يدفع تغيُّر المناخ ملايين الأشخاص حول العالم إلى هجرة مواطنهم وتغيير أنماط معيشتهم على نحو غير مسبوق. ومنذ بداية الثورة الصناعية، ارتفعت حرارة الكوكب بمقدار 1.2 درجة مئوية، وهو رقم على ضآلته كان كافياً لزيادة شدّة وتكرار الأعاصير وموجات الحرّ والجفاف وارتفاع مستوى سطح البحر وكوارث طبيعية أخرى.
وتقدّر البلدان الأكثر عرضة لتغيُّر المناخ مقدار ما خسرته، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وتباينات الهطول المطري خلال الأعوام العشرين الماضية، بنحو 20 في المائة من ثروتها. وهي في معظمها دول ذات دخل منخفض ومتوسط تأخرت نهضتها الصناعية، ولم تساهم تاريخياً سوى بمقدار ضئيل من انبعاثات غازات الدفيئة.
الخسائر والأضرار على جدول الأعمال
تندرج الآثار السلبية لتغيُّر المناخ في المفاوضات الدولية تحت عنوان "الخسائر والأضرار" (Loss and Damage). ويمكن إرجاع أصل هذه العبارة إلى الاقتراح الذي قدّمته فانواتو، وهي دولة جزرية صغيرة في المحيط الهادئ، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1991 من أجل تبني خطة "لتعويض الدول الجزرية الصغيرة إلى جانب البلدان النامية المنخفضة عن الخسائر والأضرار الناجمة عن عواقب ارتفاع مستوى البحر". والمقصود أن تتحمل الدول الصناعية مسؤوليتها التاريخية عن الانبعاثات المسببة لتغيُّر المناخ، وفق حجم الانبعاثات من كل منها.
ولم يَلْقَ الاقتراح في حينه الاهتمام الجدّي، لكن تعبير الخسائر والأضرار بدأ يتطوّر ويشقّ طريقه الخاصة. وبحلول 2007، أقرّ مؤتمر الأطراف رسمياً الحاجة إلى "وسائل لمعالجة الخسائر والأضرار المرتبطة بتأثيرات تغيُّر المناخ في البلدان النامية". وإلى جانب "التكيُّف" و"التخفيف"، أصبحت الخسائر والأضرار الركيزة الثالثة لقمة باريس المناخية عام 2016.
وخلال السنوات التالية، ازدادت المطالبات بإقرار الخسائر والأضرار وتمويل التعويض عنها. وعلى نحو متزايد، قام المدافعون عن المناخ، والبلدان النامية، وبعض دول الاقتصادات الناشئة، مثل الهند والبرازيل، بتأطير تمويل الخسائر والأضرار كشكل من أشكال التعويضات، ذلك أن المساهمة التاريخية لهذه الدول في تغيُّر المناخ محدودة، لذا من الظلم تحميلها عبء آثاره الأكثر فتكاً.
وفيما رفض منظمو مؤتمر تغيُّر المناخ "كوب 26"، الذي انعقد العام الماضي في غلاسكو، لحظ قضية الخسائر والأضرار على جدول الأعمال، نجحت الخارجية المصرية في إدراجها ضمن أولويات الأجندة المؤقتة لمؤتمر شرم الشيخ (كوب 27)، الذي سينعقد الشهر المقبل.
وتُعتبر الخطوة المصرية هامةً في دعم الدول الأكثر تضرراً، لاسيما بعد الجفاف الذي أوصل الصومال إلى مستوى المجاعة، والفيضانات المدمّرة التي طالت نحو ثلث باكستان. ويأمل النشطاء والدول النامية أن تتوافق إرادات المجتمعين في "كوب 27" على نظام مستدام لتمويل الخسائر وتعويض الأضرار على المدى الطويل.
ويشير الممثل الخاص للرئيس المعيّن للدورة 27 من مؤتمر المناخ، السفير وائل أبو المجد، إلى أن مصر تسعى لمنح الأولوية للنقاش حول تعويضات الدول التي تعرّضت لخسائر اقتصادية كبيرة على خلفية تغيُّر المناخ وعواقبه. ويضيف أن القمة بحاجة إلى معالجة هذه القضية "خاصةً ما يتعلّق بإيجاد طريقة مبتكرة لتمويل البلدان التي هي في أمسّ الحاجة إلى معالجة الخسائر والأضرار الفورية التي تقضي على جزء كبير من ناتجها المحلّي الإجمالي سنوياً".
