يهدد استمرار تدهور التربة والتصحر وشح المياه الانتاجية الزراعية في معظم البلدان العربية، خصوصاً نتيجة الممارسات التقليدية. وأبرز أعراض تدهور التربة تعريتها بفعل المياه والرياح، وتراصّها، وتكرر حالات جفافها. وتتناقص مستويات المحاصيل، لكن المزارعين يحافظون عليها بزيادة الأسمدة والمياه.
يتطلب الوضع الحالي للزراعة التقليدية تغييراً صارماً لنظم الانتاج الزراعي، واعتماد نظم تحمي الحقول من جريان مياه الأمطار، والتربة من التعرية، وتحافظ على خصوبة التربة من خلال استعادة المواد العضوية والمغذيات النباتية التي فقدت من الحقل، إضافة الى زيادة القدرة على تخزين المياه في التربة.
الزراعة الحمائية (conservation agriculture) تستجيب لهذه المتطلبات وتعمل بانسجام مع الطبيعة. وهي تهدف الى تحقيق زراعة مستدامة ومربحة، وبالتالي الى تحسين سبل عيش المزارعين من خلال تطبيق ثلاثة مبادئ: أدنى تشويه ممكن للتربة، وغطاء دائم للتربة، وتناوب المحاصيل. انها وسيلة للجمع بين الانتاج الزراعي المربح والاعتبارات البيئية والاستدامة.
تتسبب الزراعة الحمائية في تشويه قليل جداً للتربة، بالامتناع عن الحراثة (صفر حراثة) والاستعمال المتوازن للمدخلات الكيميائية (فقط ما يقتضيه تحسين نوعية التربة والمحصول الصحي النباتي والحيواني) والادارة المتأنية للمخلفات الزراعية. لا تُحرث الحقول لطمر الأعشاب الضارة والنباتات الجافة. وتوفر النباتات العلفية والجذامة (ما يتبقى من الزرع بعد الحصاد) غطاء واقياً للتربة. وهذا يساعد في التقليل من تعريتها، ويوفر موائل لحشرات وكائنات برية أخرى مفيدة. ولتأمين تربة خصبة، ينبغي تحقيق صيغة ''أطعمني أطعمك''. وتكدس التربة غير المشوهة مستويات أعلى من المواد العضوية الضرورية لحسن تركيبتها ولتغذية بلايين الكائنات الحية الدقيقة الموجودة فيها، والتي تحسن خصوبتها. أما حرق المخلفات الزراعية في الحقل فيجوِّع الكائنات الحية الدقيقة المفيدة.
مبادئ الزراعة الحمائية
تشويه التربة بحد أدنى: التربة محيط حي تتراكم فيه الكائنات الحية، التي تتلف بتعرضها لأشعة الشمس والجفاف السريع. وتزيد الحراثة جفاف التربة وتؤدي الى تراصّها، ما يخفض ارتشاح المياه وعملية التهوئة.
ومن الحلول العملية الغرس المباشر في المهاد (مواد واقية للتربة مثل التبن والقش وورق الشجر)، باستعمال معدات يدوية مثل المعاول أو حدّ أدنى من الحراثة، حيث يُشق ثلم بأداة مستدقة.
الحفاظ على غطاء التربة: يجب حماية التربة من أثر قطرات المطر وسرعة الريح وحرارة الشمس، بغطاء من مخلفات المحاصيل أو أعشاب التغطية مثل البيقة التي هي نبات علفي يزرع لوقاية التربة من التعرية في الشتاء. وغطاء التربة الذي يتكون من مخلفات نباتية يخفض تعريتها عن طريق تعزيز ارتشاح المياه وتخفيض التبخر. كما أن غطاء التربة (المهاد أو المواد العضوية) يخلق أيضاً بيئة مؤاتية لحياة ترابية، ويعوق نمو الأعشاب الضارة، وبذلك يخفض الحاجة الى أيد عاملة وتكاليف لازالة هذه الأعشاب.
إن تنوع وكثافة الحياة الترابية في حقول الزراعة الحمائية تشبه تنوع وكثافة الحياة في التربة غير المشوهة تحت أشجار الغابات. وبيَّن باحثون أن معدل الانتاج السنوي للكتلة الحيوية في غابة طبيعية يبلغ نحو خمسة أضعاف المعدل في مزرعة تقليدية ذات حجم مماثل تستخدم مدخلات كيميائية على نطاق كامل.
العقبة الرئيسية التي تعترض الزراعة الحمائية في المناطق الجافة هي اقامة غطاء للتربة، ليس فقط لأن انتاج الكتلة الحيوية يكون منخفضاً، بل أيضاً لأن مخلفات المحاصيل تستخدم كعلف للمواشي، خصوصاً لرعي الأغنام والماعز. وهناك أيضاً العادات السيئة لمزارعين يلجأون الى حرق المخلفات النباتية لاعتقاد خاطئ أن النار ''تنظف'' أراضيهم من الآفات.
