من تشرنوبيل في أوكرانيا الى أورويا في البيرو، تنتشر حول العالم أراض مهملة ملوثة بالسموم خلفتها صناعة البشر. ويعمل معهد بلاكسميث لأبحاث الصحة البيئية، ومركزه مدينة نيويورك، على إعداد جردة عالمية للمواقع المسمومة في 80 بلداً نامياً، بتمويل من الاتحاد الأوروبي. وقد بلغت الحصيلة نحو 1000 موقع حتى الآن وينتظر أن تبلغ ما بين 2500 و3000 موقع عند اكتمال الجردة في غضون سنتين.
ويتعاون المعهد مع منظمة ''غرين كروس'' السويسرية، المهتمة بمعالجة أضرار الكوارث الصناعية والعسكرية، لاستقصاء عمليات تنظيف مواقع شديدة التلوث في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية. وأصـدر مؤخراً تقريراً يفصّل 12 قصة نجاح في هذا المضمار. وقال رئيسه ريتشارد فولر: ''لم نستطع العثور إلا على 12 موقعاً. لو كان الوضع هكذا في الغرب لقام احتجاج جماهيري صارخ، ولأنفقت بلايين الدولارات على أعمال التنظيف. لقد شحنّا صناعاتنا القذرة الى الخارج، وانتقل التلوث معها".
وثّقت تقارير معهد بلاكسميث السابقة أسوأ مشاكل التلوث في العالم، مثل النفايات السامة وتلوث الهواء والتربة والمياه وصهر المعادن واعادة تدوير بطاريات السيارات المستعملة والتنقيب اليدوي عن الذهب. وهذه تضر بصحة الانسان مثل مرضى الايدز والملاريا، لكنها تلقى القليل من الاهتمام أو التمويل الدولي. وقد ركز المعهد السنة الماضية على نجاحات في الاستصلاح، ليظهر أن الحلول ليست مستحيلة، بل ليست صعبة أحياناً، خصوصاً أن البلدان الغنية سبق أن نظفت كثيراً من مواقعها الملوثة ولديها المعارف والتكنولوجيات اللازمة. وأشار التقرير الى أن هذه المشاكل يمكن تذليلها حتى بتمويل محدود ومن خلال نماذج يمكن تكرارها في أنحاء العالم.
هناك قصتا نجاح على نطاق عالمي تمثلان تعاوناً دولياً واسعاً: التخلص المرحلي من البنزين المحتوي على رصاص، والحظر العالمي للأسلحة الكيميائية. وأفاد التقرير أن استعمال البنزين المحتوي على رصاص ـ هذا المسمَّم العصبي الذي ارتبط طويلاً بارتفاع مستويات الرصاص في دم الأطفال ـ بات ينحصر حالياً في 11 بلداً. أما اتفاقية الأسلحة الكيميائية، التي صادق عليها 188 بلداً، فتعمل على التخلص من المخزونات العالمية لهذه الأسلحة بحلول سنة 2021، بما في ذلك كميات كبيرة تمتلكها الولايات المتحدة وروسيا.
مناطق باتت مأمونة للعيش
من التجارب الناجحة التي فصَّلها التقرير برنامج في أكرا عاصمة غانا لصنع وتركيب مواقد طبخ عالية الكفاءة لتحسين نوعية الهواء داخل المنازل. فتلوث الهواء الداخلي نتيجة حرق الكتلة الحيوية في مواقد تقليدية ينبعث منها دخان كثيف، يؤدي الى وفاة نحو ثلاثة ملايين شخص قبل الأوان كل سنة.
مواقد الفحم والحطب الجديدة، المصنوعة محلياً والتي تسمى ''غيابا''، خفضت مستويات الجسيمات الضارة في المنازل بنسبة 40 الى 45 في المئة. فمنذ العام 2002، عملت شركتا ''إنتربرايز وركس غانا'' و''شل'' والوكالة الأميركية للتنمية الدولية على جمع شبكة من الحرفيين وأصحاب الأعمال المحليين لتصنيع هذه المواقد المعدنية وبطاناتها الخزفية بشكل مربح. ويتم دعم الطلب من خلال حملة توعية جماهيرية حول التأثيرات الصحية لنار الطبخ، بما فيها الأمراض التنفسية والوفيات. ومع نهاية العام 2009، تم بيع 100 ألف موقد، مما حسن صحة أكثر من نصف مليون شخص. ولكن لا يتوافر المال اللازم لادخال هذه المواقد الى منازل نحو 500 مليون عائلة فقيرة حول العالم تحتاج اليها. فكل موقد يكلف ما بين 30 و50 دولاراً، وهي باهظة الثمن نسبياً ولا يستطيع معظم الفقراء شراءها من دون مساعدة.
