لا يزال تلوُّث الهواء أحد أكبر المخاطر على الصحة العامة. ففي كل سنة يتسبب تدني نوعية الهواء بنحو سبعة ملايين وفاة حول العالم، وخسائر اقتصادية إجمالية تعادل أكثر من 8 تريليونات دولار. ويؤدي التعرُّض لتلوُّث الهواء إلى حدوث العديد من الحالات المرضية وتفاقمها، كالربو والسرطان وأمراض الرئة والقلب والوفاة المبكرة.
وفي أكثر من مكان، يسعى صانعو السياسات إلى التشدد أكثر فأكثر في معايير جودة الهواء، من أجل تخفيف الأعباء الصحية والإقلال من الوفيات. ومع ذلك، لا تزال مجمل المدن حول العالم تعاني من ارتفاع مؤشرات التلوُّث على نحو كبير يتجاوز المسموح بعدّة أضعاف.
تشدد عالمي في المعايير
ينشأ تلوُّث الهواء عن ارتفاع تراكيز الجسيمات العالقة وبعض أنواع الغازات ذات الأثر السلبي. ويمكن أن ينتج التلوُّث عن الأنشطة البشرية كدخان المصانع والسيارات، أو عن المصادر الطبيعية كالعواصف الرملية وانبعاثات البراكين. وتشمل الملوّثات الرئيسية الجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء، التي يبلغ قطرها 2.5 ميكرون أو أقل، والأوزون الأرضي، وثاني أكسيد الكبريت، وثاني أكسيد النيتروجين.
علاوةً على ذلك، تساهم مجموعة من المركّبات في تكوين الجسيمات العالقة والأوزون في الغلاف الجوي، من بينها المركّبات العضوية المتطايرة والأمونيا والميثان والكربون الأسود وأكاسيد النيتروجين. كما يوجد العديد من ملوّثات الهواء السامّة للإنسان والنظم البيئية، مثل البنزن والمعادن الثقيلة والهيدروكربونات العطرية.
وتعدّ جودة الهواء مشكلة عابرة للحدود، حيث تؤدي تيارات الغلاف الجوي إلى نقل الملوّثات بعيداً عن مصادرها. وخلال ذلك، يمكن للتفاعلات الكيميائية والعمليات الفيزيائية أن تعيد تكوين خليط ملوّثات الهواء وتشكّل مزيج تلوُّث جديد يؤثر على نوعية الهواء المحلية والإقليمية والدولية.
وتمتد تعقيدات تلوُّث الهواء من آثاره الصحية على الإنسان إلى مخاطره على المناخ العالمي والموارد البيئية. وتظهر هذه التأثيرات في الأحداث الجوية غير المتوقعة، وتعطيل هطول الأمطار والأنماط البيولوجية، وانخفاض إنتاج الطاقة والمحاصيل. فعلى سبيل المثال، يتسبب المطر الحمضي، الذي يتشكّل عندما يتفاعل ثاني أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت مع هطول الأمطار، في تحمّض وزيادة المغذيات في النظم البيئية وتدهور البيئة العمرانية. كما أن الغطاء النباتي حساس للأوزون، الذي يؤثر على صحته وقدرته في مواجهة الأمراض.
وفي سعيها لخفض المخاطر الصحية لتلوُّث الهواء والحدّ من مشاكله، أصدرت منظمة الصحة العالمية تعديلاً على إرشادات جودة الهواء في سبتمبر (أيلول) 2021، في خطوة تُعتبر أول تحديث لهذه المعايير منذ 15 عاماً. وتتوقع المنظمة الدولية أنه يمكن تجنب نحو 80 في المائة من الوفيات المرتبطة بالجسيمات العالقة، إذا نجح العالم في تلبية الإرشادات الجديدة.
وتشمل هذه التعديلات، على سبيل المثال، خفض الحدّ الأعلى للانبعاث السنوي الموصى به في ما يخص الجسيمات العالقة من 10 إلى 5 ميكروغرام في المتر المكعب، وتعيين الحدّ الأقصى لتركيز الأوزون الأرضي خلال موسم الذروة (ستة أشهر تلي أعلى متوسط لتركيز الأوزون) بمقدار 60 ميكروغرام في المتر المكعب، وخفض تركيز ثاني أكسيد النيتروجين الموصى به من 40 إلى 10 ميكروغرام في المتر المكعب سنوياً.
