يحكى أنه كانت هناك قرية تسمى السدير، وهي من ضواحي منطقة كنار في شمال شرق السودان التي حوّل البريطانيون جزءاً كبيراً منها في الماضي إلى مشروع ضخم أطلقوا عليه اسم ''مشروع الجزيرة''، بقصد جعلها سلة غذاء لكل أفريقيا. هذه القرية التي كانت في ما مضى آهلة بالبشر ومزدانة بالأخضر، لم يبقَ منها سوى اسم بائس محفور في ذاكرة من تبقى من الجيل الماضي.
قبل سنين سكن الشيخ مولى وعائلته الكبيرة في السدير، حيث شكلت الزراعة أساس التواجد السكاني في هذه الأراضي الممتدة الأطراف. وكانت الأرض تعطي بسخاء، إذ تعددت الزراعات بفضل التوافر الدائم للمياه وبكميات كانت تبشر دائماً بجودة الغلال. ويتذكر العجوز مولى في حسرة خنقت صوته المرتجف: ''في تلك الأيام، كان كل الناس يمارسون أنشطة مرتبطة بالأرض وإن تنوعت. كنا نعيش حياة هادئة ومتوازنة".
اليوم، تمر قوافل الجمال في جوار المكان، ويقف بعضها برهة أمام أطلال العمران المتآكل والأراضي الجرداء. فلا أثر للحياة، ولا حتى للطيور التي ترافق القوافل عادة لتقتات من الفتات. يبدو المكان غارقاً في حزن بعد فقدان بهاء الأخضر، الذي ساد ثم باد تاركاً السيطرة للرمل الذي استقر بفعل التصحر.
لكل مأساة بداية
قبل نحو عشر سنين بدأت الأمور تتدهور شيئاً فشيئاً. وفيما مرّ الوقت بصمت كان التصحر يزحف على المكان رويداً رويداً، من دون أن ينتبه أحد الى هذا الغزو الصامت.
يقول الباحث عوض عثمان أبو سوار إن ازدياد عدد القطعان، من ماعز وغنم وإبل وبقر، ومدة بقائها أثناء عملية الرعي في الأراضي المحدودة ذاتها، هو أحد العوامل القوية المباشرة التي أدت الى فقدان إنتاجية هذه المنطقة، وبقية المناطق التي تحتضر حالياً تحت عباءة التصحر الخانقة. ويضيف: ''أما العامل الثاني فهو قطع الأشجار بغاية التزود بالحطب وصناعة التحف التقليدية وفحم البخور وبناء الأكواخ".
الرأي ذاته وجدناه عند التيجاني محمد صالح، مؤلف كتاب ''البرامج التطبيقية لمكافحة التصحر''، الذي أمضى سنوات طوالاً في دراسة مسببات هذه الظاهرة وآثارها اللارجعية في السودان. لكن كل جهود الدراسة بقيت رهينة جدران مكاتب اتخاذ القرار. وهو يقول إن هذه الوضعية تبين غياب التقدير الصحيح لكميات المياه المتوافرة وقدرة التربة على الإنتاج: ''هناك 15 ولاية من ضمن 26 (13 في الشمال و2 في الجنوب) تأثرت بشكل خطير بفعل ظاهرة التصحر. ويجدر ذكر كل من منطقة النيل والبحر الأحمر وشمال كردفان وشمال دارفور وغرب كردفان وغرب دارفور وكسلة وغضارف والخرطوم والنيل الأبيض والجزيرة وسنار".
تشغل هذه المناطق مجتمعة نحو 178 مليون هكتار، أي 72 في المئة من المساحة الإجمالية للبلاد. لقد تحول الشمال السوداني تقريباً الى صحراء يتخللها مناخ خاص على ضفاف النيل.
سلة غذاء السودان مهددة
لم يكن اختيار البريطانيين عشوائياً لمنطقة ''الجزيرة'' القاحلة كي تكون سلة غذاء في عهدهم الاستعماري للسودان. فهي تقع في الجهة الشمالية للحوض الذي يربط النيلين الأبيض والأزرق، وتعتبر تضاريسها مثالية للسقي بفعل الجاذبية. في المقابل، تستغل الزراعة الطمي المتراكم بعد كل فيضان موسمي للواديين. كما تساهم الدلتا في تزويد الأراضي القريبة منها بالتربة ذات الخصوبة العالية. ومع هذا كله، لم تصمد المنطقة طويلاً أمام الرمال المتحركة في الشمال الغربي التي غطت معظم سواقي الري.
