الشعلة الزرقاء النقية المنبعثة من الموقد المعدني المتواضع هي بصيص أمل كبير لمئات ملايين العائلات الفقيرة التي تعمل بالزراعة. إلا أن المخترع أليكسيس بيلونيو لم يكن يدرك في بداية الأمر أنه حقق حلماً كان يعتبره الخبراء مستحيلاً، وهو تحويل النفايات الزراعية إلى غاز حيوي للطبخ في موقد يشتعل من الأعلى.
لا شك في أن أي تغيير بسيط في استخدام الرز سيحدث نقلة نوعية في المناطق التي يعد فيها غذاءً رئيسياً لا غنى عنه لنحو بليوني شخص، خصوصاً في الدول الاستوائية النامية، حيث يشكل جزءاً أساسياً من الوجبات اليومية الثلاث. ولكن طهو الرز، الذي يبلغ إنتاج العالم منه 650 مليون طن سنوياً، يتطلب من هذه الشعوب استخدام أنواع من الوقود الأحفوري باهظة الثمن وذات آثار سلبية على الصحة والمناخ، مثل الغاز والكيروسين (الكاز).
بيد أن هناك فوائد أخرى للرز، يمكن تحقيقها بالأكوام الضخمة من قشوره التي تترك عادة لتتعفن على جنبات الطرقات أو يتم حرقها في الحقول، فتضيع ملايين الأطنان من الطاقة الكامنة. وقد شكل إيجاد طريقة للاستفادة من هذه النفايات الضخمة المهملة هاجساً أرّق تفكير بيلونيو (48 عاماً)، أستاذ الهندسة الزراعية في جامعة وسط الفيليبين، الذي اخترع 30 جهازاً لمساعدة المزارعين ولا سيما الفقراء.
لقد استخدمت سابقاً مواقد طبخ تعمل بقشور الرز، إلا أنها كانت غير صحية وتنتج كميات كبيرة من السُخام، فضلاً عن أنها لم تكن تولد الحرارة الكافية لطبخ الطعام بسرعة. وكان بيلونيو يعتقد أنه إذا ما استطاع تحويل قشور الرز إلى غاز، فسيتمكن من توفير لهب أقوى وأنظف للطبخ. وكانت الجهود الرامية إلى التغويز (gasification أي إنتاج الغاز عبر عمليات تحويل) تواصلت منذ 150 سنة لأغراض عديدة، منها استخدامه في المواقد، ولكن معظمها فشل في تحقيق فائدة لجموع الناس بمثل هذه البساطة والكلفة المنخفضة.
مهمة "مستحيلة"
مضت الفكرة في رأس بيلونيو أثناء وجوده في ورشة عمل تقنية حول تغويز الخشب في المعهد الآسيوي للتكنولوجيا في تايلاند. فانصرف إلى العمل بمفرده مستخدماً مصادره الخاصة، وصمم موقداً بسيطاً يتم إشعاله من الأعلى، ويحتوي على مروحة صغيرة في قاعدته مهمتها تزويده بتيار هوائي صاعد. في موقد بيلونيو، يقوم تيار من الأوكسيجين بتحويل الوقود الناتج من قشور الرز المحترقة إلى مزيج قابل للاشتعال مكون من غازات الهيدروجين وأول أوكسيد الكربون والميثان، فيتولد لهب أزرق حار يشبه لهب احتراق الغاز الطبيعي.
يقول بول أندرسون، البروفسور الفخري في جامعة ولاية إيلينوي الأميركية: «في البداية، لم يكن بيلونيو على علم بأن ما يحاول القيام به كان مستحيلاً في نظر البعض وبأنه يجب أن يفاجأ بنجاح مسعاه». أما بيلونيو فاعتبر أن "هذه التقنية هبة من الله لكي يستفيد منها جميع الناس حول العالم".
