كثير من نظم الطبيعة الداعمة للحياة تكافح الآن للصمود في وجه إجهاد العصر الصناعي. فكيف تستطيع أن تتدبر أمرها مع سعي ملايين إضافية من الناس الى تحقيق مستويات الاستهلاك الغربية؟ هذا أمر مقلق جداً. المشاكل سوف تزداد سوءاً، وهي واقعية جداً. لقد دمر البشر 30 في المئة على الأقل من غابات المطر الاستوائية في العالم، واستمرار التدمير بهذا المعدل سيؤدي الى وضع مضطرب بحلول سنة 2050. في الواقع، خلال السنوات الثلاث منذ بدأت مشروعي الخاص بغابات المطر، بهدف المساهمة في ايجاد حل مبدع لزوال الغابات الاستوائية، فُقد أكثر من 30 مليون هكتار، وخسر معها هذا الكوكب نحو 80 ألف نوع من الأحياء. وعندما تعلم أن مساحة معينة من الأشجار الاستوائية تبخِّر ثمانية أضعاف كمية مياه المطر التي تبخرها رقعة مماثلة من المحيط، سرعان ما تعي كيف أن زوالها سيؤثر في انتاجية الأرض. فهي تنتج بلايين الأطنان من المياه كل يوم، ومن دون هذا الهطول المطري يصبح الأمن الغذائي في العالم مزعزعاً جداً.
لكن هناك حقائق أخرى. ففي السنوات الخمسين الماضية، أدت مقاربتنا الصناعية للزراعة الى تدهور ثلث التربة الفوقية للأرض. هذه حقيقة. كما أننا اصطدنا أسماك المحيطات بشكل مفرط، واذا واصلنا الوتيرة ذاتها مدة طويلة فقد نشهد انهيار المصايد العالمية خلال السنوات الأربعين المقبلة. هذه حقيقة أخرى. وهناك كميات ضخمة من النفايات التي تلوث الأرض، كما في المناطق الميتة الكثيرة التي لا يعيش فيها شيء عند مصبات أنهار رئيسية وفي أجزاء مختلفة من المحيطات، أو تلك التجمعات الهائلة من البلاستيك التي تطفو الآن في المحيط الهادئ. هل تصدقون أن واحدة من هذه التجمعات، قبالة ساحل ولاية كاليفورنيا الأميركية، تتكون من 100 مليون طن من البلاستيك، وقد تضاعف حجمها خلال العقد الماضي لتبلغ الآن نحو ستة أضعاف مساحة بريطانيا؟ ونحن ندعو أنفسنا متمدنين!
هذه كلها مشاكل واقعية للغاية، وهي حقائق، وجميعها نتائج واضحة لتصنيع الحياة. لكن الأقل وضوحاً هو الموقف منها والمنظور العام، اللذان يُديمان هذا المنهج التدميري على نحو خطير.انه منهج يناقض التقاليد المقدسة في العالم، بما في ذلك تعاليم الاسلام.
باختصار، عندما نسمع كلاماً عن «أزمة بيئية» أو حتى «أزمة مالية»، أرى أن ذلك يصف في الواقع النتائج الخارجية لأزمة داخلية عميقة تتعلق بالروح. انها أزمة في علاقتنا مع الطبيعة ونظرتنا اليها، وهي وليدة ثقافة غربية هيمن عليها منذ مئتي سنة على الأقل منهج ميكانيكي واختزالي بشأن فهمنا العلمي للعالم من حولنا.
القرآن الكريم يصف العالم الطبيعي المرة تلو المرة بأنه من صنع المحسن الواحد الأحد، وليس هناك ما يفصل بين الانسان والطبيعة اذ ليس هناك ما يفصل بين العالم الطبيعي والله. ويعرض القرآن صورة متكاملة للكون، حيث الدين والعلم، والعقل والمادة، جزء من كلٍّ حي وواع.
ان النمط التقليدي للحياة في الاسلام واضح جداً بشأن «المركز» الذي يُمسك بالعلاقة. ومما أعرفه عن تعاليمه الجوهرية وتفسيراته، فان المبدأ المهم الذي يجب أن نتذكره دائماً هو أن هناك حدوداً لعطاء الطبيعة، وهي ليست حدوداً تعسفية، بل حدود وضعها الله. فاذا كان فهمي للقرآن صحيحاً، فان المسلمين مأمورون بعدم تخطي هذه الحدود.