ولا تُعتبر إرشادات جودة الهواء الصادرة عن منظمة الصحة العالمية معياراً أو وثيقة ملزمة قانوناً. ومع ذلك، تشير الكثير من الهيئات التشريعية حول العالم إلى المبادئ التوجيهية لمنظمة الصحة العالمية عند وضع السياسة القانونية لمكافحة الملوّثات المحمولة جواً. ولذلك فإن التعديل الجديد الذي تبنّته المنظمة يدخل تلقائياً في التشريع الوطني للعديد من البلدان.
وحتى في الدول التي تتبنى معاييرها الخاصة بجودة الهواء، تمثّل التعديلات الجديدة حافزاً للتحرك من أجل مواكبة التوجه العالمي. وعلى سبيل المثال، أعلنت وكالة حماية البيئة الأميركية في فبراير (شباط) 2023 عن مقترح لتعزيز المعايير الوطنية لجودة الهواء المحيط من خلال خفض معيار الحدّ الأعلى لتركيز الجسيمات العالقة من 12 إلى ما بين 9 و10 ميكروغرامات في المتر المكعب سنوياً.
وفيما لا يزال المعيار المقترح يمثّل ضعف معيار منظمة الصحة العالمية، فإن تأثيره سيكون كبيراً على الولايات المتحدة، لاسيما في النصف الشرقي من البلاد حيث تُعتبر جودة الهواء حرجة وفق المعايير الوطنية الحالية. ويُعدّ تعزيز معايير الهواء في الولايات المتحدة حافزاً تنظيمياً جديداً للتخلي عن استخدام الفحم في محطات الطاقة، ولتحسين أداء المحطات التي تعمل على الغاز. وتكون السلطات، في الولايات التي تعاني من تلوُّث الهواء، مطالبةً بوضع خطة امتثال للمعايير الوطنية.
وفي الاتحاد الأوروبي، تم الإعلان في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 عن مقترح لقواعد جديدة تهدف إلى تحسين جودة الهواء حتى سنة 2030، وذلك في إطار "الصفقة الخضراء" من أجل أوروبا خالية من التلوُّث بحلول 2050. وتلحظ القواعد المقترحة لسنة 2030 خفض معيار الحدّ الأعلى لتركيز الجسيمات العالقة من 25 إلى 10 ميكروغرام في المتر المكعب سنوياً، وخفض معيار تركيز ثاني أكسيد النيتروجين من 40 إلى 20 ميكروغرام في المتر المكعب سنوياً.
ولا تزال القواعد الأوروبية المقترحة لسنة 2030 تمثّل أيضاً ضعف توصيات منظمة الصحة العالمية. ووفقاً لآخر بيانات المنظمة لمؤشرات تلوُّث الهواء في المدن (2019)، فإن 22 في المائة فقط من المدن الأوروبية تستوفي الحدّ الأعلى المقترح لتركيز الجسيمات العالقة، فيما تحقق 84 منها الهدف المقترح لتركيز ثاني أكسيد النيتروجين.
وتشير دراسة، صدرت في دورية "نيتشر" في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، إلى أن الجسيمات العالقة على صلة بنحو 90.4 في المائة من جميع وفيات تلوُّث الهواء في أوروبا بين عامي 1990 و2019. ويتوقع الاتحاد الأوروبي أن تخفّض القواعد الجديدة أعداد الوفيات المبكرة بسبب تلوُّث الهواء بنسبة 55 في المائة على الأقل بحلول 2030، بما يعني إنقاذ حياة أكثر من 150 ألف شخص سنوياً.
وفي الصين، دعا فريق مكلّف من قبل البرنامج الوطني لأبحاث التلوُّث إلى مراجعة المعايير الوطنية لتلوُّث الهواء وتحسين الحماية القانونية لصحة الإنسان. وتعتمد الصين حالياً هدفاً مؤقتاً لتركيز الجسيمات العالقة يبلغ 35 ميكروغرام في المتر المكعب سنوياً، وهو بعيد جداً عن توصيات منظمة الصحة العالمية. وتشير تقديرات أميركية إلى أن تلوُّث الهواء في الصين تسبب بنحو 1.4 مليون وفاة مبكرة في عام 2019 وحده.
وفي دول مجلس التعاون الخليجي، تعمل لجنة منبثقة عن "الخطة الاستراتيجية 2020-2024" للوزراء المسؤولين عن شؤون البيئة على تحديث اللائحة التنفيذية الاسترشادية لجودة الهواء المحيط في دول المجلس، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب). وتتبنى اللائحة التنفيذية الحالية لجودة الهواء في السعودية تركيز 15 ميكروغرام في المتر المكعب سنوياً للجسيمات العالقة، وهي تستثني مساهمة المصادر الطبيعية كالغبار الجوي عند احتساب التجاوزات.
