الاحترار العالمي هو من التحديات الأكثر خطورة التي تواجهنا اليوم. فبتأثير التغيرات المناخية المتوقعة، سوف تصبح أجزاء كثيرة من الكوكب أكثر دفئاً. وسوف تصبح موجات الجفاف والفيضانات وأشكال أخرى من الطقس المتطرف أكثر تكراراً، مهددة الامدادات الغذائية والأصول الاقتصادية والأرواح البشرية. وسوف تنقرض النباتات والحيوانات التي لا تستطيع التكيف مع الظروف المناخية المتغيرة. وترتفع مستويات البحار، وسوف تستمر في الارتفاع، مجبرة ملايين الأشخاص في المناطق الساحلية على النزوح الى الداخل.
تستخدم هذه الدراسة تقنيات الاستشعار عن بعد للتكهن بنتائج سيناريوهات مختلفة لتأثير تغير المناخ على العالم العربي، تتراوح بين المتحفظة والمتطرفة. وهي لا تحاول أن تتبنى مستوى محدداً للتأثير، كما أنها لا تحاول أن تكون شاملة لجميع تأثيرات تغير المناخ التي يمكن تتبعها باستعمال الاستشعار عن بعد.
وفي ضوء الشك المحيط بالديناميكيات الدقيقة لتغير المناخ والتوقعات العلمية، تأخذ هذه الدراسة في الحسبان نطاق ارتفاع مستويات البحار من متر واحد الى خمسة أمتار، من دون أن تتبنى احتمالات محددة لأي سيناريو ضمن ذلك المدى. لذلك، تسعى أكثر الى الاضاءة على العواقب الكارثية المحتملة لارتفاع مستويات البحار، مهما يكن مدى الارتفاع. أجرى هذه الدراسة مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن بتكليف من المنتدى العربي للبيئة والتنمية. وقامت بانتاج الصور وتحليلها خصيصاً لتقرير المنتدى لسنة 2009 الدكتورة إيمان غنيم باشراف مدير المركز الدكتور فاروق الباز.
شهد القرن الماضي ارتفاعاً في مستويات البحار بلغ 17 سنتيمتراً بمعدل وسطي مقداره 1,75 مليمتر في السنة. وقـد تكهّن التقرير التقييمي الرابع للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) الـذي نشر عام 2007 بارتفاع مستويات البحار حتـى 59 سنتيمتراً بحلـول سنة 2100، مستثنياً تأثيـرات تغيرات ديناميكية محتملة فـي ذوبـان الجليـد. ومع الأخذ في الحسبان المدى ''المحتمل'' التام للزيادات المتوقعة في درجة الحرارة، فان ارتفاع مستويات البحار يمكن أن يتضخم حتى 1,4 متر بحلول سنة 2100. وتكهن باحثون آخرون بارتفاع مستويات البحار ما بين 5 و6 أمتار في حال انهارت الصفيحة الجليدية في غرب القارة القطبية الجنوبية (انتارتيكا).
وكدلالة على تنقيح تصاعدي حديث لسيناريوهات تغير المناخ المتوقعة، قال كريستوفر فيلد، وهو عضو أميركي في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ والمدير المؤسس لدائرة الايكولوجيا العالمية التابعة لمعهد كارنيغي في جامعة ستانفورد، خلال الاجتماع السنوي للجمعية الأميركية لتقدم العلوم في شباط (فبراير) 2009، إن وتيرة تغير المناخ تتعدى التكهنات السابقة، حيث أن الانبعاثات منذ عام 2000 فاقت التقديرات التي استُعملت في تقرير الهيئة الحكومية الدولية عام 2007.