لقد تميز العصر الذهبي للحضارة الاسلامية، في القرنين التاسع والعاشر، بتقدم علمي مذهل معزَّز بفهم فلسفي للحقيقة ومتجذر في روحانية عميقة لاحترام العالم الطبيعي. انها رؤية متكاملة للعالم، تعكس الحقيقة الأزلية بأن كل الحياة متجذرة في أحديَّة الخالق. هذه هي شهادة الايمان، أفليست هي مكنونة في المفهوم التأملي لجوهر الحقيقة في القرآن؟ إنه مفهوم التوحيد، اي وحدة جميع الأشياء في كنف الوحدة الإلهية.
العالم الاسلامي مؤتمن على إحدى أغنى خزائن الحكمة والمعرفة الروحية التي وضعت رهن اشارة البشرية. وذلك يمثل إرثاً نبيلاً للاسلام وهدية ثمينة لبقية العالم. ولكن كثيراً ما يحجب هذه الحكمة الاندفاع المهمين نحو المادية الغربية، ذلك الشعور بأن عليك أن تقلد الغرب لتكون «عصرياً». ولئن يكن القرآن هو «الوحي الأخير»، فانه يوضح ما هو الكتاب الأول. انه كتاب الخلق، كتاب الطبيعة الذي تم تجاهله كثيراً في عالمنا الحديث ويجب اعادته الى مكانته الأصلية.
في ضوء كل ذلك، أود ان أضعكم أمام تحدٍّ، هو دعوة الباحثين والشعراء والفنانين والحرفيين والمهندسين والعلماء المسلمين الى تحديد الأفكار العامة والتعاليم والتقنيات العملية التي تشجعنا على العمل مع الطبيعة وليس ضدها. أناشدكم أن تبيِّنوا لنا كيف يمكننا استلهام الفهم الاسلامي العميق للعالم الطبيعي، لمساعدتنا جميعاً إزاء التحديات الجسيمة التي نواجهها. فهل هناك، مثلاً، ما قد يساعدنا في الحفاظ على نظمنا الايكولوجية البحرية ومصايدنا الثمينة؟ هل هناك طرق تقليدية لتفادي الإضرار بنظام الطبيعة تُحيي مبدأ الاستدامة في الاسلام؟ ان مركز أكسفورد للدراسات الاسلامية يطلعني دائماً على برامج كثيرة من هذا القبيل تمزج الروحانية بالعملانية. فالصنـدوق العالمـي لحمايــة الطبيعـة WWF مثـلاً، الـذي يعمل في بلدان إسلامية، وجد أن محاولة إيصال رسالته تكون أسهل كثيراً إذا نقلها قادة روحيون مرجعهم تعاليم القرآن. ففي زنجيبار، حققت المنظمة نجاحاً محدوداً في مسعاها للتقليل من صيد الأسماك بواسطة الرماح أو شباك الجر التي دمرت الشعاب المرجانية. ولكن عندما أتت الارشادات من القرآن، حدث تغير ملحوظ في السلوك. وفي إندونيسيا وماليزيا، يتم بالطريقة ذاتها منع الصيادين من القضاء على آخر النمور المتبقية.
مثل هذه التدخلات ليست الوحيدة ذات الأهمية. ومن المحير أن العالم المعاصر يتجاهل المآثر الهندسية للعالم القديم. فنظام القنوات في ايران، مثلاً، ما زال يزود آلاف الناس بالمياه، ولولاه لعاشوا في أوضاع صحراوية. هذه القنوات الجوفية، التي يزيد طولها على 270 ألف كيلومتر، تحافظ على جريان المياه من الجبال نزولاً داخل الأنفاق بفعل قوة الجاذبية وحدها. ومن ثم تُحفظ المياه عذبة في كل قربة بواسطة أبراج التخزين التي تبقي على دفق الهواء مع هبوب الريح.
