تعزيز الكفاءة وتعديل أنماط الاستهلاك قبل زيادة الامدادات
تقع دول مجلس التعاون الخليجي في واحدة من أكثر مناطق العالم جفافاً، وتُصنَّف على أنها من أكثر دول العالم فقراً في الموارد المائية، حيث تبلغ حصة الفرد من المياه الطبيعية المتجددة وسطياً أقل من 100 متر مكعب للفرد في السنة، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ نحو 6 آلاف متر مكعب للفرد. وهذا أقل بكثير من خط الفقر المائي المدقع الذي يبلغ 500 متر مكعب، الذي تصبح ندرة المياه عنده معوقاً رئيسياً للتنمية. ويمكن أن تتسبب في تدني مستوى المعيشة والصحة والبيئة. وبحسب التقييمات الدولية والإقليمية والوطنية لتأثيرات تغيُّر المناخ، فإن ندرة المياه الحالية مرشحة للتفاقم بسبب ارتفاع درجات الحرارة المؤدية إلى زيادة الطلب على المياه، والانخفاض العام في هطول الأمطار المؤدي إلى تقليل موارد المياه السطحية وبالتالي تغذية المياه الجوفية، بالإضافة إلى ارتفاع منسوب مياه البحر المؤدي إلى غزو المياه الجوفية الساحلية وتملُّحها.
تكاليف تلبية الطلب على مياه الشرب
رغم ظروف الندرة المائية، نجحت دول المجلس في توفير إمدادات مياه الشرب لسكانها، وذلك بالاعتماد على تقنيات التحلية، تساعدها في ذلك قوة اقتصاداتها وتَوفُّر موارد الطاقة لديها. ولكن التحلية مصحوبة بتكاليف مالية كبيرة، وهي كثيفة الاستهلاك للطاقة، وجلّها حالياً من الطاقة الأحفورية، مما يجعل دول الخليج تتكبد تكلفة الفرصة البديلة للطاقة المستهلكة، ويؤثر سلباً على البيئة بتلوُّث الهواء بسبب الانبعاثات الغازية، وتلوُّث البيئة البحرية بسبب صرف رجيع التحلية عالي الملوحة والحارّ نسبياً إليها.
وتشير الدراسات إلى أنه بحسب النمو السكاني المتوقع لدول المجلس خلال السنوات الـ15 المقبلة، واستمرار أنماط الاستهلاك الحالية، فإن التكاليف المالية والاقتصادية والبيئية ستكون هائلة. فمن المتوقع أن يرتفع إجمالي الطلب على مياه الشرب من حوالي 5.8 مليار في 2020 إلى حوالي 11 مليار متر مكعب بحلول 2035 على أقل تقدير، مع تكاليف مالية تراكمية تتجاوز 300 مليار دولار. وستحتاج إلى طاقة تعادل 2 تريليون كيلوواط/ساعة، ما يتطلّب حوالي 200 جيغا متر مكعب من الغاز الطبيعي (أو حوالي مليار برميل نفط)، وسيكون هذا مصحوباً بانبعاثات غازية تصل إلى حوالي 2 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ. هذا الأمر سيزيد من تحديات تخفيض الانبعاثات الكربونية وتحقيق الحياد الكربوني بحلول سنة 2060، الذي تبنّته معظم دول المجلس.
حالياً تمتلك دول المجلس أكثر من 40 في المائة من الطاقة العالمية للتحلية، ومع استمرار الاعتماد الحتمي والمتزايد على التحلية في المستقبل، يصبح توطين التقنيات وتقليل تكاليفها الاقتصادية والبيئية أمراً استراتيجياً ذا أهمية قصوى، لزيادة قيمتها الاقتصادية المضافة وتعزيز الأمن وضمان الاستدامة. ولقد بدأت في السنوات الأخيرة مبادرات كبرى لتعزيز البحث والتطوير، وتشجيع القطاع الخاص المحلّي للولوج في هذه التقنيات. وتوجد حالياً برامج عدة لتوطين تحلية المياه في دول المجلس، بالإضافة إلى تقليل تكاليفها الاقتصادية والبيئية، من أهمها مشروع محطة غنتوت التجريبية لتحلية المياه في أبوظبي التابع لـ"مصدر"، ومشروع التحلية بالطاقة الشمسية في الخفجي التابع لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ومشاريع المؤسسة العامة لتحلية المياه في السعودية، الرائدة في مجال تقليل التصنيع وتقليل التكاليف والاستفادة من رجيع التحلية. ومن أبرز مبادرات توطين تحلية المياه وتقليل تكاليفها الاقتصادية والبيئية مشروع مدينة "نيوم" للتحلية في السعودية، الذي يجمع بين مفهومي كفاءة استخدام الموارد والاقتصاد الدائري وحماية البيئة، ويهدف إلى إنتاج المياه المحلاة باستخدام تقنية الأغشية، وتشغيلها بالطاقة الشمسية بالكامل وتحقيق تصريف سائلي صفري، من خلال إنشاء صناعة تحويلية لاستخلاص الأملاح من مياه الرجيع للاستخدام التجاري. كما نَجَم عن جهود البحث والتطوير في السعودية تخفيض استهلاك الطاقة في تقنيات التحلية بالأغشية، وبالتالي الانبعاثات الغازية، لتصل إلى 2.05 كيلوواط ساعة للمتر المكعب، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ حوالي 4.5 كيلوواط ساعة للمتر المكعب.
