تلعب تقنيات الطاقة المتجددة دوراً مهماً في المبادرات العالمية لخفض الانبعاثات الكربونية ومواجهة تحديات الاحترار العالمي. ورغم الترحيب بدورها كأحد الحلول العملية لأزمة المناخ، مثلما كان الحال في قمة المناخ الأخيرة في دبي، فإن تأثيراتها البيئية وكلفتها المالية لا تزال موضوعاً شائكاً ودقيقاً.
البصمة البيئية للطاقة المتجددة
يترك توليد الكهرباء باستخدام الوقود الأحفوري بالأساليب التقليدية، التي لا تتضمن التقاط الكربون واحتجازه أو تدويره، آثاراً كبيرة على البيئة. فهو مسؤول عن أكثر من 40 في المائة من جميع الانبعاثات الكربونية المرتبطة بالأنشطة ذات الصلة بالطاقة، والتي بدورها تمثّل نحو 80 في المائة من غازات الدفيئة ذات المنشأ البشري. كما أن توليد الكهرباء بالطرق التقليدية غير المتجددة يرتبط بانبعاث ملوّثات أخرى مثل أكاسيد النيتروجين والكبريت، ويمارس ضغطاً على الموارد المائية واستخدامات الأراضي.
ويُشكّل سحب المياه النقية لأغراض التبريد والاستخدامات الأخرى في محطات الطاقة الحرارية نحو 40 إلى 50 في المائة من استخدامات المياه في القطاع الصناعي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين. ولذلك يبقى خفض البصمة البيئية في قطاع توليد الكهرباء تحدياً عالمياً على طريق التحوُّل الأخضر، حفاظاً على الموارد الطبيعية وليس مواجهة تغيُّر المناخ فقط.
وفيما يمثّل توظيف تقنيات الطاقة المتجددة لإنتاج كهرباء نظيفة نسبياً مقاربةً موضوعية لمعالجة هذه المخاوف، بفضل المستويات المنخفضة التي تنتجها من انبعاثات غازات الدفيئة والملوّثات الأخرى، فإن بعض آثارها السلبية على البيئة خلال كامل دورة حياتها لا يمكن تجاهلها تماماً.
ويؤدي تصنيع ونقل تقنيات الطاقة المتجددة، مثل ألواح الخلايا الكهرضوئية وتوربينات الرياح ووسائط تخزين الطاقة، إلى تحرير بعض الانبعاثات والملوّثات. وعلى سبيل المثال، يستلزم تصنيع الألواح الشمسية وبطاريات الليثيوم التنقيب عن عناصر نادرة مما يتسبب في تلويث الموارد المائية. وتستلزم محطات الطاقة الشمسية مساحات واسعة من الأراضي، وهي تؤثر إلى جانب توربينات الرياح على الأنواع الحيّة في موائلها. كما أن بعض تقنيات الطاقة المتجددة، مثل تلك التي تعتمد على حرارة الأرض الجوفية، تستهلك كميات كبيرة من المياه.
ولتطوير سياسات سليمة، يجب على صانعي القرار إدراك الآثار البيئية النسبية لمصادر الطاقة البديلة، بما في ذلك سُبل مقارنة تأثيرات تقنيات الطاقة المتجددة في مقابل تأثيرات تقنيات الوقود التقليدي، وفرص تحسين كفاءة استخدام الطاقة لخفض استهلاك الموارد وتقليل الانبعاثات والملوّثات. كما تُعدّ الإحاطة بالتأثيرات البيئية المحتملة لتقنيات الطاقة المتجددة أمراً ضرورياً لتحديد ومتابعة التصاميم وطُرق التصنيع، وتعيين مواقع المشاريع وعمليات المرافق، وما إلى ذلك من ترتيبات لتخفيف هذه التأثيرات أو تغييرها.
ويعزز استخدام مصادر الطاقة المتجددة في المجتمعات التي تعاني من أزمات الكهرباء فرص تحقيق التنمية السريعة، إلا أن ذلك قد يكون على نحو غير متوازن ويستنفذ الموارد الطبيعية المتاحة لهذه المجتمعات. وعلى سبيل المثال، تُشير دراسة في دورية "ساينس" إلى أن المناطق التي تواجه أكبر ندرة في المياه تشهد تركيباً متسارعاً لمضخات المياه الجوفية العاملة على الطاقة الشمسية. وفي غياب أي تنظيم حكومي تؤدي عمليات الضخ إلى نضوب المياه وهجرة المزارعين وتراجع معدلات الغذاء.
