واجه العالم أزمات هائلة في السنوات الأخيرة، بدءاً من جائحة كورونا، التي أعلنت منظمة الصحة العالمية انتهاءها قبل أسابيع، وصولاً إلى الحرب المستمرة في أوكرانيا. وهذا تسبب باضطرابات كبيرة في سلاسل التوريد ونقص الطاقة والغذاء وارتفاع الأسعار، مما أعاق أيضاً المبادرات والاستثمارات البيئية. ولم تَسلَم المنطقة العربية من آثار هذه الأزمات، إذ يتعامل الكثير منها معها بالتزامن مع الصراعات الداخلية والانهيارات الاقتصادية غير المسبوقة. هذا ما يبحثه التقرير الأخير للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) عن أثر الأوبئة والحروب على البيئة في البلدان العربية، وهو الرابع عشر في سلسلة "البيئة العربية" التي أطلقها عام 2008.
ما هو تأثير حالات الطوارئ العالمية هذه على التحديات المتعلقة بالبيئة في البلدان العربية؟ وما الدروس التي يمكن تعلّمها لضمان مزيد من التأهب البيئي عند مواجهة الأزمات المستقبلية؟ تقرير "أفد" الأخير يحاول الإجابة عن هذين السؤالين. وهو يركّز على العواقب البيئية الهائلة للأزمات الأخيرة على أهداف التنمية المستدامة وتحوّل الطاقة والأمن الغذائي والمياه والتمويل، بما في ذلك تمويل العمل المناخي. ناقشت تقارير "أفد" السابقة كيف كانت المنطقة متأخرة في جوانب معيّنة من حيث التقدم نحو التحوُّل المستدام، لكنها سلّطت الضوء أيضاً على الإنجازات المهمة التي أمكن تحقيقها، رغم مواجهة العديد من البلدان صعوبات الحرب والصراعات. الآن، وسط كوارث عالمية تضرب المنطقة، وجد "أفد" أنه من الضروري تقويم كيفية تأثُّر الدول العربية بها، واقتراح توصيات قائمة على الأدلّة من أجل الاستعداد للمستقبل، ولاسيما في مجال الأمن الغذائي وتحوُّل الطاقة والعمل المناخي.
تسببت التحديات السابقة في جعل الدول العربية في وضع غير مستقر للغاية عند مواجهة العواقب الإقليمية لجائحة كورونا والحرب في أوكرانيا. فقد كانت المنطقة، على سبيل المثال، تعاني بالفعل انعدام الأمن الغذائي نتيجة النمو السكّاني المتسارع والجفاف الناجم عن تغيُّر المناخ والصراعات الأهلية. وتفاقم ذلك بفعل الافتقار إلى الاكتفاء الذاتي الغذائي والاعتماد الكبير على الواردات. كذلك تعاني الدول العربية عجزاً تاريخياً كبيراً في المياه، مع معدلات طلب تتجاوز المعدلات الراهنة لتنمية الموارد المائية. حتى أن المياه تستخدم سلاحاً في بعض الأماكن، ومنها فلسطين، مما يؤدي إلى استمرار الصراع وصعوبة الوصول المباشر إلى المياه الصالحة للشرب. وفي بلدان مثل سورية، قضت الصراعات والحروب الداخلية على سنوات من التقدم الذي أمكن إحرازه نحو القضاء على الفقر. وقد كان إنفاق معظم الدول العربية على الحماية الاجتماعية والصحة وأهداف التنمية المستدامة عموماً من الأدنى في العالم، مما يجعل السكّان العرب أقل استعداداً لمواجهة التحديات البيئية وتحقيق الأهداف المتفق عليها.