في حالة الزراعة التي تعتمد على المطر، هناك حاجة عاجلة لنظم انتاج تستفيد بكفاءة أكبر من مياه الأمطار الشحيحة، وتقلل من خطر دمار المحصول بسبب نوبات الجفاف أثناء موسم النمو. وهذا يمكن تحقيقه بزيادة ارتشاح المياه وتخزينها في منطقة جذور النباتات. والخيارات الرئيسية في هذا المجال هي التقنيات التقليدية التي تركز على مكافحة التعرية وحصاد المياه، ونظم الزراعة الحمائية التي تقلل من الحراثة أو تمتنع عنها. لذلك، يمكن اعتبار الزراعة الحمائية شكلاً من حصاد المياه، حيث يُعاق جريان مياه الأمطار وتخزن مياه التربة في منطقة جذور المحصول.
تناوب المحاصيل: إن تناوباً مناسباً للمحاصيل، يجمع بين الحبوب والبقول، يسمح بادارة وصون نظام غني بمغذيات التربة، ويساهم في منع تفشي الآفات والأمراض
تطبيقات عالمية
تزداد الأراضي الخاضعة للزراعة الحمائية سنة بعد أخرى. وقد شوهد انتشارها الأسرع في أميركا الجنوبية، خصوصاً في البرازيل والأرجنتين وباراغواي، حيث يخضع 60 في المئة من الأراضي المزروعة لنظم مبنية على عدم الحراثة. والبلدان الأخرى التي لديها مساحات كبيرة خاضعة للزراعة الحمائية هي الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا.
في الولايات المتحدة، تتزايد الأراضي الزراعية الخاضعة لحراثة حمائية سنة بعد أخرى، اذ وجد المزارعون فائدة في التخلي عن محاريثهم. ويقدر مركز معلومات التكنولوجيا الحمائية (CITC) أن أكثر من 40 في المئة من جميع المحاصيل في الولايات المتحدة تخضع الآن لممارسات الحراثة الحمائية.
وأظهر باحثون أن المكاسب الاقتصادية للزراعة الحمائية كبيرة أيضاً، علاوة على فوائدها البيئية، اذ تقل كثيراً الحاجة الى المعدات، وتطول كثيراً حياة الجرّارات بسبب قلة الاستعمال.
وهناك فوائد ومكاسب بيئية متعددة، منها: تعرية أقل للتربة، تركيبة وخصوبة أفضل للتربة، مزيد من التنوع البيولوجي، نمو سريع للمحاصيل، أيد عاملة أقل، عدد أقل من الماكينات المطلوبة، استعمال أقل للوقود، انخفاض انبعاثات غازات الدفيئة، انخفاض التكاليف، وغذاء أرخص ثمناً.
ان العامل الرئيسي المسبب لتدهور التربة، خصوصاً في المناطق الجافة وشبه الجافة، هو الحراثة التقليدية. فالحراثة المفرطة بواسطة الجرّار، فضلاً عن ازالة مخلفات المحاصيل أو حرقها أو رعيها، تجعل التربة مكشوفة على أخطار مناخية مثل سقوط المطر وأشعة الشمس وحركة الريح. هذه الممارسة أدت الى فقدان المواد العضوية من الطبقة العليا للتربة السطحية، وأحدثت انضغاطاً خطيراً وسحقاً للتربة السطحية خلال العقود الأخيرة، خصوصاً في البلدان العربية. ومع مرور السنين، انخفضت المحاصيل الزراعية بشكل كبير بسبب تدهور التربة وانخفاض قدرتها على ترشيح مياه الأمطار وتخزينها. بكلمات أخرى، أدت الحراثة الآلية لمكافحة الأعشاب الضارة وتحضير مسطحات زرع البذار الى تراجع كبير في محتوى التربة من المواد العضوية، ما أدى الى انضغاطها وانخفاض جودتها ومحاصيلها.
الممارسة القياسية للزراعة الحمائية في العالم هي ''لا حراثة''، وهذا لا يحتاج الى أي تحضيرات للتربة على الاطلاق. وتشمل الأشكال الأساسية للحراثة الحمائية:
لا حراثة: تُنشر مخلفات المحاصيل السابقة على الحقل فتوفر غطاء بنسبة 30 في المئة على الأقل طوال السنة. وتزرع البذار في شق ضيق يحفر في التربة. وغالباً ما تتم مكافحة الأعشاب الضارة بواسطة مبيدات الأعشاب.
الحراثة الضلعية: لا لزوم لأي تحضيرات للتربة، باستثناء إعداد الأضلع (حافات متطاولة في التربة). تزرع البذار على طول الأضلع، وتترك مخلفات المحاصيل بين الأضلع.
حراثة بحد أدنى: ان شقّ أثلام للزرع يحسن ارتشاح المياه ويوفر النفقات ويسمح بزرع البذار في الوقت المناسب. وهو بديل فعال للمناطق الجافة وشبه الجافة ذات الغطاء الترابي المتدني (30% أو أقل).
