واجهت البيئة العراقية تحديات مختلفة، أهمها اثنان: الاستغلال العشوائي للموارد الطبيعية، والدمار والتلوث الناجمان عن الحروب، وما لذلك من انعكاسات على التنمية الاجتماعية وعلى حياة السكان وصحتهم.
ولعل أبرز أبعاد التلوث البيئي في العراق هو البعد الديموغرافي، بتأثيره العميق على عناصر النمو السكاني والولادات والوفيات. ويصنف العراق من الدول الفتية التي ترتفع فيها معدلات الطفولة والشباب، ويعتبر الانجاب من أولويات الزواج في العرف الاجتماعي للأسرة. ولكنه شهد في العقود الثلاثة الأخيرة ظروفاً استثنائية، من حروب عسكرية واقتصادية واحتلال. وتأثرت البيئة بالأسلحة المستخدمة في تلك الحروب. وهذا بدوره أثر على الإنجاب، خصوصاً مع ولادة أطفال مشوهين نتيجة التلوث الكيميائي. وقد أصيبت المرأة العراقية برعب الولادة، وقررت أسر كثيرة تحديد نسلها خوفاً من تكرار الحالة.
من جهة أخرى، ارتفع مؤشر وفيات الأطفال خلال العقود الثلاثة الماضية، خصوصاً في التسعينات، حيث سجل معدل 128 وفاة طفل لكل ألف ولادة، وهو الأعلى في تاريخ العراق وسببه غالباً التلوث البيئي والعوز الصحي. هذا فضلاً عن ارتفاع نسب وفيات الأجنة. كما تسجل نسب عالية جداً من حالات السرطان.
تلوث المياه والتربة
يعتبر نهرا دجلة والفرات المصدر الرئيسي للمياه في العراق، ويعول عليهما للشرب والري وسقي الماشية والصناعة وغير ذلك. إلا أن تركات الحروب المتوالية أثرت كثيراً في بيئتهما، خصوصاً المخلفات التي تحتوي على المواد المشعة، والمصانع والمستشفيات المجاورة التي غالباً ما تلقي مخلفاتها في مجاريهما. تضاف الى ذلك العمليات التخريبية التي تطال أنابيب نقل النفط المحاذية للنهرين والتي تسببت بتلوث كبير لنوعية المياه.
وتعتبر أسلحة الدمار الشامل وما لحق بالتربة من تلوث معقد من أكبر التحديات لاستراتيجيات الحكومة على المستويين الاقتصادي والصحي، علماً أن العراق كان حتى نهاية السبعينات يتمتع باحدى أنظف البيئات في العالم.
وتتعرض التربـة لجملة من التأثيرات بدرجات متفاوتة. ويعد عامل تملحها وانجرافها من أبرز العوامل التي تؤثر على نشاطها الحيوي. وبالنسبة الى تلوثها بالأسمدة والمبيدات، فان البيانات والدراسات المتاحة في هذا المجال محدودة جداً. ويتفق الباحثون على أن العراق لا يعاني من مشكلة التلوث بالأسمدة، بل أن استخدام الأسمدة لا يزال دون المستويات المطلوبة.
أما من ناحية تلوث التربة من الأنشطة الصناعية، فان الدراسات في هذا المجال أيضاً محدودة جداً. ويجدر بالذكر تأثير قصف منشآت النفط خلال الحرب عام 1991، حين قصفت أربع مصافي نفط كبيرة هي الشعيبة والناصرية والدورة وبيجي، التي تقع في المدن الرئيسية. كما دمرت محطات الإنتاج ومستودعات الخزن الكبيرة في حقول الرميلة والزبير ومنشآت الانتاج والتصفية في كركوك، فضلاً عن محطات الضخ على خطوط النقل ومستودعات المنتجات النفطية. وهذا أدى الى التلوث بالنفط ومشتقاته من خلال تسربها أو احتراق كميات كبيرة منها.
تلوث الهواء
الغبار المتساقط هو أحد المؤشرات المعتمدة لنوعية الهواء المحيط على مستوى المحافظات، خصوصاً المجاورة للمناطق الصحراوية. وقد أشارت الدراسات الى أن الغبار العالق هو المشكلة الرئيسية، يليه الغبار المتصاعد، ثم العواصف الترابية. وهذه ظواهر طبيعية مألوفة في العراق، لكنها أصبحت أكثر تكـراراً وشدة خلال العقد الأخير بسبب إزالة الغطاء النباتي وتوقف مشـاريع تثبيت الكثبان الرملية، خصوصـاً في المناطق الجنوبية، إضافة الى تأثيرات الجفاف خلال الفترة الأخيرة.
المرافق الصناعية مصدر رئيسي آخر لتلوث الهواء. وهي تشمل الصناعـات الكيميائية والبتروكيميائية والأسمدة والصناعات الانشائية، كصناعة الطابوق والاسمنت والإسفلت، بالإضافة الى الصناعات الهندسية والغذائية ومحطات توليد الطاقة. وغالبية المصانع داخل المدن قديمة ومستهلكة منذ أكثر من عقدين.