وتقترح الدراسة، التي صدرت في مطلع 2024، عدداً من الإجراءات لمعالجة هذه المشكلة، كضبط استنزاف المياه والحدّ من تلوُّثها، وتوفير فرص عادلة للمزارعين الأكثر فقراً للحصول على الطاقة المتجددة والتقليدية، وتطوير نظم مراقبة مستويات المياه الجوفية. ولتحقيق استدامة أكبر يمكن توجيه موارد الطاقة المتجددة إلى المصادر الأكثر استدامة، مثل استخدامها في تحلية مياه البحر بدلاً من ضخ المياه الجوفية.
تقنيات الطاقة المستدامة
إن الطلب على الموارد والتأثيرات البيئية المرتبطة بتوفير الطاقة والبنية التحتية يتفاوت ويختلف، نوعيةً وحجماً، اعتماداً على مجموعة من العوامل، بما في ذلك التكنولوجيا المعنية وطريقة النشر والموقع. لكن البيانات العامة تتجاهل هذه الخصوصيات وتبالغ في تبسيط الحقائق المعقدة، ما يجعل تقييم الاستدامة البيئية والاجتماعية لمصادر الطاقة المتجددة أمراً معقداً، ويتطلب نهجاً شاملاً وبيانات من مصادر متنوعة.
ولاستكشاف مسألة استدامة مصادر الطاقة المتجددة، قامت مؤسسة "رين 21" بعمليات استقصاء واستشارات لمدة عام، شملت مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة، سواء داخل قطاع الطاقة المتجددة أو خارجه. ونشرت المؤسسة، التي تضم جهات فاعلة من المؤسسات العلمية والحكومات والمنظمات غير الحكومية والصناعة، نتائج عملها في تقرير صدر مطلع 2024 بعنوان "الطاقة المتجددة والاستدامة".
ويتناول التقرير بالتحليل الآثار السلبية المحتملة التي يمكن أن تنشأ عن توسيع نطاق مصادر الطاقة المتجددة، بما فيها القضايا الحرجة، مثل استخدام الأراضي والمياه والتنوُّع البيولوجي والغابات وحقوق الإنسان وتوليد النفايات. ويخلص التقرير إلى أن فوائد مصادر الطاقة المتجددة تفوق إلى حدٍ كبير آثارها السلبية المحتملة، وأنه يمكن تخفيف أية آثار سلبية من خلال اعتماد أفضل الممارسات المتاحة حالياً.
ويدعم التقرير التعهد الذي أقرّته الدول المشاركة في قمة المناخ (كوب 28) في دبي لجهة زيادة القدرة الإنتاجية لمصادر الطاقة المتجددة ثلاث مرات ومضاعفة كفاءة الطاقة عالمياً بحلول 2030. ووفقاً للوكالة الدولية للطاقة، فإن زيادة قدرة الطاقة المتجددة العالمية ثلاث مرات ومضاعفة معدل كفاءة استخدام الطاقة بحلول سنة 2030 أمر بالغ الأهمية للحدّ من ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئوية.
وفي المقارنة، يؤكد التقرير أن متوسط الانبعاثات الناجمة عن جميع تقنيات الطاقة المتجددة، خلال دورة حياتها الكاملة من التصنيع إلى الاستثمار ثم التخلُّص، أقل بكثير من انبعاثات الغاز الأحفوري والفحم. وفي حين تترك كثير من عمليات التنقيب عن الوقود الأحفوري واستخراجه الأراضي ملوّثة ومتدهورة ومستنزفة بعد فترة طويلة من تشغيل المرافق، فإن مصادر الطاقة المتجددة ليس لها تأثيرات مماثلة على الأرض والمياه على المدى الطويل. مع الإشارة إلى أن بعض الشركات في قطاع النفط والغاز تعتمد حالياً قيوداً صارمة على عملياتها، للتقليل من المخلّفات والملوّثات أثناء الحَفر والتشغيل، وتنظيف الأراضي وإعادة تأهيلها عند الانتهاء. وتُعتبر أرامكو السعودية في طليعة الشركات الرائدة في هذا المجال، إذ إنها أدخلت التقاط وتخزين، أو إعادة استعمال، الكربون والميثان جزءاً متكاملا في عملياتها، في ما يسمى "الكربون الدائري".
