بينما العرب في غفلة، تجتمع دول حوض النيل في غياب مصر والسودان، وتتفق على خطة لتقاسم المياه. إثيوبيا، التي هي مصدر 85 في المئة من النيل الأزرق، لا تستطيع استغلال إلا جزء قليل من مياهه، لأنه يعبر المناطق المنخفضة فيما مناطقها الزراعية في المرتفعات. لكنها تطالب بالحق في بناء السدود لانتاج الطاقة الكهربائية، لتصديرها إلى أوروبا. الخطير في الأمر المطالبة بالحصول على «حصة عادلة» من مياه النيل، مع حق بيعها إلى دول أخرى. وقد جاء هذا العرض استجابة لطلب إسرائيل شراء المياه من دول المنبع. وإذا كان بناء السدود لتوليد الكهرباء لا يؤثر على كمية المياه المتدفقة إلى السودان ومصر، فعرض مياه النيل للبيع كسلعة تجارية يشكل كارثة.
يعبر النيل عشرة بلدان، قبل أن يصب في الدلتا المصرية على البحر المتوسط. «النيل الأبيض» ينطلق من بحيرة فكتوريا بين كينيا وأوغندا، بينما ينبع «النيل الأزرق» في إثيوبيا. ويلتقي النهران في السودان، ليتابعا في مجرى واحد إلى مصر. 90 في المئة من مياه النيل تصل اليوم الى السودان ومصر، اللتين منحتهما اتفاقية وقعت عام 1929 حق الفيتو على أية مشاريع لبناء سدود أو تعديل في استخدامات المياه في مجاري النهر العليا. الدول المجتمعة في أوغندا قررت إنشاء هيئة مشتركة لادارة النيل، وفق معايير جديدة تلغي الاتفاقات السابقة.
على المقلب الآخر، يواجه العراق وسورية نقصاً متعاظماً في المياه، بسبب انخفاض التدفق من تركيا، حيث منابع دجلة والفرات، فيما وصل الوضع في الأردن والأراضي الفلسطينية إلى أخطر درجات الشح الحاد، بعدما أحكمت اسرائيل قبضتها على مياه نهر الأردن وسرقت المياه الجوفية. أما لبنان، فيخسر معظم مياهه إما هدراً في البحر وإما بسبب التلويث وسوء الادارة.
ليس علينا انتظار مضاعفات اتفاق أوغندا ولا آثار تغير المناخ. فالعرب في مهبّ الكارثة المائية، اليوم. الأرقام المعتمدة حتى وقت قريب كانت تقدر حصة الفرد من المياه في مصر بحدود 750 متراً مكعباً سنة 2010، استناداً إلى تدفق في مياه النيل مقداره 55 بليون متر مكعب. كمية المياه التي تصل مصر من النيل لا تتجاوز اليوم 44 بليون متر مكعب سنوياً، ما يعني أن حصة الفرد الفعلية لا تزيد عن 600 متر مكعب. أحدث التقارير تشير إلى أن 3 دول عربية هي في أدنى مراتب الفقر المائي من بين 180 دولة، وبين أسوأ 19 دولة في شح المياه هناك 13 دولة عربية. أربع دول عربية تقل فيها حصة الفرد من المياه العذبة عن 100 متر مكعب سنوياً (الكويت، الامارات، قطر، فلسطين). أربع دول يقل فيها الرقم عن 200 متر مكعب (ليبيا، السعودية، الأردن، البحرين). خمس دول تقل فيها حصة المياه للفرد عن 500 متر مكعب (اليمن، جيبوتي، عُمان، الجزائر، تونس). مصر ولبنان وسورية تقع على حدود ندرة المياه الحادة، أي أقل من ألف متر مكعب سنوياً. العراق والسودان فقط هما فوق خط الاجهاد المائي، أي أكثر من ألف متر مكعب للفرد سنوياً.
في تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية لعام 2008 توقعنا أن تكون سنة 2025 الموعد المشؤوم لهبوط حصة الفرد العربي من المياه، كمعدل عام للمنطقة، تحت حدود 500 متر مكعب، وهي أقصى حالات الفقر المائي. الأرقام التي بين أيدينا اليوم، والنتائج التي توصل إليها العاملون على التقرير الجديد للمنتدى، تظهر أننا فعلياً في قلب النكبة المائية، ولن يكون علينا انتظار سنة 2025 أو مفاعيل اجتماع أوغندا حول مياه النيل.
لماذا يُعتبر كل ما هو دون ألف متر مكعب سنوياً للفرد ندرة في المياه، وما دون 500 متر ندرة حادة؟ فلنعتبر: فنجان قهوة بحجم 200 مليليتر يحتاج إلى 140 ليتراً من المياه لانتاج البن المصنوع منه. التفاحة الواحدة تحتاج 70 ليتراً. كيلوغرام واحد من القمح يحتاج 1,300 ليتر. كيلوغرام من لحم العجل يحتاج 15,500 ليتر ماء لانتاجه. أما سروال «الجينز» فيستهلك نحو 11,000 ليتر من الماء، معظمها لري القطن.
لا يحتمل العرب خسارة قطرة ماء واحدة. على الحكومات فوراً ترشيد استخدام المياه، وتحديث أساليب الري. كما عليها معالجة مياه الصرف وإعادة استعمالها، وتطوير تكنولوجيات رخيصة وعملية لتحلية مياه البحر.
أي تأخير في التصدي الجدي لتحدي المياه هو انتحار جماعي. فالنكبة المائية تقرع أبواب العرب، الآن.
|