من دون أي شك، يشكل ارتفاع مستويات البحار تهديداً عالمياً. ومع اختلاف التكهنات حول مدى هذا الارتفاع، المبنية على متغيرات مختلفة لا يمكن توقعها جميعاً، هناك شبه اجماع على الحاجة الى تطبيق مبادئ وقائية بشأن الاحترار العالمي. وهذا يفسر لماذا تأخذ دراسات التأثير، خصوصاً تلك التي أجراها البنك الدولي، سيناريوهات ارتفاع مستويات البحار بين متر واحد وخمسة أمتار في الاعتبار. وينشأ التهديد من كون نسبة كبيرة من سكان الأرض تقطن مناطق ساحلية سريعة التأثر. فنحو 400 مليون شخص يعيشون ضمن مسافة 20 كيلومتراً من الساحل في أنحاء العالم. وما يبعث على القلق أنه اذا ارتفعت مستويات البحار بمقدار متر واحد، فإن ذلك سوف يؤثر على أكثر من 100 مليون شخص. وقد جاء في تقرير اللورد ستيرن عام 2006: ''إن ذوبان الصفائح الجليدية أو انهيارها سوف يهدد في النهاية الأراضي التي تؤوي اليوم شخصاً من كل 20 من سكان الأرض".
تأثير ارتفاع البحار على البلدان العربية
المنطقة الساحلية في العالم العربي ليست مستثناة من تهديد ارتفاع مستويات البحار. ومثل أجزاء كثيرة من العالم، تقع العواصم والمدن الكبرى في البلدان العربية على السواحل أو على مصبات الأنهار. ولأن توسعاتها سريعة للغاية، فان هذه المدن معرضة بشكل كبير لخطر ارتفاع مستويات البحار.
ولإلقاء نظرة أكثر دقة على تأثير ارتفاع مستويات البحار على الخط الساحلي العربي، والاضاءة على البلدان التي هناك احتمال كبير بأن تتعرض للخطر، أجريت محاكاة لارتفاع مستويات البحار باستعمال ''نظام المعلومات الجغرافية'' (GIS) وبيانات ''بعثة الطوبوغرافيا الرادارية المكوكية'' (SRTM). هذه البيانات، التي تستعملعلى نطاق واسع في كثير من الاستقصاءات العلمية، يعتبر أنها تشكل أفضل ''نموذج ارتفاع رقمي'' (DEM) على نطاق عالمي، فضلاً عن تناغمها ودقتها عموماً. وتظهر الأشكال 1 الى 5 نتائج هذه المحاكاة.
بموجب سيناريو ارتفاع مستوى البحار متراً، تظهر المحاكاة أن ما يقرب من 41,500 كيلومتر مربع من أراضي البلدان العربية سوف تتأثر مباشرة بارتفاع مستوى البحار. والارتفاعات المحتسبة سوف تؤدي الى نزوح عدد سريع النمو من السكان الى مناطق أكثر اكتظاظاً. وما لا يقل عن 37 مليون شخص (11%) سوف يتأثرون مباشرة بارتفاع مستوى البحار متراً واحداً. وفي سيناريوهات ارتفاع بمقدار مترين و3 أمتار و4 أمتار، فإن نحو 60,000 و80,700 و100,800 كيلومتر مربع، على التوالي، في المنطقة الساحلية العربية سوف تتأثر بشكل خطير. وفي الحالة القصوى، حيث ترتفع مستويات البحار 5 أمتار، فإن التأثير سيكون في أعلى درجة له، إذ يقدر أن تغمر مياه البحار نحو 113,000 كيلومـتر مربـع من الأراضي الساحليـة (الأشكال 1 ـ 5).
لكن التأثيرات المتوقعة لارتفاع مستويات البحار ليست موزعة بانتظام عبر المنطقة العربية. فمن الشكل 6 يتضح أن تأثير الارتفاع سيكون حاداً بشكل خاص في بعض البلدان مثل مصر والسعودية والجزائر والمغرب، في حين سيكون له تأثير أقل على بلدان مثل السودان وسورية والأردن. وستكون مصر الى حد بعيد البلد الأكثر تأثراً في العالم العربي. فما لا يقل عن 12 مليون مصري سوف ينزحون مع سيناريو ارتفاع مستويات البحار 5 أمتار. وفي الواقع، فان قرابة ثلث مجموع السكان العرب المتأثرين سيكون من مصر وحدها. وعلى المستوى الوطني، سوف تشهد الامارات وقطر والبحرين أعلى تأثير لارتفاع مستويات البحار من حيث نسبة السكان المعرضين للخطر من مجموع عدد السكان في البلد. هنا، نتوقع أن يتأثر أكثر من 50 في المئة من سكان كل بلد بارتفاع مستويات البحار 5 أمتار (الشكل 6). وتشير التحليلات الحالية الى أن البحرين وقطر سوف تخسران جزءاً من أراضيهما يبلغ نحو 13,4 في المئة و6,9 في المئة على التوالي، وفق سيناريو ارتفاع مستويات البحار 5 أمتار.
