توصَف أهوار العراق على أنها مهدٌ للحضارات، ففي هذه المنطقة انتقل البشر من حياة الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة والاستقرار قبل 12 ألف عام. وما يميّز الأهوار عن غيرها من الأراضي الرطبة نظامها البيئي والهيدرولوجي الفريد الذي كان عبر التاريخ نابضاً بالحياة، وموطناً لسكنى البشر والكثير من الأنواع الحيّة النباتية والحيوانية.
لوقت قريب كانت الأهوار في مرحلة التعافي من التدمير المنهجي الذي لحق بها خلال تسعينيات القرن الماضي. ولكن مع دخول الجفاف في المنطقة عامه الرابع وتراجع تدفق المياه بسبب بناء السدود في تركيا وإيران، عادت الأهوار إلى التلاشي من جديد، وبدأ السكان بنزوح قسري ودائم هذه المرة.
موئل طبيعي في بيئة شديدة الجفاف
مع غلبة المناخ الصحراوي الجاف والقليل الأمطار، يُمثّل نهرا دجلة والفرات المصدر الرئيسي لمياه الأهوار، التي يغذيها أيضاً نهر الكرخة الآتي من إيران. وتُطلق تسمية "الأهوار" على أراضي العراق المنخفضة التي تغمرها المياه في جميع أيام السنة، وهي تضم مناطق ضحلة وأخرى عميقة نسبياً بحسب مواسم السنة. وتتباين مساحة الأهوار، فبعضهم يحصرها بالأراضي المغمورة دائماً بالمياه التي تبلغ مساحتها نحو 7 آلاف كيلومتر مربع، فيما يلحظ آخرون الأراضي المجاورة لها مما يجعل مساحتها تصل إلى 35 ألف كيلومتر مربع.
وتجمع الأهوار بين خصائص السهول الفيضية لأحد أكبر أنظمة الدلتا الداخلية في العالم، وخصائص الواحة الغنية في بيئة شديدة الحرارة والجفاف. وهذا ما يجعلها موطناً مفضلاً لـ22 نوعاً مهدداً بالانقراض على مستوى العالم، ولنحو 200 نوع من الطيور المحلية والمهاجرة مثل البط والأوز ومالك الحزين والهدهد والحذاف والحسّون والحُر.
وتمتاز الأهوار بغطائها النباتي الكثيف الذي يغلب عليه القصب والبردي والعديد من النباتات الطافية والغاطسة التي تأوي أكثر من 40 نوعاً من الأسماك. كما استثمرت أراضيها في زراعات متطلبة للماء مثل رز العنبر العراقي الشهير، إلى جانب الذرة البيضاء وقصب السكر. وتُربّى فيها أنواع المواشي المختلفة، لاسيما الجواميس.
ولتنوُّعها البيولوجي وأهميتها الثقافية، أدرجت الأمم المتحدة في عام 2016 أهوار العراق ضمن قائمة مواقع التراث العالمي. ويشمل الإدراج أهوار الحويزة والأهوار الوسطى والحمّار الشرقي والحمّار الغربي، بالإضافة إلى المدن الأثرية أوروك وأور وإريدو، التي ازدهرت على ضفاف دجلة والفرات بين الألفيتين الرابعة والثالثة قبل الميلاد.
على مر التاريخ، كانت الأهوار وسكانها عرضةً للمخاطر المختلفة، كالفيضانات المدمّرة التي سجّلتها الأساطير، والأوبئة القاتلة التي حملتها الحشرات والقوارض. وفي محيطها دارت العديد من المعارك، وكانت ملجأً للمطارَدين، مما جرّ عليها الكثير من الويلات. ومن ذلك ما فعله هولاكو ثم تيمورلنك من تدمير متعمد لشبكة السدود التي بناها هارون الرشيد لاستصلاح أراضي الأهوار، والحملات العسكرية المتتالية التي كانت ترسلها الدولة العثمانية إلى المنطقة لمعاقبة "المشاغبين العرب".
وخلال تسعينيات القرن الماضي، شهدت الأهوار عملية تجفيف ممنهجة خفّضت مستويات المياه فيها بنسبة 90 في المائة، وتسببت في القضاء على واحدة من أكبر المجمعات المائية العذبة في العالم، وانقراض مجموعة من الحيوانات المتوطّنة، وحصول تغيُّرات كبيرة في المناخ المحلي وانخفاض في الرطوبة الجويّة وزيادة العواصف الترابية.
وبعد حرب العراق، بدأت الحكومة الجديدة وعرب الأهوار بهدم الإنشاءات التي أعاقت تدفق المياه، وبدعم من الأمم المتحدة جرت استعادة رقعة المياه السطحية والنباتات إلى ما نسبته 58 في المائة من حجمها الأصلي بحلول عام 2006. ومع ذروة تعافيها في 2020، عاد نحو 250 ألفاً من عرب الأهوار إلى موطنهم واستعادوا نمط معيشتهم القائم على جني القصب وزراعة المحاصيل ورعي الجاموس وصيد الأسماك.
نازحون بسبب قلّة الموارد المائية
تغطي الأهوار والمناطق المحيطة بها حالياً ما يقرب من 4000 كيلومتر مربع، ولكن المكاسب البيئية التي تحققت خلال السنوات الأخيرة عرضة للخطر مع دخول العراق عامه الرابع من الجفاف. ويقترن الجفاف مع السدود وأعمال تحويل المجرى التي نفذتها تركيا وإيران على الأنهار التي تزوّد العرّاق بمعظم مياهه.