عام 1999، نشرت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) تقريراً جاء فيه أن المردودات الزراعية انخفضت بشكل كبير خلال السنوات الأربعين السابقة. فقد هبط مردود الفول السوداني من 1000 الى 600 كيلوغرام بالهكتار، والذرة السكرية (السرغوم) من 900 الى 600، والسمسم من 400 الى أقل من 200. ويعزى هذا التراجع الواضح للمحاصيل الاستراتيجية في السودان أساساً الى تدهور التربة، التي يشكل الطين أحد مكوناتها الرئيسية، وحين يجف تذروه الرياح في شكل غبار بفعل الانجراف الريحي. ولقد عشنا أثناء إقامتنا في السودان هذه العواصف التي لم نشاهد مثلها من قبل، إذ يغطي الغبار السماء ويحجب الرؤية ويسبب الاختناق، وهذا يفسر انتشار الأمراض التنفسية وأنواع الحساسية بين السودانيين.
وشرح لنا الدكتور عباس شاه الدين، الأستاذ في جامعة شمبات، كيف أن التلوث يسبق التصحر في بعض الحالات: ''في وادي مدني، وهو جانب من نهر النيل في منطقة الجزيرة، ترمي المصانع نفاياتها مباشرة في مياه النيل من دون أدنى معالجة. واليوم، بعد مرور سنوات، اختفى كلياً عدد كبير من الأنواع الحية".
تلقى فكرة المساحات المحمية رواجاً كبيراً باعتبارها خطوة نحو تخفيف آثار التصحر. ويقول التيجاني محمد صالح: ''هذا لا يعني توسيع رقعة المساحات المزروعة من دون التفكير منطقياً في الأعراض التي قد تطرأ مستقبلاً نتيجة التغيرات المناخية، كالجفاف وانتشار الآفات وغير ذلك".
يحدد البحث العلمي نوع الأصناف النباتية المناسبة التي ينبغي اختيارها كمصدات ومثبتات للرمال. وعلى ضوء ذلك تم إنجاز حزام أخضر من شجر الصنوبر ''كاليتوس'' في شمال الجزيرة، كما أضيف صنف ''المسكيت'' شرق النيل الأبيض في منطقة هشبة. في الماضي كانت هناك مساحات غابية في متناول البحث العلمي الذي تقوده محطة سوبا للبحوث الزراعية. وحالياً، يجري التنسيق بين كرسي اليونسكو لمكافحة التصحر والمعاهد ومراكز البحوث والجامعات ومستغلي الأراضي الزراعية. إلا أن هذا التنسيق، الذي هو في الغالب تطوعي، يفتقر الى دعم مالي متين ومتابعة ميدانية عن كثب، ممّا يحول دون بلوغ الأهداف وتثمين جهود الباحثين.
ومن المثبطات التي تعرقل مسار عملية مكافحة التصحر، تلك القناعة الآخذة في الانتشار بين الكثيرين والتي ترى في هذه العملية تحدياً تصعب مواجهته، لكون التصحر لا يعترف بالحدود. فهو قد ينشأ هنا وينتشر ليصل الى هناك. وحين تزداد حدته يغزو المناطق المجاورة ويتسبب في خسائر تكبر مع ضعف قدرة البلد المتضرر على المكافحة. ومع ذلك، يدعو المتخصصون الذين يستندون الى البحوث العلمية الى ضرورة تشجيع الممارسات الزراعية الصحيحة، والتي أساسها التوافق مع احتياجات الإنسان وعدم تجاوزها ولو بالقليل، مع الحفاظ على التنوع الحيوي للأنظمة الإيكولوجية داخل المناطق الجافة وشبه الجافة. هذه المبادئ لا بديل من احترامها لمحاصرة التصحر.
الطريق الآخر
يرى مختار أحمد مصطفى، مدير دراسات التصحر وتشجير الصحراء وعضو مكتب اليونسكو في السودان، أهمية تحسين ممارسات إدارة الموارد الطبيعية وحمايتها عبر تكثيف الغطاء الغابي في المناطق المعرضة لخطر التصحر. ويعتبر هذا الأمر حلاً لا يمكن تجاوزه.
نظراً الى مساحة السودان البالغة 2,5 مليون كيلومتر مربع، وهي الأكبر في أفريقيا، فانه البلد الأكثر تضرراً بظاهرة التصحر من أقصى الشرق الى أقصى الغرب. ويعيش نحو 76 في المئة من سكانه في المناطق الجافة وشبه الجافة، على رغم الرطوبة المنبعثة من مجاري النيل الذي يقطع 900 كيلومتر داخل هذا البلد. لكن بعض الخبراء يلاحظون أن الإمكانات المتاحة والمتوافرة طبيعياً لمكافحة التصحر لم يتم توظيفها بشكل مدروس ونزيه تماشياً مع أهداف مخطط العمل الوطني لمكافحة التصحر (NAPODR).