مياه الصرف الصحي فرصة ضائعة
بذلت دول المجلس جهوداً كبيرة لتوفير خدمات الصرف الصحي، وحققت الغاية الثانية من الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة منذ زمن بعيد. وحالياً يتم إنتاج كميات كبيرة نسبياً من المياه المعالجة معالجة متقدمة، إلا أن معدلات إعادة استخدام هذه المياه ما زالت منخفضة ولا يُستفاد منها بالكامل، ولا تزيد عن 40 في المائة وسطياً في دول المجلس، مما يمثّل فرصاً اقتصادية كبيرة ضائعة، في ظل الندرة المائية في هذه الدول. وتشير الدراسات إلى أن الكميات التي ستنتج من هذه المياه بحلول 2035 يمكنها أن تسدّ جميع احتياجات القطاع الزراعي والتشجير في بعض دول المجلس، مثل البحرين والكويت وقطر، وجزءاً لا بأس به من احتياجات الدول الأخرى، كما يمكنها أن تمثّل جزءاً أساسياً من خطط تكيُّف الدول مع ظاهرة تغيُّر المناخ في القطاع الزراعي، بالإضافة إلى مساهمتها في تحقيق الحياد الكربوني من خلال استخدامها في مشاريع التشجير مثل خطة السعودية الخضراء، والاستراتيجية الوطنية للتشجير في مملكة البحرين.
استنزاف المياه الجوفية
تمثّل المياه الجوفية، بنوعيها المتجدد وغير المتجدد، مصدراً مائياً استراتيجياً وحيوياً لدول المجلس، وتعدّ المحافظة على مستوياتها ونوعيتها من أهم خطط التكيُّف مع تأثيرات تغيُّر المناخ. إلا أن المياه الجوفية في الخليج تعاني من انخفاض مستمر في مناسيبها وتملُّحها، بسبب استغلالها المفرط في حالة المصادر المتجددة، والاستغلال السريع في حالة المصادر غير المتجددة. وسيؤدي فقدانها إلى خسارة مصدر مائي استراتيجي طويل الأجل، يترافق مع كلفة توفير المياه البديلة له، وتأثيرات ذلك على الأمن المائي واستدامة المياه. ولذا، ينبغي التخطيط لإدارتها واستخدامها بشكل حذر، والعمل على استدامتها بوقف استنزافها ومنع تلوُّثها بواسطة الأنشطة السطحية. ولقد بدأت العديد من دول المجلس مؤخراً في عملية تنظيم استخدام المياه الجوفية، من خلال تسجيل الآبار وتركيب العدادات وتحديد معدلات السحب الآمنة. إلا أنه هناك ضرورة قصوى للتنسيق الفعّال بين قطاع الزراعة (المستهلك الرئيسي للمياه الجوفية في دول الخليج، بمعدل 85 في المائة)، وقطاع المياه، في وضع سياسات الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي لتتناسب مع طاقة موارد المياه الجوفية وقدرتها على التجدد. كما يجب العمل على إنشاء قطاع زراعي قابل للاستدامة، من خلال رفع كفاءة استخدام المياه فيه، باعتماد أساليب الري وأنظمة الزراعة الحديثة الموفرة للمياه، وخصوصاً أنظمة الزراعة بدون تربة.
استدامة الإمداد مقابل استدامة الاستهلاك
على مدى العقود الستة الماضية، شهدت دول مجلس التعاون تحوُّلاً سكانياً واقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق، تغيّرت فيه أنماط الحياة والاستهلاك. ولتلبية الاحتياجات المائية المتنامية، تبنّت دول المجلس نهج إدارة العرض، بتعظيم إمدادات المياه، مما أدى إلى تكاليف مالية واقتصادية وبيئية باهظة، يُتوقع أن تتفاقم بسبب تغيُّر المناخ. وهذا يستدعي تبنّي نهج جديد مكمّل يمكن أن يكون حلاً طويل الأجل لمعضلة ندرة المياه. لذا ستحتاج دول المجلس إلى تحويل محور تركيزها من ضمان "استدامة الإمداد" إلى ضمان "استدامة الاستهلاك"، من خلال تطبيق نهج إدارة الطلب والكفاءة وتطبيقهما على نحو متكامل مع نهج إدارة العرض السائد حالياً، لإنشاء أنظمة إدارة فعالة للمياه يمكنها أن تتعامل مع التحديات المستقبلية والتكيُّف مع تأثيرات تغيُّر المناخ. ورغم أن تغيُّر المناخ يمثّل ضغطاً إضافياً على قطاع المياه، إلا أنه يمثّل أيضاً فرصة للقيام بهذا التحوُّل لمواجهة تحديات ندرة المياه، مع الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بخفض الانبعاثات. وهذا يستدعي العمل على إدارة قطاعات المياه والطاقة والغذاء على نحو متكامل، بحيث يتم تقليل المقايضات بينها وتعزيز فرص التآزر، مع مراعاة البعد البيئي المرتبط بها.
قبل أسابيع، أعلن الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي، عن خطوة رائدة بتأسيس منظمة عالمية للمياه مقرّها الرياض، تهدف إلى تطوير وتكامل جهود الدول والمنظمات لمعالجة تحديات المياه بشكلٍ شمولي، من خلال تبادل وتعزيز التجارب التقنية والابتكار والبحوث والتطوير، وتمكين إنشاء المشاريع النوعية ذات الأولوية وتيسير تمويلها، سعياً لضمان استدامة موارد المياه وتعزيزاً لفرص وصول الجميع إليها. وتمثّل هذه المبادرة فرصة كبيرة لدول المجلس لتعزيز المعرفة وتبادل التجارب، خصوصاً في مجالي تقنيات التحلية ومعالجة المياه العادمة وإعادة استخدامها، كمصدرين غير تقليدين للمياه سيتحتم على دول المجلس الاعتماد عليهما بشكل كبير ومتزايد في المستقبل.
الدكتور وليد خليل زُباري، أستاذ إدارة الموارد المائية ومنسّق برنامج إدارة المياه في جامعة الخليج العربي، مملكة البحرين