يُظهِر هذا الواقع الوضع الذي كانت المنطقة تعيشه بالفعل من حيث انعدام التأهب البيئي، قبل أن يتصدّر الوباء العالمي والحرب في أوكرانيا العناوين، مع آثار تجاوزت كل الحدود. وإذا كان من غير الممكن العودة إلى الماضي لمحو الكوارث، فمن الضروري الاستفادة من الأخطاء ومعالجة الآثار الإقليمية للأزمات الأخيرة، كشرط مسبق للتصدي الفاعل للتنمية البيئية. صحيح أن جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا تسببتا بزيادة الفقر والجوع، وهي نتيجة مؤسفة للصراع، لكنها ليست جديدة، ذلك أن المنطقة كانت تعاني انعدام الأمن الغذائي من قبل. فقد كان من نتائج الاعتماد على الواردات الغذائية للمنتجات الحيوية، بما في ذلك الحبوب والزيوت النباتية، جعل البلدان هشّة في مثل هذه الأوضاع الطارئة. وفي بعض الحالات، أدى الاندفاع إلى إنتاج المزيد من الغذاء محلياً إلى زيادة الضغط على الإراضي الهشة وأنظمة الري القديمة التي تفتقر إلى الكفاءة. وكان الوباء أيضاً تذكيراً صارخاً بأهمية المياه العذبة وخدمات الصرف الصحي، خصوصاً أنه كان من الصعب تحقيق هذه الضروريات في بعض البلدان العربية التي تعاني ندرة في المياه.
أدّت الحرب في أوكرانيا إلى تعطيل سوق النفط والغاز العالمي بشدة، مما تسبب بارتفاع كبير في الأسعار. أما بالنسبة إلى البلدان العربية المصدّرة للنفط، فقد كان هذا مفيداً من حيث زيادة عائداتها. وفي حين أنه قد يكون من المغري النظر إلى زيادة الإيرادات النفطية كنتيجة إيجابية لهذه الأزمات، إلا أنه لا يمكن التخطيط للمستقبل بناء على وضع عارض. فأزمة الطاقة التي تسببت بها الحرب الأوكرانية قد تسرِّع التحوُّل العالمي إلى الطاقات المتجددة المنتجة محلياً أكثر مما كان متوقعاً، لتقليل الاعتماد على مصادر خارجية. لهذا يوصي التقرير باستثمار الإيرادات الإضافية من النفط والغاز للتعجيل في التحوُّل الإقليمي للطاقة، من خلال تعزيز الكفاءة، إلى جانب اعتماد مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، والمساهمة في تقدُّم أهداف التنمية المستدامة الأخرى، مثل القضاء على الجوع والفقر. لا ينبغي أن تؤخذ هذه التوصية باستخفاف، نظراً إلى أن الأزمات الأخيرة أبعدت المنطقة بشكل عام عن الاستثمارات في اتجاه الاقتصاد الأخضر. فالمنطقة العربية تعاني بالفعل فجوة كبيرة في تمويل أهداف التنمية المستدامة، والتي قُدّرت بأكثر من 230 مليار دولار سنوياً، وتفاقمت بسبب الحروب ووباء كورونا.
يتعيّن على المنطقة أن تستثمر أكثر في الطاقة النظيفة والمتجددة، بما في ذلك الهيدروجين الأخضر، وفي إنتاج الغذاء وإدارة المياه. وثمة استثمار ضروري آخر، هو البحث والتطوير في هذه المجالات جميعاً. ورغم الصراعات والنزاعات، يبقى المزيد من التعاون الإقليمي قدَراً محتوماً على الدول العربية، لأن هذا استثمار في الاستقرار السياسي والاجتماعي أيضاً. وعلى بلدان المنطقة الاستفادة القصوى، فردياً وجماعياً، من صناديق تمويل العمل المناخي، والتركيز على برامج التكيُّف عبر صندوق الخسائر والأضرار المستحدث. غير أن الاستثمار في البيئة وتخضير الاقتصاد لن يوصل إلى نتائج إيجابية في الأنظمة التي يسودها الفساد، كما هو الوضع حالياً في العديد من البلدان العربية. من هنا الدعوة إلى إصلاح الأنظمة قبل محاولة تخضيرها.
فلتكن الأزمات الأخيرة جرس إنذار يسلّط الضوء على الحاجة الملحّة إلى الاستعداد لحالات الطوارئ، لأن عواقبها الواسعة النطاق ليست سوى جزء صغير من الآثار المتوقعة لتغيُّر المناخ، حين يصل إلى نقطة اللارجوع.
|