وفي مدينة دلهي الهندية التي يعاني أهلها من تلوث الهواء والأمراض التنفسية، قامت الحكومة باستبدال حافلات الديزل المدخّنة بحافلات تعمل على الغاز الطبيعي، وفرضت على المركبات الأخرى أنظمة أكثر صرامة تتعلق بالملوثات، فتحسنت نوعية الهواء بشكل كبير. وأظهرت دراسات أن الديزل الأنظف ومصافي الكربون الأسود (السخام الناتج من الاحتراق غير المكتمل) قد تخفض الانبعاثات من محركات المركبات بنسبة 90 في المئة.
وتتناول حالة نجاح أخرى التقدم الذي تم احرازه في باخوس دي هاينا في جمهورية الدومينيكان، حيث تمت ازالة ألوف الأمتار المكعبة من التربة التي لوثتها عمليات اعادة التدوير العشوائي لبطاريات السيارات، حتى وُصمت المنطقة بأعلى نسبة لحالات التسمم بالرصاص في العالم. وقد أزيلت الأتربة الملوثة من مناطق مأهولة وتم التخلص منها على نحو صحيح.
وفي أولد كوروغوي في تنزانيا، تمت إزالة مخزون 86 طناً من المبيد ''د.د.ت'' المحظور والمرتبط بوفيات بشرية وحيوانية نتيجة تلوث التربة والنهر المجاور، وشحنت الى ألمانيا لحرقها. وأفادت منظمة ''غرين كروس'' أن ''المنطقة حالياً نظيفة ومأمونة للعيش".
حتى الاشعاعات المتبقية من تشرنوبيل، حيث وقع أسوأ حادث للطاقة النووية في العالم، أمكن تخفيفها. فمن شأن وضع تغليفة جديدة متطورة حول الجزء المنصهر، وتدخلات طبية ونفسانية وتعليمية، تخفيض التعرض للاشعاع بنسبة 80 في المئة وتحسين حياة سكان المناطق المتأثرة ومصادر رزقهم.
ومن البرامج الناجحة الأخرى: التخلص من نفايات صهر النحاس وفصلها عن مصادر المياه المحلية في كانديلاريا في تشيلي، وتخفيض التسمم بالزرنيخ في غرب البنغال عن طريق إزالة هذه المادة الموجودة طبيعياً في مياه الآبار، وإدخال تقنيات جديدة لتخفيض التسمم بأبخرة الزئبق الناتجة من التنقيب اليدوي عن الذهب في كاليمنتان باندونيسيا، وإقامة شبكات صرف صحي جديدة في شانغهاي بالصين لاقصاء المياه المبتذلة عن مجرى مائي يزود ملايين الأشخاص بمياه الشفة، وازالة تربة ملوثة بالرصاص من ملاعب الأطفال في منطقة رودنايا بريستان في روسيا من أجل تخفيض نسبة الرصاص في دمائهم.
وأشار ريتشارد فولر الى أن بلداناً مثل الصين، تملك الآن الموارد، بدأت إجراء تقييمات شاملة وسوف تنظف آلاف الأراضي والأنهار الملوثة بفعل نموها الاقتصادي السريع. وقد بدأ الناس هناك يفهمون العلاقة بين التلوث وصحتهم، وهذا مفقود في بلدان أخرى كثيرة. وأضاف: ''أُبلغت أن 60 في المئة من الانتفاضات والقلاقل المحلية ضد الحكومة في الصين هي بسبب مشاكل التلوث".
ويعمل معهد بلاكسميث على تأسيس صندوق للصحة والتلوث يأمل أن يجمع ما بين 500 مليون وبليون دولار من بلدان وجهات مانحة، لتنظيف أسوأ مواقع التلوث في البلدان الفقيرة.