ترتفع الجدران والحواجز في أكثر من مكان في العالم، وتشهد نمواً مطرداً منذ عقود. ففي أوروبا، تبني الدول أسواراً جديدة لمنع المهاجرين غير الشرعيين من عبور الحدود في المناطق المعزولة. وفي شرق أفريقيا، تُستخدم الأسيجة على نطاق واسع لتربية الماشية وتلبية الطلب المتنامي على الغذاء. ويُظهر عدد متزايد من الدراسات تأثير هذه العوائق الإصطناعية على سلامة الحياة البريّة ومخاطرها على الأنواع المهددة بالانقراض.
عرقلة الانتشار الطبيعي
أشهر سياج في الولايات المتحدة هو الجدار الحدودي مع المكسيك، الذي أقرّه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لوقف الهجرة غير الشرعية، لكنه في الوقت نفسه يقيّد الحركة الطبيعية للأنواع الحيّة بين البلدين أكثر. ولا يقتصر تأثير هذا الجدار على المنطقة المحلية مسبباً فقدان الموائل وتدهورها، وإنما يمتد على مستوى المناظر الطبيعية فيقضي على التواصل في ما بينها.
وعلى سبيل المثال، تواجه حيوانات النمر الأميركي (الجاغوار) والنمر القزم (الأصلوت) نوعاً من العزلة بين أفرادها على جانبي الحدود. وهذا يعني أن التفاعل الجيني اللازم للحفاظ على المجموعات الصغيرة من هذه الحيوانات قد يتأثر. ومن ناحية أخرى، فإن كباش الجبال الصخرية وثيران "البيسون" الموجودة في المكسيك ستكون غير قادرة على الهجرة شمالاً للهرب من الأجواء الحارة والجافة.
إلى وقت قريب، كانت الدراسات عن الأسوار وأثرها في سلامة الحياة البرية قليلة نسبياً. وينوّه بحث بعنوان "علم بيئة السياج: أُطر لفهم الآثار البيئية للأسوار"، نشرته دورية "بيو ساينس" سنة 2020، إلى أنه غالباً ما يتم تجاهل الآثار العميقة للأسوار على التنوُّع الحيوي ويجري التقليل من شأنها إلى حدٍ بعيد.
وتُظهر الدراسات الأخيرة أن هذه الآثار تمتد إلى ما هو أبعد من إعاقة طرق هجرة الحيوانات، وتشمل زيادة فرصة انتقال الأمراض عن طريق تركيز تجمّع الحيوانات، وتغيير ممارسات الصيد للحيوانات المفترسة، وإعاقة الوصول إلى المصادر الأساسية للمياه والأعلاف. وفي حالات المرض والكوارث، تمنع الأسوار "الإنقاذ الجيني"، وهو أداة حفظ طبيعية تقوم على تنويع العوامل الوراثية عن طريق نقل الجينات من مجموعة إلى أخرى، فتنخفض الأمراض الوراثية.
وتساعد الدراسات حول الأسوار في لفت النظر إلى أهمية تخطيط عمليات حماية الأنواع الحية، لا سيما في المناطق حيث اعتادت المجتمعات على اعتبار الأسوار أمراً مفروغاً منه. ومن المصاعب التي تواجهه هذه الدراسات تعذُّر رصد الأسيجة عن طريق الأقمار الإصطناعية، مما يقلل من إدراك آثارها التراكمية على المناظر الطبيعية وعمليات النظام البيئي وتقاطعاتها مع الأفراد والمجتمعات.
ويشير بحث "علم بيئة السياج" إلى أن الأسوار تؤثر في النُظم البيئية على جميع المستويات، بدءاً من تقليل وفرة الحشرات لأنها توفّر للعناكب أماكن واسعة لبناء شبكاتها، إلى إعاقة هجرة الحيوانات إلى أماكن بعيدة. ومن خلال تركيز الحيوانات معاً في أماكن ضيقة، تزداد احتمالات انتقال الأمراض، وهي قضية لم تحْظَ باهتمام كبير خاصةً مع الانتشار الحالي لجائحة كورونا والهزال المزمن بين مجموعات الحياة البرية.
وفي كثير من الأحيان، تتسبب الأسوار في مقتل الحيوانات. فطائر الطيهوج الكبير، الذي تتراجع أعداده على نحو متسارع في غرب الولايات المتحدة، يطير على ارتفاعات منخفضة، مما يجعله عرضةً للموت نتيجة الاصطدام بالأسلاك الشائكة. وتتشابك الظباء في أميركا الشمالية واللاما البرية (الغوناق) في أميركا الجنوبية مع الأسوار، وتموت من الجوع أو نؤذي نفسها.
