''آيا ـ فيالا ـ يوكول''، بركان آيسلندا الذي عطل حركة الطيران في أوروبا أسبوعاً، وأصاب الاقتصاد العالمي بخسائر مباشرة تجاوزت بليوني دولار، يعتبر صغيراً جداً بالمقارنة مع الانفجارات البركانية الكبرى. فقد انحصر أثره على السكان بإجلاء 800 فرد يعيشون في المنطقة المحيطة بالنهر الجليدي الذي يقع البركان تحته، على بعد 120 كيلومتراً من ''ريكيافيك'' عاصمة آيسلندا. أما أثره الصاعق فكان بسبب اتجاه الرياح وقوتها، وهي أوصلت الغبار البركاني الى ارتفاع بلغ 12 كيلومتراً، من آيسلندا باتجاه الأجواء الأوروبية المزدحمة بخطوط عبور الطائرات، ما أدى الى إلغاء مئة ألف رحلة جوية لنقل الركاب والبضائع.
لكن هذا ليس الانفجار البركاني الكبير الأول منذ توسع شبكة النقل الجوي. ففي عام 1991 حصل انفجار بركاني أضخم كثيراً في بركان "بيناتوبو" في الفيليبين، أدى الى مقتل 800 شخص وتهجير 100 ألف. وتسببت السحب البركانية المنبعثة منه بتغيير في المناخ استمر حتى عام 1993، حيث انخفض معدل الحرارة العالمية 0,6 درجة مئوية. لكن تلك المنطقة لم تكن مزدحمة بالمعابر الجوية، فلم يلاحظ الناس إلغاء القليل من رحلات الطائرات.
نحن بالفعل محظوظون لأن أضرار البركان الآيسلندي انحصرت في تعطيل حركة الطيران، وأن بركان ''كاتلا'' المجاور، الذي يتبع انفجاره عادة صحوة ''آيا ـ فيالا ـ يوكول''، لم ينفجر، وكان آخر انفجار كبير له حصل عام 1918. ومع انه لا يمكن التنبؤ بدقة بحركة البراكين، الا أن العلماء لم يجدوا اشارات ظاهرة عن قرب انفجار ''كاتلا".
عام 1783، أدى انفجار بركان ''لاكي'' في آيسلندا أيضاً، الذي استمر ثمانية أشهر، الى سحابة سوداء غطت أوروبا من شمالها الى جنوبها، ووصلت الى حلب ودمشق وبيروت. 9000 شخص قتلوا، ونفقت ملايين الحيوانات. المطر الحمضي والرماد البركاني أديا الى موت مساحات شاسعة من الغابات، والقضاء على المزروعات، مما تسبب بمجاعة كبيرة. ويقال ان هذا كان أحد الأسباب الرئيسية للثورة الفرنسية التي انطلقت بعد 6 سنوات من انفجار ''لاكي''، فاستقطبت الى صفوفها الجياع والمعوزين.
ذكريات البراكين حاضرة في الأدب والفن أيضاً. فحين انفجر بركان ''تامبورا'' الاندونيسي عام 1815، أدت السحب البركانية الى حجب نور الشمس عن أجزاء كبيرة من الأرض لفترة طويلة، مما جاء بموجة جليد ضربت إيطاليا في حزيران (يونيو)، وعواصف ثلجية في ولاية فرجينيا الأميركية في تموز (يوليو)، واكتست السماء بمزيج من الألوان الشاحبة والحمراء، ظهرت في لوحات العديد من رسامي القرن التاسع عشر. كما أن الشاعر البريطاني المعروف ''لورد بايرون''، الذي كان يسكن مدينة جنيف في ذلك الوقت، كتب قصيدة بعنوان ''الظلمة'' يصف فيها الوضع: "الصباح أتى، وذهب، ثم أتى، لكنه لم يحضر معه النهار".
وقد يكون بركان ''كراكتوا'' في إندونيسيا، الذي انفجر عام 1883، هو الأكبر خلال المئتي سنة الأخيرة، اذ تجاوزت قوته قنبلة هيروشيما الذرية بما يقارب 13 ألف ضعف، فقتل 36 ألف شخص، وأرسل ثلثي أرض الجزيرة الى أعماق البحر. وبعد ثلاثة أشهر على انفجاره، ضرب تسونامي كبير شواطئ إندونيسا. وأدى انفجار ''كراكتوا'' الى تغير لون السماء وانخفاض درجات الحرارة حول العالم لسنوات.
أما أقرب ''بركان حي'' الى المنطقة العربية فهو ''إتنا'' في صقلية جنوب إيطاليا، الذي يقذف الحمم منذ 3500 عاماً بلا توقف، لكن المنطقة المحيطة به غير مسكونة، وسحبه البركانية منخفضة ولا تذهب بعيداً.
الكوارث، من زلازل وفيضانات وبراكين، ظواهر طبيعية ذات آثار متفاوتة. فالدمار من الزلازل والفيضانات كبير ومباشر، لكنه محصور في مكان الحدث وتاريخه. زلزال الصين عام 1975 أدى الى مقتل 250 ألف شخص، وتسونامي المحيط الهندي عام 2004 قتل 250 ألف شخص آخرين. أما الانفجارات البركانية المدونة خلال مئات السنين، فهي مجتمعة لم تقتل هذا العدد من البشر. غير ان آثار الانفجارات البركانية بعيدة المدى، لان السحب الناجمة عنها تغطي مناطق واسعة من العالم وتؤدي الى تغير في المناخ وتلوث في الهواء وتسمم في التربة والمياه.
الطريف أن عالم البراكين طوم موراي احتجز في باريس الشهر الماضي بسبب توقف حركة الطيران، ولم يتمكن من العودة الى مقر عمله في ألاسكا بعد مشاركته في اجتماع حول الرصد البركاني. وهو قال معلقاً على ذلك ان بنيامين فرنكلين، أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية، تعرض لظروف مماثلة عام 1783، حين كان يقيم في باريس كأول ممثل ديبلوماسي أميركي في فرنسا. فقد كتب فرنكلين في مذكراته يصف الجو المغشّى بالغبار الذي تسببت فيه ثورة البركان الآيسلندي ''لاكي''. ومع أن الوقت كان صيفاً فهو تحدث عن ''برودة غير عادية في الجو تسود أوروبا وأميركا، حيث تساقطت الثلوج... وجاء الشتاء أشد قسوة، ورأينا ما يشبه ضباباً لا ينقشع يغطي كل أنحاء أوروبا وجانباً من الشمال الأميركي".
التاريخ يعلمنا أن انفجار البراكين ظاهرة طبيعية، وأن ما حصل الشهر الماضي في آيسلندا كان انفجاراً ''لطيفاً".