وفي اسبانيا، ما زالت أنظمة الري التي أنشئت قبل 1200 سنة تعمل على أفضل وجه، وكذلك الطريقة التي يدبر بها سكان محليون توزيع المياه والتي تم ابتكارها خلال الحكم الاسلامي في اسبانيا. وتعمل برامج إدارية إسلامية مماثلة في أجزاء أخرى من العالم، مثل مناطق «الحمى» في المملكة العربية السعودية التي تفرد أراضي لاستعمالها كمراع. هذه أمثلة على التزام التعاليم الإسلامية نظرة طويلة الأمد الى الأشياء، تُبعد خطر الاقتصاد القصير الأمد الذي تطغى عليه المصلحة الشخصية.
أنا متأكد من أن منظمة مثل مركز أكسفورد للدراسات الاسلامية، اذا ساعدت في تأسيس منتدى عالمي حول "الاسلام والبيئة"، لأمكن تطبيق مثل هذه المقاربات العملية التقليدية على نطاق واسع، من العلوم والتكنولوجيا الى الزراعة والرعاية الصحية والعمارة والتعليم.
عندما ولدت عام 1948، كان عدد سكان مدينة مثل لاغوس في نيجيريا 300 ألف نسمة فقط. واليوم، بعد 62 سنة، بات العدد عشرين مليوناً، ويعيش نحو 13 ألف شخص في كل كيلومتر مربع من المدينة، ويزداد عدد سكانها 600 ألف كل سنة.
لقد اخترت لاغوس كمثال. وكنت أستطيع أن اختار مومباي أو القاهرة أو مكسيكو. فأينما نظرت، يزداد سكان العالم بسرعة، ويرتفع بما يعادل جميع سكان بريطانيا كل سنة. هذا يعني أن كوكبنا المسكين، الذي يكافح حالياً لاعالة 6,8 بلايين نسمة، عليه أن يدعم أكثر من 9 بلايين نسمة في غضون خمسين سنة. وفي العالم العربي، 60 في المئة من السكان هم حالياً تحت سن الثلاثين، وهذا يعني وجوب خلق 100 مليون وظيفة جديدة في تلك المنطقة وحدها خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة.
أنا اعلم أن هذه المسألة معقدة. ويرى الخبراء أن الأرض تستطيع أن تعيل 9 بلايين نسمة، لكن ليس اذا كان عدد كبير من السكان يستهلك موارد العالم بالمستويات الغربية الحالية. لذلك فان التغييرات يجب أن تكون مضاعفة. وسوف يساعد في ذلك ابطاء التسارع. لكن ما يساعد أيضاً تخفيض رغبة العالم في الاستهلاك.
يحركني دائماً أن أتذكر أن دمار الأرض، من منظور التعاليم الاسلامية التقليدية، يشبه تدمير كائن ورع. التقاليد هي تراكمات المعرفة والحكمة التي يجب أن نقدمها للجيل المقبل. لذلك فهي مثالية ورؤيوية، إنها تنظر الى الأمام. والتحول الى التعاليم التقليدية، كتلك الموجودة في الاسلام التي تحدد علاقتنا بالعالم الطبيعي، لا يعني حبس أنفسنا في نوع من الجمود الثقافي أو التكنولوجي. إذا ادركنا أننا نمشي في اتجاه خاطئ، فالشيء المعقول الوحيد الذي يجب أن نفعله هو الاعتراف بذلك والرجوع الى حيث أخطأنا أولاً. وكما قال سي إس لويس: "العودة قد تكون أحياناً أسرع وسيلة للتقدم".
جميع الأدلة الدامغة تنبئنا أننا فعلاً على طريق خاطئ، لذلك ربما أن من الحكمة الاعتماد على إرشادات أزلية تأتي من حسِّنا الحدسي بأصل جميع الأشياء التي نحن متجذرون فيها. ان ايقاعات الطبيعة ودوراتها وعملياتها هي التي ترشدنا الى هذا الصوت. انها أعظم معلمينا، لأنها تعابير الوحدة الالهية. لذلك هناك حقيقة جوهرية في ذلك المثل البدوي القديم: "إن أروع المساجد هي الطبيعة ذاتها".