وكانت الحكومة العراقية أعلنت خلال الصيف المنصرم أن مخزونها المائي انخفض بنسبة 60 في المائة مقارنةً بالعام الماضي. وتسبب انحسار المياه بتجفيف مساحات شاسعة من المستنقعات، لاسيما في أهوار الحويزة التي أخذت تشهد فترات طويلة من الجفاف منذ عام 2009 عندما أكملت إيران بناء حاجز أعاق تدفق المياه إليها.
وتسبب تراجع تدفقات المياه العذبة ضمن الأهوار في تسلل مياه الخليج المالحة إلى عمق الأراضي الرطبة بمسافة تصل إلى نحو 190 كيلومتراً. ونتيجة ذلك أصبح 24 ألف هكتار من الأراضي غير صالح للزراعة، كما مات أكثر من 30 ألف شجرة. ومع قلّة المياه العذبة، ارتفعت تراكيز الملوّثات من المنصرفات الزراعية ومخلّفات النفط والغاز ومياه الصرف الصحي.
وتمثّل قلّة الموارد المائية مشكلة مزمنة في العراق، والبلدان العربية بشكل عام. ويعيش حالياً أكثر من 200 مليون شخص في العالم العربي في ظروف تتسم بندرة المياه، في حين يعاني 160 مليوناً من "ندرة المياه المطلقة". وبحلول 2030، ستؤثر التغيُّرات المناخية سلباً على الأمن المائي العربي، ومن المتوقع أن تقلل الموارد المائية المتجددة بنسبة 20 في المائة.
ويشهد العراق انخفاضاً قياسياً في هطول الأمطار منذ سنوات وارتفاعاً في درجات الحرارة، مما يسرّع التبخّر من الخزّانات والجداول. ووفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، يأتي العراق في المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر عرضة لتأثيرات تغيُّر المناخ، حيث من المتوقع استمرار ارتفاع درجات الحرارة سنوياً، وتناقص هطول الأمطار، وازدياد الجفاف وندرة المياه، وتكرار العواصف الرملية والترابية والفيضانات المفاجئة.
ومما يزيد الطين بلة السياسات المائية في البلدان المجاورة، التي قلّصت مصادر المياه الحيوية، إلى جانب النمو السكاني السريع والتوسع الحضري غير المنظّم والإسراف في استهلاك المياه للأغراض الزراعية والصناعية. ويزيد سوء الإدارة من خسائر المياه الفادحة، فأغلب أقنية الري لم تجرِ صيانتها أو تحديثها من فترة طويلة، مما يؤدي إلى ضياعات كثيرة.
كما يعوق انقطاع التيار الكهربائي ضخ المياه وتخزينها. وفي كثير من الحالات، يروي المزارعون حقولهم بطريقة الغمر بدلاً من استخدام طرق الري الحديثة التي ترشّد استهلاك المياه. وتساهم الآبار العشوائية في نضح المياه الجوفية وتحويل المياه خارج الحوض المائي لمنطقة الأهوار.
وفي نهاية عام 2021، سجّلت المنظمة الدولية للهجرة نزوح ما يقرب من 20 ألف شخص بسبب ندرة المياه وارتفاع الملوحة وتدني جودة المياه في جميع أنحاء العراق. وتُشير المنظمة إلى أن سكان الأهوار، الذين اعتادوا التنقل دائماً داخل الأراضي الرطبة، ينظرون إلى نزوحهم الحالي على أنه قسري ودائم، حيث لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الأراضي الرطبة للحفاظ على سبل العيش.
ويشعر من بقي في الأهوار بحالة الغبن من توزيع الموارد المائية في البلاد، حيث يستحوذ القطاع الزراعي على نحو 75 في المائة من مياه العراق، بينما يُخصص 18 في المائة للاستخدام الصناعي والبلدي والأهوار، ويذهب الباقي لتربية الأسماك والمواشي. ويخشى البعض من أن تؤدي الهجرة والبطالة والصراع لكسب العيش إلى أزمات عميقة، في بلد يعاني أصلاً من كثرة النزاعات.
كما طال الجفاف الأخير التنوُّع البيولوجي في منطقة الأهوار، إذ تسبب في تناقص أعداد سمك البني، الذي يعتبر مصدر دخل رئيسي لصيادي الأسماك في المنطقة، وقلّت مشاهدات البط الرخامي وطائر القصب المهددين بالانقراض. كما ترك انخفاض منسوب المياه تأثيره المدمّر على مربّي الجواميس، التي نفقت بسبب المرض وسوء التغذية.
وتعمل الحكومة العراقية، بالتعاون مع المنظمات الدولية، على تخفيف وطأة الجفاف من خلال تشجيع المزارعين على استخدام أنظمة الري الحديثة، ومنع الإفراط في ضخ المياه الجوفية، وترويج زراعة أنواع الحبوب المقاوِمة للملوحة. ويستمر العراق في عملية مفاوضات عسيرة مع إيران وتركيا لزيادة تدفق المياه عبر الحدود، لكن من دون جدوى حتى الآن. وفي الوقت ذاته، يبدو موسم الأمطار هذه السنة غير مبشِّر، مما يعزز المخاوف من آثار تغيُّر المناخ وسوء إدارة الموارد المائية على مستقبل الأهوار والمجتمعات التي تعتمد عليها.