تلوُّث الهواء في البلدان العربية يزداد
إذا جرى القياس وفق معايير منظمة الصحة العالمية لعام 2021 على قاعدة بيانات جودة الهواء في المدن حول العالم (بيانات 2019)، ستكون النتيجة أن جميع سكان العالم تقريباً يتنفسون هواءً ملوّثاً. وتُظهر دراسة، نشرتها دورية "ذا لانسيت بلانيتاري هيلث" في مارس (آذار) 2023، أن 0.18 في المائة من مساحة اليابسة، وواحداً من بين مائة ألف إنسان يتعرضون لمستويات من تركيز الجسيمات العالقة تحقق معايير منظمة الصحة العالمية.
وتشير الدراسة إلى انخفاض المستويات اليومية لتلوُّث الهواء في أوروبا وأميركا الشمالية خلال الأعوام بين 2000 إلى 2019، في حين زادت مستويات التلوُّث اليومي في جنوب آسيا وأستراليا ونيوزيلندا وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وتُبيِّن الدراسة أن تلوُّث الهواء بالجسيمات العالقة في أكثر من 255 يوماً خلال عام 2019 على مستوى العالم كان يشهد مستويات أعلى مما هو آمن.
وكان تقرير "الصحة والبيئة في الدول العربية"، الذي أصدره المنتدى العربي للبيئة والتنمية "أفِد" في 2020، حذّر من أن الانبعاثات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا زادت بمقدار خمسة أضعاف خلال العقود الثلاثة الماضية، بسبب زيادة الطلب على المياه والطاقة والنقل. وفي السعودية والبحرين والكويت والإمارات ارتفعت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمعدل 6 في المائة سنوياً بين سنتي 2005 و2014، جنباً إلى جنب مع ارتفاع إجمالي الناتج المحلي وزيادة استهلاك الطاقة.
وتؤدي هيمنة سيارات الركاب الخاصة على وسائط النقل في البلدان الخليجية إلى مضاعفة مشاكل الازدحام المروري وزيادة الانبعاثات. عِلماً أن المركبات على الطرق العامة في معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مسؤولة عن 59 في المائة من انبعاثات أكاسيد النيتروجين في المنطقة، وهي أيضاً تنتج 90 في المائة من ثاني أكسيد الكربون و75 في المائة من المركّبات العضوية المتطايرة غير الميثانية.
ويعكس التقرير العالمي لجودة الهواء 2022، الذي تصدره شركة سويسرية تهتم بتكنولوجيا جودة الهواء، ارتفاع مؤشر التلوُّث بالجسيمات العالقة في الدول العربية العشر التي شملها التقرير، وهي السعودية ومصر والسودان والجزائر والعراق وسورية والإمارات والكويت وقطر والبحرين.
وتراوحت هذه التراكيز، مقاسةً بالميكروغرام في المتر المكعب سنوياً، بين 80.1 في العراق، الذي حلّ في المرتبة الثانية عالمياً في تلوُّث الهواء عام 2022 بعد تشاد، و20 و17.1 في سورية والجزائر على التوالي. وكان تركيز الجسيمات العالقة في البحرين 66.6 (المركز الرابع عالمياً) وفي الكويت 55.8 (المركز السابع عالمياً)، في حين حققت باقي البلدان تراكيز تراوحت بين 41.5 و46.5.
ويرتبط تراجع جودة الهواء في العراق وباقي الدول الخليجية خلال عام 2022 إلى حدٍ كبير بالأحوال الجويّة والجفاف، الذي زاد من نسبة الغبار المعلّق في الهواء. وفي المقابل، يرتبط الانخفاض النسبي لتلوُّث الهواء في سورية بحالة الحرب التي حدّت بشكل كبير من الأنشطة البشرية.
إن تحسين نوعية الهواء في العالم العربي يتطلب مراجعة دقيقة للإطار التشريعي من أجل تعزيز متطلبات الصحة العامة وتحقيق أداء أفضل لمصادر التلوُّث. كما ينبغي الحزم في إجراءات معاقبة الملوِّثين عبر تطبيق القوانين بطريقة فاعلة، ووضع قوائم أولويات لتقييم المخاطر الصحية على أساس رصد الهواء، واعتماد خطوات إجرائية توازن بين تراكيز الملوّثات والاستجابة للمخاطر الصحية.