مصاعب وتحدّيات
سبق للدول الغربية أن تعهّدت، أكثر من مرة، بتمويل مشاريع المناخ في البلدان الفقيرة. ومن أبرز المشاريع في هذا المجال صندوق المناخ الأخضر، الذي تأسس عام 2010 بهدف جمع 100 مليار دولار سنوياً لمساعدة الدول النامية على الاستجابة لتغيُّر المناخ، من دون تغطية الخسائر والأضرار. لكن حجم تمويله السنوي لم يتجاوز 80 مليار دولار، معظمها معادة التدوير من المساعدات الإنمائية العادية.
ويأمل أنصار العدالة المناخية في تعلُّم الدروس من المحاولات الفاشلة السابقة، فيما يحاولون إنشاء آلية جديدة لجمع وتوزيع التمويل للخسائر والأضرار. وبما أن مؤتمر المناخ يُعقد لأول مرة منذ ست سنوات خارج الدول الغربية، يأمل المناصرون في الاستفادة من اهتمام وسائل الإعلام لتقديم الحجة الأخلاقية لتمويل الخسائر والأضرار.
وفي المقابل، تواصل الدول المتقدمة، بما فيها الولايات المتحدة، تجنُّب هذه القضية خشية أن يفتح الاعتراف بها بوابة التقاضي والمطالبة بتعويضات مالية غير محدودة. وكان المبعوث الأميركي لشؤون المناخ جون كيري حدد أولويات بلاده بالقول: "إن أهم شيء يمكننا القيام به هو التوقف والتخفيف بما يكفي لمنع الخسائر والأضرار، وما يلي ذلك أهمية هو مساعدة الناس على التكيُّف مع الضرر الموجود فعلاً". وفي إشارة إلى التكاليف الهائلة لأزمة المناخ، يُضيف كيري" "أُذكر لي حكومة واحدة في العالم لديها القدرة على دفع تريليونات الدولارات، لأن هذا هو الثمن". وتقدَّر قيمة الخسائر والأضرار الناجمة عن تغيُّر المناخ بحلول عام 2030 بين 290 و580 مليار دولار سنوياً.
وفي حين تستمر الولايات المتحدة ومعظم الدول الصناعية الأخرى بالمراهنة على تسوية لتمويل تعويضات الخسائر والأضرار، خطَت دول غنية أصغر قُدُماً في هذا المجال، إذ أصبحت الدنمارك أول دولة مستقلة تموّل رسمياً تعويضات الخسائر والأضرار بمقدار 13 مليون دولار في وقت سابق من هذه السنة. وتسير الدنمارك على خُطى إسكتلندا، التي حققت تقدماً كبيراً في "كوب 26" خلال العام الماضي، إذ أقرَّت أنها بَنَت ثروتها على حساب الدول التي تعاني الآن أسوأ آثار تغيُّر المناخ. وتعهّدت بتقديم نحو 2.3 مليون دولار لتمويل تعويض الخسائر والأضرار، لتصبح أول دولة تفتح الباب رسمياً على التعويضات. لكن معظم الدول مازالت تتهرب من المسؤولية، عدا عن أن نقاشات الخسائر والأضرار في شرم الشيخ ستواجه مصاعب كثيرة، لاسيما حالة الحرب في أوكرانيا وتداعيات جائحة "كوفيد-19" وما نتج عنها من أزمات في الغذاء والطاقة ومخاوف من ركود عالمي وشيك.
ويستلزم توفير مئات تريليونات الدولارات على شكل تعويضات مناخية للدول النامية مراجعة النظم الضريبية في الدول المتقدمة، وتخفيض الدعم الحكومي للوقود الأحفوري، وفرض رسوم على تذاكر الطيران الدولية، وإلغاء ديون البلدان الضعيفة. وما يحكم ذلك فعلياً هو الإرادة السياسية الجدّية التي سبق لها أن وفّرت الأموال المطلوبة خلال فترة الجائحة والحرب الأوكرانية.
ومما يساعد في تهدئة مخاوف الدول المتقدمة من الوقوع في مأزق التعويض غير المحدود عن الأضرار توجُّه الدول النامية ومجموعات العدالة المناخية لتغليب "حساب الخسائر والأضرار" على مبدأ "مسؤولية التعويض". خاصةً أن المادة الثامنة من اتفاق باريس تنصّ صراحةً على الاعتراف بالخسائر والأضرار، ولكن الاتفاق لا يوفّر أساساً لأي مسؤولية أو تعويض.
ويشير بعض مناصري المناخ إلى أن رفض تمويل الخسائر والأضرار قد يزيد في الواقع من خطر التقاضي. وتسعى جزيرة فانواتو، التي أطلقت شرارة الخسائر والأضرار قبل أكثر من 30 عاماً، إلى الحصول على رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية لتغيُّر المناخ. هذا الرأي، وإن كان غير ملزم، سيساعد البلدان النامية والدول الجزرية الصغيرة على فهم الحجج القانونية التي يمكن تقديمها وإدراك فرص النجاح في أية محاولة للتقاضي.