حراثة مع وجود المهاد: حراثة قليلة العمق تترك أكثر من 30 في المئة من الحقل مغطى بالقش والنباتات العلفية والجذامة ومخلفات المحاصيل السابقة.
الزراعة الحمائية في لبنان
مع ازدياد تدهور الأراضي في لبنان، والتنافس على الأرض والمياه، والتناقص الكبير في الموارد المائية، تبرز حاجة الى تبني طرق زراعية جديدة تحسن نوعية الأراضي وتؤدي الى انتاج ''محصول أكبر لكل قطرة".
بدأت الوكالة الألمانية للتعاون الفني (GTZ) عام 2007 أول مشروع للزراعة الحمائية في لبنان تحت شعار ''تطوير زراعة تغذيها الأمطار وفق مبدأ صفر حراثة''. وذلك بالاشتراك مع المركز العربي لدراسات المناطق القاحلة والأراضي الجافة (أكساد) وبالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت ووزارة الزراعة ممثلة بالمعهد اللبناني للأبحاث الزراعية في تل عمارة (البقاع) ومزارعين. وقد ازداد عدد المزارعين والمساحة الخاضعة للادارة الحمائية، من مزارعَيْن اثنين ومحطتي أبحاث بمساحة إجمالية بلغت 8 هكتارات في السنة الأولى (2007) الى ما يزيد على 60 مزارعاً وأكثر من 1100 هكتار في السنة الثالثة (2009). وقرر هؤلاء المزارعون مضاعفة المساحة الخاصة للزراعة الحمائية في موسم 2009 ـ 2010.
في موسم 2008 ـ 2009، سجل محصول خليط الشعير والبيقة في موقع مركز الأبحاث والتعليم الزراعي التابع للجامعة الأميركية في البقاع، الخاضع لادارة الزراعة الحمائية، زيادة بمعدل 32 في المئة من أربعة حقول بالمقارنة مع الزراعة التقليدية التي تعتمد على الحراثة. وتبين أيضاً أن تطبيق تقنية الزراعة بلا حراثة تقلل من خسارة المياه عن طريق التبخر.
وأشارت المعطيات في السنتين الأوليين الى أن انتشار الأعشاب الضارة أصبح أقل مما في الحقول المزروعة تقليدياً. وسجلت أيضاً زيادة في النشاط البيولوجي. ويشكل دود الأرض مؤشراً جيداً على حياة ترابية سليمة، وقد ازداد عدده أكثر من خمسة أضعاف خلال سنتين فقط من ادخال الزراعة الحمائية.
وشكل انخفاض تكاليف الانتاج الميزة الأكثر جاذبية للمزارعين. أما الميزات الأخرى للزراعة الحمائية فلن يتعرفوا عليها إلا بمرورالوقت. فقد انخفضت تكاليف الانتاج منذ الموسم الأول وما بعده، خصوصاً تكاليف الوقود والبذار والأيدي العاملة. وتبين أن كلفة انتاج المحاصيل الحقلية انخفضت نحو 350 دولاراً للهكتار بالمقارنة مع الممارسات التقليدية. ونجحت المحاصيل الصيفية المروية، مثل الذرة العلفية والبطاطا والخضار التي زرعت وفق مبدأ تناوب المحاصيل في المواقع الاختبارية في سهل البقاع. وتعلق الآمال على التجارب الناجحة للزرع المباشر للذرة والري بالتنقيط.
تم أيضاً تطبيق تقنيات الزراعة الحمائية في بساتين الأشجار المثمرة. تقليدياً، يحرث المزارعون التربة تحت أشجار الفواكه والكرمة والزيتون، خشية أن تزاحمها الأعشاب الضارة على المياه. لكن هذه الممارسة مكلفة، كما تسهل تعرية التربة واحتمال إلحاق الأذى بجذور الأشجار، مما يقلل نشاط الجذور ويعرضها للاصابة بأمراض فطرية. وأظهرت تجارب أجراها في سورية المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة، وتجارب مراكز بحوث في بلدان متوسطية مثل اسبانيا وايطاليا، أن المزاحمة على المياه لا تنمّ إلا عن نصف الحقيقة. ففي المقابل، النمو المراقب للبقول العلفية أو حتى النباتات الطبيعية يمنع جريان مياه الأمطار، وبذلك يحول دون هدر المياه ويحد من تعرية التربة ويزيد انتاجيتها. ويحاول المزارعون الآن ممارسة زرع خليط البرسيم وأعشاب من عائلة الشعير والبقول كمحصول تغطية في بساتينهم.
لقد ازداد الاهتمام بالزراعة الحمائية لدى الجهات المعنية في القطاع الزراعي في لبنان. ويؤكد باحثون أنها ستتوسع وتصبح مقبولة أكثر فأكثر من أجل تحقيق زراعة مستدامة وفوائد اقتصادية وحماية البيئة.
برتولد هانسمان مستشار تقني لدى GTZ وبوغوص غوكاسيان مدير الأبحاث في مجلة ''البيئة والتنمية".