من جهة أخرى، تتميّز معظم تجهيزات الطاقة المتجددة بقابلية الإنشاء جنباً إلى جنب مع استخدامات متنوعة للأراضي، مثل الزراعة أو الصيد. ويمكن أيضاً نشر مصادر الطاقة المتجددة في الأراضي الهامشية والمتدهورة وتلك الملوّثة بفعل العمليات الصناعية، كما يمكن الاستفادة من البنى التحتية القائمة مثل أسطح المنازل ومواقف السيارات وجوانب الطُرق السريعة والسكك الحديدية لتقليل استهلاك مساحات الأراضي. وفيما يبقى الضجيج الذي تُصدره توربينات الرياح مشكلة لسكان الجوار، فقد تم تطوير حلول للحدّ من آثارها على الطبيعة، خاصة الطيور المهاجرة.
ويُشير التقرير إلى أن المواد المستخرجة من أجل مصادر الطاقة المتجددة تُستخدم لبناء المرافق والبنية التحتية، وأغلبها قابل لإعادة التدوير بشكلٍ كبير، على عكس الوقود الذي يستخدم لمرة واحدة عن طريق الحرق. وفي عام 2021، بلغ استخراج الوقود الأحفوري أكثر من 8 مليارات طن من الفحم، و4 مليارات طن من النفط، وما يعادل 2.6 مليار طن من الغاز الأحفوري. وبالمقارنة، شملت المواد المستخرجة من أجل مصادر الطاقة المتجددة 21 مليون طن من النحاس، و6.2 مليون طن من النيكل، و71 مليون طن من الكوبالت، و11 مليون طن من الليثيوم.
وفي معظم سيناريوهات تحوُّل الطاقة، يمثّل التوسع في الطاقة الشمسية الكهرضوئية وطاقة الرياح حصة صغيرة من الزيادة المتوقعة في الطلب على المواد. أما الطلب الأكبر على المواد فمصدره شبكات الكهرباء ووسائط تخزين الطاقة، خاصةً بطاريات السيارات الكهربائية، والتي تعتبر ضرورية لانتقال الطاقة واستقرار استخدامها في جميع الحالات. ومن الممكن أن يساهم تعزيز كفاءة الطاقة وتنفيذ ممارسات التنقل المستدامة، مثل المشي وركوب الدراجات والنقل العام، في تقليل استخدام المواد غير المتجددة كالمعادن النادرة. كما أن التقدم التقني وخيارات التصميم وتطبيق الاقتصاد الدائري سوف تقلل أيضاً من استخدامات المواد الهامة.
ويناقش تقرير، أعدّته مؤسسة "كلايمت أناليتكس" وصدر في مطلع 2024، التكاليف المالية لتحقيق تعهد قمة دبي في زيادة إنتاج مصادر الطاقة المتجددة ثلاث مرات بحلول 2030، مؤكداً الحاجة إلى استثمار 8 تريليونات دولار لمصادر الطاقة المتجددة الجديدة و4 تريليونات دولار للبنية التحتية للشبكات والتخزين، وذلك لتحقيق التعهد، الذي يتطلب زيادة قدرة الطاقة المتجددة العالمية لتصل إلى 11 تيراواط في 2030.
مع التوافق العالمي على ضرورة اعتماد مزيج من مصادر الطاقة يضمن التوازن بين المتطلبات الاقتصادية والبشرية والبيئية لتحقيق التنمية المستدامة، لا بد من وضع ضوابط وقيود على عمليات الانتاج والتوزيع والاستهلاك لمصادر الطاقة بلا استثناء، للتقليل من بصمتها البيئية. فالتركيز على آثار الوقود الأحفوري والتغاضي عن البصمة البيئية للطاقات المتجددة يهدد بتحوُّلها إلى مشكلة في المستقبل. والحل يقوم على اعتماد نهج تشاركي وعملي، من خلال توسيع دائرة الرؤية لتشمل كامل الآثار البيئية، وعبر تشجيع التعاون الدولي، ودعم التقدم التقني وأفضل الممارسات، بما يمكِّن من تعزيز مساهمة مصادر الطاقة النظيفة جميعاً في تحقيق غدٍ أفضل ومستقبل مستدام للإنسان والكوكب.