يعمل الذكاء الاصطناعي على تغيير عالمنا بسرعة كبيرة، وإحداث ثورة في كل شيء بدءاً من تحسين الرعاية الصحية، إلى زيادة كفاءة النقل ومسارات الشحن، وبناء توقعات دقيقة عن أحوال الطقس والفيضانات والحرائق.
ومن المتوقع أن يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً رئيسياً في حل بعض الإشكاليات الأكثر إلحاحاً التي يعاني منها الكوكب، مثل خفض الانبعاثات الكربونية وتوفير الغذاء. وفي المقابل، يتطلب تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها كميات ضخمة من الطاقة والمياه العذبة تستدعي الاهتمام بتأثيراتها السلبية على البيئة أيضاً.
مطوّرو الذكاء الاصطناعي يحجبون أرقامهم
من الصعب قياس البصمة الكربونية الإجمالية لنماذج الذكاء الاصطناعي، ولكنها جميعاً تعتمد على الحواسب المتقدمة، التي يتطلب تصنيعها استخراج مواد خام وعمالة كثيفة ومكلفة بيئياً. وبمجرد حصول المطوِّرين على الأجهزة التي يحتاجونها، يمكن لتدريب نموذج الذكاء الاصطناعي أن يستهلك مقداراً كبيراً من الطاقة.
ولا تبدي شركات الذكاء الاصطناعي شفافيةً كاملةً في بيان استهلاكها من الطاقة، ولذلك يعتمد الباحثون على تقدير هذا الاستهلاك وفق ما يتوفّر لديهم من معطيات. وتُقدِّر إحدى الدراسات أن تدريب "جي بي تي 3"، الذي يشغّل النموذج اللغوي لـ "تشات جي بي تي"، استلزم استهلاك 700 ألف ليتر من المياه العذبة لخفض درجة حرارة مراكز بيانات مايكروسوفت في الولايات المتحدة، من دون أن تكون هناك إمكانية لإعادة تدويرها.
علاوةً على ذلك، يستهلك "جي بي تي 3" كمية كبيرة من الماء في عملية الاستدلال، وهي تحدث عند استخدام "تشات جي بي تي" لمهام مثل الإجابة عن الأسئلة أو إنشاء نص. ولإجراء محادثة بسيطة تتكوَّن من 20 إلى 50 سؤالاً، فإن المياه المستهلكة تعادل زجاجة بسعة نصف ليتر، مما يجعل البصمة المائية الإجمالية للاستدلال كبيرةً نظراً إلى مليارات المستخدمين.
وبالنسبة لانبعاثات الكربون، وجد باحثون في جامعة ماساتشوستس أن عملية تدريب نموذج واحد للذكاء الاصطناعي يمكن أن ينتج عنها أكثر من 280 طناً من ثاني أكسيد الكربون، وهي كمية تعادل انبعاثات غازات الدفيئة لنحو 62 سيارة تعمل على البنزين لمدة عام.
بعد الاطلاع على هذه التقديرات المستقلة، قمنا بمحاورة أكثر نماذج لغة الذكاء الاصطناعي انتشاراً، "تشات جي بي تي" الذي تساهم في تمويله مايكروسوفت و"بارد" الذي تطوّره غوغل، عن البصمة الكربونية الخاصة بهما. وفي الحالتين، لم يكشف النموذجان الأرقام الخاصة بالشركات المطوّرة، واكتفيا بإيراد تقديرات المؤسسات البحثية.
ونوّه "تشات جي بي تي" بأن هذه التقديرات ليست دقيقة، وهي تختلف اعتماداً على عوامل مختلفة مثل كمية المؤشرات البيانية التي جرى تدريب نماذج لغة الذكاء الاصطناعي عليها، أو كفاءة استهلاك الطاقة في مراكز البيانات التي تستضيف هذه النماذج.