النمو المدُني الساحلي
هناك عوامل بشرية وطبيعية قد تساهم في التأثير الناجم عن ارتفاع مستويات البحار وتقوّيه. فعلى سبيل المثال، بالنسبة الى معظم أجزاء العالم العربي، يحدث نمو مُدني سريع وغير منضبط على نطاق واسع على طول المناطق الساحلية السريعة التأثر. ومن شأن استمرار أنماط هذا النمو أن يجتذب أعداداً أكبر من السكان الى تلك المناطق المنخفضة الخطرة. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يكون لارتفاع مستويات البحار تأثير كبير على الناس وعلى تطوير البنى التحتية في المناطق الساحلية للمنطقة.
ويمكن الافادة من مراقبة التغيرات التاريخية في النمو المُدني لتحديد الاتجاهات المستقبلية في التوسع المُدُني بمعزل عن تغير المناخ، وبناء على ذلك يمكن اقتراح الأماكن التي ستحتاج الى دمج الأخطار المناخية بشكل أفضل في عمليات التخطيط. واستناداً الى تصنيف صور الأقمار الاصطناعية وتحليل كشوف التغيرات في هذه الدراسة (الشكل 7)، يُقدر، على سبيل المثال، أن النمو المُدُني في دبي (بما في ذلك المناطق الخضراء) ازدادت مساحته السطحية نحو ثلاثة أضعاف خلال أقل من 20 سنة (بين 1984 و2003). وباضافة منطقة النمو المُدني الجديدة في مشروع جزر النخيل في دبي، تتضخم نسبة السكان والبنى التحتية التي يحتمل أن تتأثر بالاغراق أو الفيضان الساحلي.
ولتقدير مجمل المساحات المعرضة للخطر بفعل ارتفاع مستويات البحار بمزيد من التفصيل، تم انشاء نموذج ارتفاع رقمي للمنطقة الساحلية في الشارقة وعجمان وأم القيوين، من خرائط طوبوغرافية. وبناء على نموذج الارتفاع الرقمي، تبين أن قرابة 332 كيلومتراً مربعاً من المساحة البرية للامارات الثلاث تقع أدنى من مستوى البحر بعشرة أمتار، ولذلك هي معرضة بشكل كبير لارتفاع مستويات البحار. وتظهر النتائج أن ارتفاعاً بمقدار متر واحد سوف يغرق قرابة 8,1 في المئة من امارة عجمان و1,2 في المئة من امارة الشارقة و5,9 في المئة من امارة أم القيوين (الشكل 8 أ). ومع سيناريو الخمسة أمتار، سوف تزداد هذه الأراضي المغمورة لتصل الى نحو 24 في المئة و3,2 في المئة و10 في المئة في الامارات الثلاث، على التوالي (الشكل 8 ج).
تأثير ارتفاع البحار على دلتا النيل
الأماكن التي تحتل مساحات منخفضة في المنطقة العربية، مثل سهول مصبات الأنهار (الدلتا)، سوف تواجه مشاكل أكثر خطورة نتيجة ارتفاع مستويات البحار. ودلتات الأنهار سريعة التأثر بشكل خاص، لأن ارتفاع مستوى البحر يفاقمه انخساف الأراضي وتدخل بشري مثل احتباس الرسوبيات بسبب السدود. وفي العالم العربي، منطقتا الدلتا الرئيسيتان هما دلتا نهر النيل في مصر ودلتا نهري دجلة والفرات في العراق. وهذه الأماكن مكتظة بالسكان ومن أهم الأراضي الزراعية في الاقليم. وكما يتضح من ارتفاع مستويات البحار المحتسب (الشكل 1)، فإن هاتين المنطقتين هما اقليمياً الأكثر تأثراً. وفي الواقع، ستكون التأثيرات أكبر بكثير عندما تأخذ في الاعتبار ازياد وقوع أحداث مناخية متطرفة في مناطق منخفضة.