وفي سلوفينيا، التي أقامت حاجزاً من الأسلاك الشائكة بطول 178 كيلومتراً على حدودها مع كرواتيا نهاية سنة 2015، جرى تسجيل موت 21 غزالاً على أسلاك الحاجز خلال عشرة أشهر فقط، كما وُجِد اثنان من طيور مالك الحزين الرمادي متشابكين في الأسلاك. وتشير ورقة بحثية، نُشرت في المجلة الأوروبية لأبحاث الحياة البرية في 2017، إلى أن هذا السياج قد يمثل تهديداً خطيراً للحياة البرية على المدى الطويل من خلال تأثيره في تجزئة الموائل وفصل المجموعات الأحيائية.
وتشمل التهديدات غير المباشرة قطع طرق الهجرة، والقضاء على الموائل، والتغيُّرات في عادات الصيد. فعلى سبيل المثال، تستخدم الذئاب أحياناً الأسوار لمحاصرة فرائسها. وفي الصين، تمثل تجزئة الموائل بسبب الحواجز الجديدة التهديد الرئيسي لغزال "برزوالسكي". كما أدى التوسع السريع في عدد الأسيجة في شرق أفريقيا الغنية بالحياة البرية إلى منع هجرة الحيوانات البرية في منطقة "ماساي مارا" في كينيا، حيث تقوم الحيوانات بتتبع أماكن هطول الأمطار للعثور على الطعام والماء.
ويجري نصب الأسيجة في "ماساي مارا" وأماكن كثيرة في العالم من أجل احتجاز المواشي وحمايتها من التعديات ولإبعاد الحيوانات عن المحاصيل. ولهذا السبب تتشابك بيئة السياج مع القضايا الاجتماعية والثقافية. وفي مسالك الهجرة غير الشرعية، تدفع الأسوار البشر والحيوانات أيضاً للبحث عن طرق أكثر خطورة، كمعابر الأنهار والصحاري التي قد تتقاطع مع مناطق ذات قيمة طبيعية أو ثقافية عالية.
وتشير دراسة بحثية، نُشرت في دورية "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" خلال السنة الماضية، إلى أن النطاقات التي تشغلها 29 في المائة من الطيور و35 في المائة من الثدييات من المرجح أن تتغير بشكل كبير بسبب الاحترار العالمي حتى سنة 2070، بحيث ستكون هناك ضرورة إلى إعادة نشر أكثر من نصف أعداد أفرادها إلى بلدان لا توجد فيها حالياً. وستكون معظم حركات الأنواع عبر الحدود في غرب الأمازون وحول جبال هيملايا وفي وسط وشرق أوروبا.
وتخلص الدراسة إلى أن ثلاثة حواجز ستكون مثيرة للقلق على نحو خاص، هي الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، التي يمكنها وحدها احتجاز 122 نوعاً من الثدييات في أي من البلدين، والحدود بين الهند وميانمار، والحدود بين روسيا والصين. وفيما تقوم الدول الغنية بشكل فعال بتصدير حالات انقراض الأنواع الحية إلى البلدان الأقل ثراءً بسبب دورها في تغيُّر المناخ، فإن الحدّ من تحركات الحياة البرية عبر الحدود سيؤدي إلى تفاقم هذه المشكلة.
الأسوار تغيّر النُظم البيئية
وفيما تمضي بولندا في بناء جدارها الحدودي بطول 180 كيلومتراً ضمن غابة "بياوفيجا" لمواجهة الهجرة غير الشرعية عبر جارتها بيلاروسيا، يخشى علماء الأحياء من الآثار البيئية لهذا الجدار، الذي سيرتفع إلى خمسة أمتار وتعلوه الأسلاك الشائكة. ولا تقتصر المخاوف على إعاقة هجرة الدببة والغزلان وثيران البيسون، بل تمتد إلى تعريض الغابة، المسجّلة كأحد مواقع التراث العالمي، لغزو النباتات الغريبة التي ستنتقل بذورها مع مواد البناء وأحذية العمال وإطارات المركبات.
ويمكن للأسوار أن تتسبب في نشوء مناطق حُرم بيئية، حيث لا يستطيع سوى نطاق ضيق من الأنواع الحية والنُظم البيئية الازدهار. ونظراً لازدياد الأسوار ونموها بوتيرة متسارعة في جميع أنحاء العالم، من المرجح أن يتبع ذلك انهيار النُظم البيئية.