فيما أكّد "بارد" على أن غوغل تعمل على خفض الأثر البيئي لمراكز بياناتها التي تقوم بتشغيل "بارد" ونماذج الذكاء الاصطناعي الأخرى. وعلى سبيل المثال، تستخدم غوغل الطاقة المتجددة لتوفير الكهرباء من أجل مراكز بياناتها كلّما كان ذلك ممكناً، وتعمل على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة.
ويشير "بارد" إلى أنه ما زال قيد التطوير، ولكنه ملتزم باستخدام قدراته في المساعدة على إيجاد حلول للمشاكل البيئية. وهو يُستخدم حالياً من قبل الباحثين لإيجاد طرق جديدة من أجل خفض التلوُّث والحفاظ على الموارد، ويُستخدم أيضاً في تثقيف الناس حول البيئة وأهمية الاستدامة.
وتُعتبر مراكز البيانات التي تدعم أنظمة الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية (كلاود) بمثابة صندوق مغلق مقارنة بالصناعات الأخرى التي تعلن عن بصمتها الكربونية. وهذا يعني أن النمو السريع لقطاع الذكاء الاصطناعي، إلى جانب الشفافية المحدودة، يجعل استخدام الكهرباء وانبعاثات الكربون المنسوبة إلى الذكاء الاصطناعي خارج نطاق المحاسبة الشعبية، لاسيما أن مقدمي الخدمات السحابية الرئيسيين لا يوفّرون المعلومات الكافية.
وتتمثّل إحدى طرق معالجة الأثر البيئي للذكاء الاصطناعي في الدعوة إلى قدر أكبر من الشفافية في تطوير وتشغيل أنظمة التعلم الآلي. وقد طوّر العلماء أدوات لمساعدة الباحثين في الإبلاغ عن استخدامهم للطاقة وإطلاق الكربون، على أمل تعزيز المساءلة والممارسات المسؤولة في هذا المجال.
ولمساعدة الباحثين في قياس استخدامهم للطاقة، قام بعض العلماء بنشر أدوات عامة عبر الإنترنت تشجّع الفِرق البحثية على إجراء تجارب في مناطق صديقة للبيئة، وتوفّر تحديثات متسقة حول قياسات الطاقة والكربون، وإجراء مفاضلة بين استخدام الطاقة والأداء قبل نشر نماذج ذكاء اصطناعي ذات استهلاك كثيف للطاقة.
ويلعب الأفراد أيضاً دوراً حاسماً في تعزيز قدر أكبر من المساءلة في مجال الذكاء الاصطناعي. وإحدى طرق القيام بذلك هي التعامل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي الجديدة على نحو عقلاني يدرك القيود المفروضة عليها. ومن خلال وضع قدراتها في السياق المناسب والاعتراف بآثارها السلبية المحتملة، يصبح في الإمكان التشجيع على استكشاف سبل جديدة للبحث، لا تعتمد فقط على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي أكبر وأكثر تعقيداً.
ولا يؤدي هذا النهج إلى تعزيز الممارسات المسؤولة في مجال الذكاء الاصطناعي فحسب، بل يمهد الطريق أيضاً لذكاء اصطناعي "أكثر مراعاة للبيئة".
توظيف الذكاء الاصطناعي في حماية البيئة
يساهم الذكاء الاصطناعي حالياً على نحو مؤثّر في دراسة الظواهر البيئية وتطوير حلول لمشاكلها المختلفة. وإحدى الطرق الواعدة التي يمكن من خلالها استخدام الذكاء الاصطناعي لحماية البيئة هي من خلال تحليل البيانات. ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لغربلة كميات هائلة من البيانات، مثل صور الأقمار الاصطناعية وأنماط الطقس، لتحديد الاتجاهات والأنماط التي قد يكون من الصعب أو المستحيل اكتشافها بالعين المجردة. ويمكن بعد ذلك استخدام هذه المعلومات لتطوير استراتيجيات أكثر فعالية لإدارة الموارد والحدّ من التأثير البيئي السلبي.