إن اجمالي مساحة مصر يزيد قليلاً عن مليون كيلومتر مربع، المناخ في معظمها جاف الى مفرط الجفاف. وتحتل الصحراء 94 في المئة تقريباً من الكتلة الأرضية في مصر. والسكان المتزايدون سريعاً، الذين يقارب عددهم الآن نحو 81 مليوناً، يقطنون في أقل من 6 في المئة من المساحة البرية للبلاد. هذه المساحة، التي تقع في دلتا النيل ووادي النيل، تحوي الأراضي الزراعية الأكثر انتاجية، وبذلك تشكل المصدر الغذائي الرئيسي للبلاد بأسرها. ودلتا النيل، التي تبلغ مساحتها نحو 24,900 كيلومتر مربع، تستأثر وحدها بنحو 65 في المئة من الأراضي الزراعية في مصر. وهذه الدلتا، التي كانت في الماضي أكبر موقع للرسوبيات في حوض البحر المتوسط، هي مثال متطرف على منطقة مسطحة منخفضة معرضة بشكل كبير لخطر ارتفاع مستوى البحار. والدلتا تتراجع حالياً نتيجة تسارع التآكل على الخط الساحلي. وهذا كان يعزى عموماً لعوامل بشرية وطبيعية. ويعتبر انشاء السد العالي في أسوان (1962) واحتباس كمية كبيرة من الرسوبيات خلفه في بحيرة ناصر، العاملين الرئيسيين المسببين للتآكل في دلتا النيل. كما أن احتباس كمية أخرى لا يستهان بها من رسوبيات النيل بسبب شبكة الري وقنوات التصريف الكثيفة، وفي الأراضي الرطبة شمال الدلتا، ساهم أيضاً بشكل كبير في تآكل الدلتا. وفي الوقت الحاضر، تنتقل كمية صغيرة فقط من رسوبيات نهر النيل نحو البحر لسد النقص على ساحل الدلتا في حافته الشمالية. وحتى الكمية الصغيرة جداً المتبقية من رسوبيات الدلتا التي تصل حالياً الى البحر المتوسط تزيلها التيارات البحرية المتجهة شرقاً.
بالاضافة الى ذلك، فإن انخساف الدلتا بين مليمتر و5 مليمترات سنوياً ، نتيجة أسباب طبيعية واستخراج كثيف للمياه الجوفية، يؤثر في التآكل الساحلي الى أبعد الحدود. وهذا التأثير يظهر في صور القمر الاصطناعي، حيث يمكن رؤية التآكل الساحلي بوضوح قرب رأسي رشيد ودمياط (الشكل 9). ويُظهر تحليل صور القمر الاصطناعي أن رأس رشيد، على وجه الخصوص، خسر 9,5 كيلومترات مربعة تقريباً من مساحته (الشكل 9) وأن خطه الساحلي تراجع 3 كيلومترات داخل البر خلال 30 سنة (1972 ـ 2003). وهذا يعني أن هذا الجزء من الدلتا يتراجع بمعدل ينذر بالخطر يبلغ نحو 100 متر في السنة.
وبموجب سيناريوهات ارتفاع مستويات البحار، سوف يُفقد المزيد من دلتا النيل الى الأبد. ويصنف تحليل الاستشعار عن بعد ونظام المعلومات الجغرافية بعض المناطق في دلتا النيل المعرضة لخطر ارتفاع مستويات البحار متراً واحداً وللحالة القصوى لسيناريو ارتفاع مستويات البحار 5 أمتار (الشكل 10). وبناء على هذه الصورة، يقدر أن ارتفاع متر واحد فقط سوف يغمر كثيراً من دلتا النيل، مغرقاً نحو ثلث (34%) أرضها، جاعلاً مدناً ساحلية هامة مثل الاسكندرية وإدكو ودمياط وبورسعيد في خطر كبير. وفي هذه الحالة، يقدر أن نحو 8,5 في المئة من سكان البلاد (7 ملايين نسمة) سوف ينزحون.
