) 1946. فلم يتمكن حينئذ من الحصول إلا على بعض فنود منها أُهديت إلى متحف جنيف للتاريخ الطبيعي، فاعتُبرت نبتة نادرة. وقد دهشنا من سعة انتشارها هنا، فهي غير معروفة جيداً، وقد صنّفت بين النباتات التي يتفرّد بها لبنان.
كنا كلما انحدرنا في الطريق ارتفعت درجة اعجابنا بمناظر الطبيعة التي لم نشهد لها مثيلاً في لبنان، وأحياناً خارج لبنان. فمن عمق الوديان التي تؤلف مشاعب ومفارج أفقية يصعب بل ربما يستحيل ولوجها، إلى ينابيع تتفجر من المنحدرات، إلى دروب ضيقة تطل على مناظر تدهشك عند كل منعطف، إلى قمم حادة كالفأس. وما لبثنا أن عبرنا جسراً حديث الإنشاء قادنا إلى الضفة الشمالية من الوادي، حيث تغيّرت طبيعة التربة ونوعية الصخور والضفاف. ومع هذا التحوّل، ظهرت نباتات جديدة نادرة يتفرّد بها لبنان، ومن أهمّها الخالدة البيضاء.
عدنا وقطعنا جسراً في الاتجاه المعاكس، فدخلنا إلى بلدة قمامين بعد أن توقفنا على ضفاف الجدول الذي يمر تحت الجسر، وقد ارتأينا التعريف عنه بنهر قمامين، وهو يصبّ في نهر موسى. وتأملنا مليّاً منظر برك المياه المحاطة بالعشب الأخضر والتي تعكس نور الشمس كمرآة من فضة.
منطقة برسم الحماية
في بلدة قمامين الوادعة، استقبلنا المسؤول عن جمعية ''وادي الزهور'' المحامي محمد طالب، في منزله العامر بأقارب وأصدقاء من المهتمّين بالشأن البيئي وإنماء بلدتهم ومحيطها. وقد لفتوا نظرنا إلى أهمية مكانتها الجغرافية والبيئية. وبعد تبادل الآراء حول كيفية الحفاظ على طبيعة الوادي والتشديد على مكانته المميزة، استودعناهم واعدين بزيارتهم كلما سنحت لنا الفرصة. وسلكنا طريق العودة مروراً بجيرون وكفرببنين وبيت الفقس، حتى وصلنا الى السفيرة الشامخة بآثارها القديمة، ومنها انتقلنا إلى سير. الطريق الجديدة معبّدة وتطلّ على مناظر طبيعية جميلة مختلفة عمّا شاهدناه منذ الصباح. ويمكن اعتبار طريق العودة في المستقبل مشروعاً لرحلة سياحية ـ بيئيّة جديدة. لقد دهمنا الوقت، ولذا لم نتوقف كثيراً عندما اجتزناها.
لا بد من التنبيه إلى أنّه يمكن الوصول إلى قمامين من عدة طرق، قد تكون أسهلها الطريق الممتدة من أسفل بلدة حرار أو قبعيت عند منتصف طريق القموعة المارّة ببلدة ببنين. كما يمكن ولوج الوادي المحاذي للنهر انطلاقاً من سدّ موسى قرب عيون السمك، وهذا ما فعلناه سابقاً، أو من جيرون بعد شق الطريق الجديدة وتعبيدها حتى ولو كانت ضيقة. إلا أنّ أفضل سبيل للتعرف إلى الوادي هو سلوك الطريق التي سلكناها، أي انطلاقاً من نبع رأس النهر. فالانحدار من الجنوب إلى الشمال أسهل بكثيرمن حيث الشدة والوعورة.
إننا إذ نُسلط الضوء على هذا الوادي الرائع وضرورة الحفاظ على ثرواته الطبيعية الفريدة، ندعو من في يدهم الأمر إلى الإسراع في اتخاذ الخطوات اللازمة التي تحميه من التعديّات، وذلك بإعلان منطقة قمامين محمية طبيعية.
الدكتور جورج طعمه وزوجته الدكتورة هنرييت طعمه عالما طبيعة يتجولان في ربوع لبنان ويصوران ويوثقان ما فيها من نبات وحيوان.