ويصبح تعويض استعمال الحطب والفحم أمراً واجباً وضرورياً للحد من تفاقم خطر التصحر. وقد كشفت الاستنتاجات الأولية لتحقيق قام به فريق من طلاب جامعة الخرطوم أن الافراط في استغلال الحطب هو السبب الرئيسي للتدهور الخطير في شمال منطقة الجزيرة. ولحل ذلك أوصوا بالتعجيل في إدخال مصادر الطاقة المتوافرة في السودان لسد حاجات السكان المتنامية. ومن هذه المصادر يمكن للسودان حالياً استغلال الغاز الطبيعي، في انتظار تطوير طاقة الشمس والرياح وحرارة جوف الأرض.
لمن يعود القرار؟
فيما كنا نهمّ بمغادرة القرية المنسية وآثارها الخاوية، عادت الى أذهاننا أبيات من شعر العرب تنتحب على الأطلال ووحشة المكان، وعاد صوت الشيخ مولى الى آذاننا، لكن هذه المرة ثابتاً قوياً: ''في السنوات الأخيرة، ومنذ ازداد عدد السيارات التي تجوب هذه الأراضي بعيداً عن الطرق المعبدة، خصوصاً مركبات الوزن الثقيل والدفع الرباعي التي تسير بسرعة آكلة الأرض وما عليها، بدأنا نلاحظ تدمير بعض النباتات وانخفاض قدرة بعضها على التجدد، وهي التي كانت في ما مضى مصدراً للتداوي من علل جمّة وعلفاً للماشية''. وأضاف أن رص التربة بفعل ضغط عجلات المركبات المتواصل جعل نمو الأخضر مستحيلاً كما زاد من الانجراف الريحي للتربة.
وهذا بالتحديد رأي الباحثين العلميين الذين يتابعون الظاهرة وانتشارها، لكنه يلقى الإهمال من أصحاب القرار. وهو يفسر بشكل مقنع فشل البرامج التي تعتمد بالأساس على العمل الجواري القائم على المزارعين والمربين والبدو المرتحلين لغياب هذا الطرف الأساسي.
أما الحكومة السودانية، فلها رأيها الخاص، إذ تجد أن عملية مكافحة التصحر ليست قضية بلد دون غيره، مبرزة موقع السودان المنفتح على تسع جبهات، بينها ما هو متصحر وما هو مهدد بالتصحر مثل كينيا والصومال. هذا الواقع المفروض بثقله يستدعي التعاون والتنسيق، حتى لو كان الخطر على مستوى الحدود فقط، فالحدود النائية لبلد قد تكون أطراف مدن في بلد آخر. وتتعالى أصوات بعض المسؤولين السودانيين لتطالب الهيئات الدولية بتمويل بعض المشاريع ذات الصفة الإقليمية التشاركية، ودعم التبادل في المجال العلمي البحثي، خصوصاً ما يتعلق بالقارة الأفريقية.
في انتظار خطوات عملية ميدانية عاجلة، يتحول السودان في صمت مرعب الى امتدادات متصحرة تلفحها الحرارة الشديدة. وينبه الدكتور عباس شاه الدين: ''في المقابل نجد أن المبادرات التي انطلقت مؤخراً تسير بصورة محتشمة ولا ترقى للمأمول. وما دامت وزارة الموارد المالية غير مُدرجة ضمن الهيئات المشرفة على عملية مكافحة التصحر، فسأظل غير متفائل بمستقبل هذا البلد".
إن ما يُخشى فعلاً، في رأي جل من التقيناهم، ليس فقط ظاهرة التصحر، بل أيضاً ظاهرة خصخصة مشروع الجزيرة الجارية حالياً. فهي بالنسبة الى كثير من المتابعين تهديد للأمن الغذائي السوداني، من جراء التحول الى الزراعات الأحادية التي ستستحوذ على المساحات الخصبة الشاسعة، وهي ما تبقى من عرق المزارعين البسطاء الذين تحملوا الحرور والحاجة ليوفروا الغذاء بسعر معقول للاستهلاك المحلي قبل التصدير.
هذا القرار سيكون بمثابة القطرة التي يفيض معها ما لم يكن في حسبان أهل القرار، وقد تجرف آمالاً وخبرة زراعية عريقة كان من الممكن أن تجعل من السودان سلة غذاء كل أفريقيا.