وفي الحالة القصوى لسيناريو ارتفاع مستويات البحار 5 أمتار، فإن أكثر من نصف (58%) دلتا النيل سوف يواجه تأثيرات مدمرة، من شأنها أن تهدد 10 مدن كبرى على الأقل (من بينها الاسكندرية ودمنهور وكفر الشيخ ودمياط والمنصورة وبورسعيد)، غامرة أراضي زراعية منتجة، ومجبرة نحو 14 في المئة من سكان البلاد (11,5 مليون نسمة) على النزوح الى مناطق أكثر اكتظاظاً جنوب منطقة دلتا النيل، مما يساهم في جعل مستويات معيشتهم أسوأ مما هي عليه.
تأثير النمو المُدني والجزر الحرارية
يعاني الجزء الجنوبي من دلتا النيل حالياً من نمو سكاني غير منضبط في مدينة القاهرة عاصمة مصر. وتُظهر نتائج الاستقصاء الحالي أن المساحة المبنية الاجمالية في القاهرة توسعت بشكل كبير خلال العقود القليلة الماضية. وسبَّب ارتفاع النمو الاقتصادي وفرص العمل في هذه المدينة تدفقاً للعمال الوافدين من مناطق أخرى في مصر. وأدت زيادة محلية في عدد السكان، اضافة الى الوافدين، الى جعل المدينة تتوسع سريعاً وبطريقة يتعذر ضبطها. وكما يظهر في الشكل 11، فإن منطقة القاهرة تضاعفت حجماً في أقل من عشرين سنة (1984 ـ 2003). وحالياً، يبلغ عدد سكان المدينة نحو 17,5 مليون نسمة، ما يجعلها المدينة الأكبر والأكثر سكاناً في العالم العربي.
ومع نمو القاهرة نحو الخارج، نشأت مجموعة من القضايا التي يصعب حلها. أولها خسارة أراض زراعية رئيسية لمصلحة التوسع والتنمية المدنية، نتيجة زيادة الطلب على المساكن. ويظهر تحليل أن نحو 12 في المئة (62 كيلومتراً مربعاً) من المناطق الزراعية المجاورة للقاهرة فُقدت خلال 18 سنة بين عامي 1984 و2002 (الشكل 12). وتُظهر مدن كبرى كثيرة في المنطقة العربية (على سبيل المثال بيروت، الشكلان 14 و15) الاتجاه المقلق نفسه لخسارة الغطاء الأخضر والأراضي الزراعية لمصلحة التوسع المدني. وعندما يتم تحويل هذه الأراضي للاستعمال المُدني، فإن المناطق الخضراء والأراضي الزراعية تُفقد عموماً الى الأبد، مما يقلص خزانات الكربون، وفي المدى الطويل يمكن أن يسبب شحاً في الغذاء.
وهناك قضية أخرى يصعب حلها تتعلق بالنمو المدني، هي أثر ''الجزيرة الحرارية المدينية'، حيث الحرارة في وسط المناطق المدينية أعلىعدة درجات من تلك التي في مناطق ريفية مجاورة ذات ارتفاع مماثل. وقد يكون للنمو المدني تأثيرات جوهرية على الطقس والمناخ المحليين، وهذه بدورها يمكن أن تساهم بشكل كبير في الاحترار العالمي. وينشأ التوسع المدني عادة على حساب الغطاء النباتي عندما يتحول الحيز المكشوف إلى مبان وطرق وبنى تحتية أخرى. والمواد المستعملة لبناء هذه الانشاءات لا تتمتع بالخصائص الحرارية ذاتها التي للغطاء النباتي، ونتيجة لذلك يمكن أن تؤثر بشكل كبير على المناخ المدني المحلي. كما أن التخطيط غير الملائم يمكن أن يزيد درجات الحرارة السطحية في أي من المدن من خلال اعاقة تدفق الهواء ومنع التبريد بواسطة الحَمْل الحراري.