وكانت شركة غوغل بدأت منذ خمس سنوات في تمويل مشاريع الذكاء الاصطناعي من أجل التأثير الاجتماعي، حيث دعمت الجهود التي تتراوح بين أجهزة استشعار جودة الهواء منخفضة الكلفة المثبتة على تاكسي الدراجات النارية في أوغندا، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تساعد المزارعين في تخفيف الآفات وزيادة غلال محاصيلهم في الهند.
كما قامت شركة غوغل بتمويل مشاريع عالمية طموحة مثل الأقمار الاصطناعية المدعمة بأنظمة الذكاء لمراقبة وتتبع انبعاثات غازات الدفيئة حول العالم. ويعمل فريق الشركة مع قسم الإحصاءات في الأمم المتحدة على تطوير قاعدة البيانات العامة لتتبع التقدم المنجز في تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وتسهيل وضع الاستراتيجيات واتخاذ القرارات المستندة إلى المعطيات.
وتعرض منصة "فلاد هاب" (Flood Hub) توقعات الفيضانات النهرية في 80 بلداً حول العالم، بفضل الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه التنبؤ بسلوك الأنهار قبل أسبوع، مما يوفّر الحماية من الفيضانات لنحو 460 مليون شخص، لاسيما في أفريقيا حيث تندر البيانات التاريخية عن فيضانات الأنهار.
وتستخدم شركات عديدة أدوات الذكاء الاصطناعي لتحديد واستعادة المواد القابلة للتدوير بالاعتماد على الروبوتات. ويمكن للروبوتات، في المتوسط، التقاط المواد القابلة لإعادة التدوير بسرعة تصل إلى ضعف سرعة البشر وعلى نحو أكثر اتساقاً. وتشير شركة "إيه إم بي روبوتيكس" إلى أن تقنيتها في هذا المجال ساعدت خلال 10 سنوات في تجنُّب انبعاث ما يقرب من خمسة ملايين طن من غازات الدفيئة، وهي كمية تزيد عما تطلقه نحو مليون سيارة في المتوسط سنوياً.
ويستفيد العلماء في كاليفورنيا من الذكاء الاصطناعي في مكافحة حرائق الغابات، إذ يمكنه حين وصله بالكاميرات اكتشاف الدخان والتعرف على حرائق الغابات قبل انتشارها على نطاق أوسع. ويعتبر عاملون في إطفاء الحرائق أن المعلومات المتعلقة بالتنبؤ بحرائق الغابات تغيّر قواعد اللعبة.
ويستخدم برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) الذكاء الاصطناعي للمساعدة في التحليل والتنبؤ بتركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، إلى جانب التغيُّرات في كتلة الأنهار الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر. ويستخدم المرصد الدولي لانبعاثات الميثان التابع لـ"يونيب" الذكاء الاصطناعي في رصد وتخفيف انبعاثات غاز الميثان، وهو أحد غازات الدفيئة القوية التي تزيد في احترار الكوكب.
وتوجد تطبيقات أخرى كثيرة للذكاء الاصطناعي تساهم في حماية البيئة وخفض استهلاك الموارد، مثل استخدامه في تجميع وفحص صور الأقمار الاصطناعية وبيانات الطقس لتحسين مسارات الطيران من أجل خفض الانبعاثات الكربونية، وتوظيفه في أبحاث تطوير بطاريات الليثيوم التي تستخدمها السيارات الكهربائية والأجهزة الرقمية، والاعتماد عليه في بناء النماذج المناخية الحاسوبية.
من الصعوبة بمكان التنبؤ بالنمو المستقبلي لاستخدام الطاقة والانبعاثات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. وفيما تدرك الشركات القائمة على تطوير نماذج لغة الذكاء الاصطناعي القيود المفروضة على التكنولوجيا، وعدم اليقين بشأن تأثيرها البيئي، يبقى العمل مع نماذج الذكاء الاصطناعي سيفاً ذا حدين، اعتماداً على استخدامنا لها: فهل نوظّفها بحكمة لحل مشاكل البيئة، أم نستغلّها برعونة لاستنزاف الكوكب؟