وتشكل وسائل النقل الحضري ملوثاً رئيسياً لهواء المدن والتجمعات السكانية الكبيرة. فهي متقادمة، وتستخدم البنزين المحتوي على الرصاص بنسبة عالية. ولذلك فان كمية الرصاص في هواء المناطق السكنية هي ضعفـا المستوى المسموح به دولياً، مما يتسبب بأضرار في الصحة البشرية ولا سيما لذوي الأعمار الحساسة. وهـذا ما يفسـر انتشار أمراض السرطان وضيق التنفس وغيرها من الأمراض الناتجـة عن تلوث الهواء.
كادر
نائب رئيس حزب الخضر العراقي: نحن في بلد الكوارث البيئية
نبيل زغدود (تونس)
أطلق حزب الخضر العراقي صيحة استغاثة حول تدهور البيئة في بلاد ما بين النهرين، مشيراً إلى أن قرابة خمسة ملايين نسمة في محافظات الانبار وكربلاء والنجف والسماوة والناصرية مهددون بالهجرة القسرية بسبب زحف الكثبان والتلال الرملية المتحركة على هذه المدن. وذلك نتيجة انجراف القشرة الأرضية في صحراء الربع الخالي شمال شرق السعودية من جراء الأعمال العسكرية خلال حربي الخليج الأولى والثانية.
وأكّد نائب رئيس الحزب الدكتور صالح الربيعي، خلال ندوة دولية نظّمها حزب الخضر للتقدّم التونسي الشهر الماضي حول «أي حقّ للأجيال القادمة في بيئة سليمة»، أنّ حزبه حذّر الحكومة العراقية مراراً من خطر التلوث البيئي وضرورة معالجته بأسرع وقت، ورفع الألغام، وتحميل الاحتلال مسؤولية الخراب البيئي، داعياً القوّات الأميركية وحلفاءها إلى ضرورة إصحاح البيئة العراقية من الدمار الذي حلّ بها نتيجة الحرب.
وفي حديث الى «البيئة والتنمية»، أكّد الربيعي أن بلاد ما بين النهرين تعاني من تصحر كارثي حيث دمرت جميع الأحزمة الخضراء المحيطة بالمدن والتي أنشئت منذ قرون، كما استحال أكثر من ثلث الأراضي الزراعية صحارى قاحلة تذروها الرياح. ووجه سهام نقده إلى السياسات غير العلمية وغير المسؤولة للنظام السابق والنظام الحالي، اللذين لم يتعاملا بجدية مع أزمة شحّ المياه. كما اتهم الدول المجاورة بتجفيف منابع المياه الرئيسية التي يتزوّد منها العراق، عبر إقامة السدود على نهري دجلة والفرات، وهو ما ساهم في تفاقم التصحر ونفوق الحيوانات في العراق.
ولفت الى أن التصحر لم يصب فقط الأراضي الواقعة على جانبي مجرى النهرين، بل ثمة كارثة بيئية أخرى متمثله بتجفيف مياه الأهوار التي تعد من أهم المناطق الرطبة في العالم، «هذه الثروة التي أقدم النظام السابق على ردمها وتجفيف منابعها وطمس معالمها التاريخية العريقة، مما تسبب في نزوح أكثر من نصف مليون نسمة، وهجرة الطيور، وموت الثروة السمكية وانقراض أسماك نادرة كانت تعيش في الأهوار".
وأقدمت الحكومة الإيرانية مؤخراً على تحويل مياه نهر كارون عن مجراه الطبيعي، بعد أن كان يصبّ في شطّ العرب ويساهم في سقي مئات آلاف الهكتارات الزراعية. وقد زادت هذه الخطوة في اتساع رقعة التصحر في شرق وجنوب البصرة، وبالتالي هجرة عشرات الآلاف من مزارعي كبرى المحافظات العراقية إلى المدن المجاورة. كما خلف هذا الإجراء دماراً هائلا في الثروات الحيوانية كالأسماك والطيور والحيوانات البرية، ومنها أنواع نادرة لا يمكنها العيش الا في الظروف البيئية في جنوب العراق. وفي هذا الإطار، أعرب الربيعي عن استهجان حزب الخضر العراقي لصمت الحكومة العراقية، التي لم تقدم على أيّ خطوة سوى برقيات الاحتجاج.
أما عن مسؤولية الاحتلال الأميركي في ما يعانيه العراق من كوارث بيئية تتربّص به، فتتمثّل في ما بيّنته الإحصاءات العراقية والدولية من وجود ملايين الأجسام القابلة للانفجار كالألغام والقنابل التي لا تزال منتشرة تحت السطح مشكلة تهديداً خطيراً على الزرع والضرع.
هذه الأوضاع جعلت الحزب العراقي يناشد المنظمات الدولية وغير الحكومية وأحزاب الخضر في العالم لمساعدته على إيجاد حلول عملية للخروج بالبيئة العراقية من أزمتها.