أجريـت دراسات حـول خصائص درجات الحـرارة السطحية فـي المناطق المدنية باستخدام بيانات الاستشعار عـن بعـد بواسطة الأقمـار الاصطناعية، مستعملة فـي المقام الأول نطـاق الأشعة الحرارية ـ تحت الحمراء من بيانات +Landsat Enhanced Thematic Mapper Plus MTE. وكما هو موضح في الشكل 13، تظهر القاهرة ارتفاعاً ملحوظاً في درجة الحرارة السطحية مع شيوع مناطق مُدنية أكثر دفئاً في مقابل أراض مزروعة مجاورة أكثر برودة.
في المستقبل، ستكون لتغير المناخ المدني أهمية بالنسبة الى عدد متزايد من العرب. ومع هذه الشريحة الكبيرة والمتنامية من العرب المحتشدين في مناطق مدنية، فان عدداً كبيراً من الناس سوف يشعر بالتأثيرات المناخية المحلية.
العواصف الغبارية في الصحارى العربية
التلوث بالهباء (ايروسول) الذي تسببه العواصف الغبارية يمكن أن يعدل خصائص الغيوم مما يخفض المتساقطات أو يمنعها في المنطقة الملوَّثة. والهباء المحتوي على كربون أسود قد يؤثر على المناخ ويحتمل أن يخفض تكوّن الغيوم. وتدني المتساقطات من الغيوم المتأثرة بالغبار الصحراوي قد يجعل التربة أجفّ، وهذه بدورها تثير مزيداً من الغبار في الهواء، مما قد يفسح في المجال لمزيد من الانخفاض في هطول الأمطار. واضافة الى ذلك، فان التغيرات التي يحدثها الانسان في استخدام الأراضي، والتي تكشف التربة السطحية، يمكن أن تطلق عملية حدوث تصحّر.
النمو المُدني لا يزيد درجة الحرارة المحلية فحسب، وإنما يخلق أيضاً مناطق صناعية تتسبب في تلوث الأجواء وتقلل جودة الهواء المحلي. ومع استمرار تراكم الانبعاثات المسببة لتغير المناخ في الغلاف الجوي نتيجة الانبعاثات الصناعية غير المضبوطة، فإن مناطق صحراوية كثيرة سوف تصبح أشدّ حرارة وأكثر جفافاً، وهي ظاهرة تسمى ''أثر التضخيم''، أي أن الأماكن الحارة والجافة أصلاً على الأرض سوف تزداد حرارة وجفافاً. ونتيجة لذلك، سوف تصبح العواصف الترابية في الصحراء أكثر تكراراً وشدة.
وتظهر الأبحاث أن العواصف الترابية تزداد تكراراً في أجزاء محددة من العالم، بما في ذلك أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. وعلى سبيل المثال، ازداد الانتاج الغباري السنوي عشرة أضعاف في السنوات الخمسين المنصرمة في أجزاء كثيرة من أفريقيا. كما أن العواصف الترابية تزداد سرعة في المنطقة العربية بسبب تفكك الغطاء الترابي المحلي نتيجة مرور المركبات (أثر حربي العراق مثلاً) وتربية المواشي وتطوير الطرق المخصصة لانتاج النفط والغاز، خصوصاً في منطقة الخليج.
إن الصور الفضائية ذات التغطية الكبيرة واليومية التي توفرها الأقمار الاصطناعية، كالتي تلتقطها أجهزة الاستشعار والتصوير MODIS في القمرين الاصطناعيين Terra وAqua، تمكننا من مراقبة العواصف الترابية يومياً وتحديد مصادرها الرئيسية عالمياً. فعلى سبيل المثال، وكما يظهر في الشكل 16، تبدو بوضوح سحابة كثيفة من الغبار الضارب الى الصفرة تنطلق من حدود العراق متجهة نحو الجنوب الغربي في احدى صور MODIS-Aqua (تم الحصول عليها في أيار / مايو 2005). هذه العاصفة كثيفة الى درجة أنها حجبت جزءاً كبيراً مــن البحر الأحمر تحتها. ويؤكد تصنيف الصورة هذه الظاهرة ويظهر الحجم الضخم لهذه العواصف الغبارية. ويظهر الشكل 16 عاصفة بلغ طولها 1700 كيلومتر، وقد عبرت المملكة العربية السعودية واجتازت كل الحزام الأخضر في وادي النيل وصولاً الى الصحراء الغربية في مصر.