في جنوب شرق أوستراليا، يرى باحثون أن سياج "وايلد دوغ باريير" يتسبب في خلق "عوالم بيئية" منفصلة على جانبيه. ففي داخل السياج، الذي يمتد إلى 5613 كيلومتراً ويُعدّ الأطول في العالم، يقوم المزارعون بمكافحة الكلاب الأوسترالية (الدانغو)، مما أدى إلى خلل في السلاسل الغذائية. فبغياب كلاب الدانغو داخل السياج، ازدادت أعداد حيوان "الكنغر"، التي تسببت نتيجة رعيها الجائر في تآكل التربة وفقدان المغذيات وتغيير تضاريس الكثبان الرملية والمجاري المائية. ومع تناقص الغطاء النباتي، أصبح الفأر القافز الداكن أكثر انكشافاً على الحيوانات المفترسة وازداد خطر انقراضه.
ويزداد نمو الأسيجة بسرعة في جميع أنحاء العالم. ومن الأمثلة ما يجري حالياً من تمديد سياج "وايلد دوغ باريير" بإضافة 740 كيلومتراً أخرى. كما أن الجدران المنيعة ترتفع على الحدود بين بلدان أوروبا الشرقية لردع المهاجرين، حيث أصبحت أوروبا تمتلك أسواراً حدودية أكثر مما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة. ويُقدّر طول الأسيجة في الغرب الأميركي وحده بأكثر من مليون كيلومتر، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف المسافة بين الأرض والقمر.
ويؤدي الفهم الأفضل للدور الذي تلعبه الأسوار في النُظم البيئية إلى إصلاحات يمكن إجراؤها ببساطة عادةً، كإزالة الأسيجة غير المستخدمة، أو تعديل ارتفاع أسلاك السياج للسماح بمرور الحيوانات تحتها أو القفز فوقها. ففي غرب الولايات المتحدة، مثلاً، تتم إضافة عواكس بسيطة إلى الأسيجة لتمكين طائر الطيهوج وصقور الشاهين والطيور الأخرى من رؤية الأسلاك وتجنب الاصطدام بها. كما يستخدم بعض مربّي الماشية الأسيجة المحمولة، وينقلونها من مرعى إلى آخر، بدلاً من نصب الأسيجة الدائمة وتركها خلفهم.
وفي المقابل، يمكن أن تلعب الأسيجة دوراً مهماً في الحفاظ على الأنواع الحية إذا وُجِدت في المكان المناسب، وهي أداة هامة في إدارة الحيوانات المفترسة. ففي أميركا الشمالية، تُستخدم الأسوار الكهربائية المنيعة في إبقاء الدببة الرمادية خارج المناطق المأهولة بالسكان، وتجعلها بعيدة عن عوامل الجذب كأقفاص الدجاج وخلايا النحل وغيرها.
وتشير ملاحظات استشاري التنوع الحيوي جيانلوكا سيرا إلى أن الأسيجة الخاصة في محمية التليلة قرب مدينة تدمر السورية ساهمت في الحفاظ على الغطاء النباتي للبادية ضمن المحمية، بالمقارنة مع التدهور الكبير الذي طال المناطق خارج المسيّجات بسبب الرعي الجائر خلال فترة الجفاف التي شهدتها البلاد قبل 15 عاماً.
من الممكن التخفيف من آثار بعض الأسوار والأسيجة، عن طريق تحديد الأنواع والموائل المعرضة للخطر، وتصميم الأسوار لتقليل الضرر البيئي وتخفيفه، لا سيما في نقاط العبور المعروفة للحياة البرية. وفي أكثر من مكان في العالم، تُستخدم الأنفاق والجسور لضمان تواصل الموائل التي تقطّعت بسبب الطرق السريعة وأسيجتها، عبر توفير ممرات آمنة لانتقال الدببة والذئاب والغزلان والزواحف وغيرها.
ما يحدث حالياً هو أن الحدود الطبيعية تغرق أو تنجرف أو تنهار أو تجفّ بسبب تغيُّر المناخ، في حين ترتفع الحواجز المصطنعة في كل مكان. ومعالجة مشاكل هذه الحواجز لا يتطلب فقط إجراء إصلاحات في السياسات والتشريعات، بل يقتضي إدراكاً أفضل للأسباب التي أدّت إلى إنشائها وكيفية التخفيف من أضرارها.