وثمة صورة لعاصفة غبارية ضخمة أخرى التقطها MODIS-Terra (تم الحصول عليها في أيار / مايو 2004). هنا، سحابة كثيفة من الرمل والغبار يمكن رؤيتها تهب من الصحراء الايرانية فوق الخليج، حاجبة الكويت والساحل الشرقي للسعودية والبحرين وقطر والامارات العربية المتحدة (الشكل 16).
أساس لبناء السياسات
تشكل أجزاء من المناطق الساحلية في العالم العربي مراكز هامة وكثيفة السكان للصناعة والتصنيع والتجارة. والعالم العربي، بخطه الساحلي الذي يمتد نحو 34,000 كيلومتر، عرضة لارتفاع مستويات البحار. واحتمال تعرض الكثير من بلدانه ومدنه، مثل الاسكندرية ودبي وسواهما، لتأثير ارتفاع البحار قد يكون كبيراً، بناء على الوضع الاجتماعي والاقتصادي الحالي في المناطق الساحلية. وبعد الأخذ في الاعتبار مستقبل التنمية والنمو السكاني في هذه المناطق، تبين أن ارتفاع مستويات البحار يطرح أسئلة سياسية هامة تتعلق بخطط التنمية والقرارات الاستثمارية حاضراً ومستقبلاً.
وجدير بالذكر أن السواحل الرملية التي شهدت نمواً سكانياً تعتبر سريعة التأثر على وجه الخصوص، إذا استمر تركيز التنمية في المستقبل قرب الخط الساحلي وإذا وُجدت نظم ايكولوجية حساسة على مقربة من هذه المناطق. وسوف تعاني هذه المناطق مشاكل مثل الإغراق والتآكل الساحلي وإعاقة التصريف. ثم إن استمرار النمو المدني السريع والكثيف في مناطق كثيرة في العالم العربي سوف يؤدي الى تعديل دراماتيكي في سطح الأراضي، حيث تتم ازالة النباتات الطبيعية وتحل محلها أسطح لا تتبخر منها المياه ولا ترشح. وفي ظل هذه الظروف، سوف ترتفع الحرارة السطحية في هذه المناطق عدة درجات. وفي المدى البعيد، قد يكون لأثر الجزيرة الحرارية نتائج سلبية قاسية على الطقس المحلي في المنطقة العربية، وهذا بدوره يساهم بشكل كبير في الاحترار العالمي.
اضافة الى ذلك، فإن ازدياد تكرار العواصف الترابية هو من التحديات البيئية الخطيرة التي تواجهها المنطقة العربية. هذه العواصف سوف تتسبب بخسارة التربة وانخفاض المتساقطات والانتاجية الزراعية وانخفاض دراماتيكي في جودة الهواء وتؤثر في النهاية على صحة الانسان. وعلى رغم أننا غير مستعدين تماماً لمواجهة جميع هذه التأثيرات المدمرة التي يسببها ارتفاع مستويات البحار وأثر الجزيرة الحرارية والعواصف الترابية، فإن التقدم في تقنيات الاستشعار عن بعد، وازدياد توافر الصور الفضائية العالية الدقة، والقدرة على الوصول الى نظم معلومات أكثر تفصيلاً تتعلق بالارتفاع الرقمي والسكان واستعمال الأراضي، قد توفر جميعاً مراقبة محسنة لهذه التأثيرات السلبية وما يرتبط بها من تأثيرات على العالم العربي برمته. لذلك فان هذه البيانات قد تستعمل كأساس صلب يمكن أن تُبنى السياسات عليه.