في البداية ظهر عائق كبير أمام انتشار هذه التقنية، إذ بلغ سعر النتاج الأول من مواقد بيلونيو التي تم تصنيعها في الفيليبين 100 دولار أميركي للجهاز الواحد، وهو مبلغ يصعب على عائلة فقيرة دفعه. بيد أن الأبحاث والتطويرات التي أجريت لاحقاً في إندونيسيا بهدف تبسيط تصميمه والمواد المستخدمة في صنعه ساهمت في خفض سعره إلى 25 دولاراً فقط. وتقوم شركات حالياً بتصنيع آلاف المواقد في الفيليبين وإندونيسيا وكمبوديا بالتعاون مع بيلونيو. وفي حين تشهد أسعار الطاقة ارتفاعاً كبيراً، فإن هذه المواقد التي تعمل على النفايات المتوفرة مجاناً يمكنها أن تتيح لعائلة تعمل في زراعة الرز تحقيق وفر يصل إلى 150 دولاراً سنوياً في تكاليف الوقود، وهو مبلغ كبير بالنسبة لهذه العائلات التي تعيش على دولارين أو ثلاثة دولارات في اليوم الواحد.
الواقع أن قائمة مزايا هذا الاختراع طويلة ومدهشة، ومنها على سبيل المثال أن طناً واحداً من قشور الرز يحوي طاقة تعادل 415 ليتراً من البترول أو 378 ليتراً من الكيروسين. وعليه، فإن بضع حفنات من قشور الرز يمكن أن تغلي الماء في غضون 6 إلى 9 دقائق. والأهم من ذلك أن القشور متوفرة مجاناً إما من المزرعة أو من مكبات النفايات المحيطة بطواحين الرز. وباعتبار مواقد بيلونيو أكثر كفاءة من المواقد التقليدية، فانها تحد من انبعاثات غازات الدفيئة، وتخلص المنازل من الأدخنة السامة. يضاف إلى ذلك أن الفحم الناتج من عملية الاحتراق قابل للتدوير ومن ثم الاستخدام لتحسين جودة التربة الزراعية أو لتصنيع قوالب من الفحم العضوي.
ابتكارات جديدة
طوَّر بيلونيو مؤخراً آلية عمل موقده المنزلي لابتكار مجموعة كاملة من التكنولوجيات الجديدة، مثل أنظمة إنتاج غاز مستمر الدفق يمكن استخدامها في معامل تجفيف الحبوب وأفران المخابز ومواقد الطبخ التجارية والمحطات الصغيرة لتوليد الطاقة. أما أحدث ابتكاراته فيتمثل في «النظام الفائق لإنتاج الغاز» وهو عبارة عن موقد قوي على قشور الرز يعمل بحقن بخار فائق الحرارة يناسب الصناعات الصغيرة والمنزلية. وتتميز تقنيات بيلونيو بأنها مبرهنة علمياً وموثوقة وغير مكلفة. وبالإضافة إلى قشور الرز، يمكن استخدام نفايات حيوية أخرى مثل قشور جوز الهند وبقايا الذرة وقصب السكر، عوضاً عن الوقود الأحفوري أو أخشاب غابات المطر التي تشهد اضمحلالاً متسارعاً.
يطمح بيلونيو حالياً إلى إطلاع العالم على اختراعاته ووضع خبراته ومعرفته في متناول الجميع في الفيليبين والخارج. وقد نشر كتيّباً حول تصنيع موقد الغاز الذي يعمل بقشور الرز، وهو متاح مجاناً على شبكة الإنترنت. وهو يعتزم استثمار أموال «جائزة رولكس للمبادرات الطموحة» التي فاز بها عام 2008، وقيمتها 50 ألف دولار، في إنشاء مركز تدريبي في إيلويلو بالفيليبين بهدف نشر المعلومات مجاناً وتوفير التدريب والاستشارات التقنية. وسيقوم بأبحاث حول ابتكارات جديدة، منها جهاز ضخم يعمل بقشور الرز لإنتاج الغاز على نطاق كبير، ومحطة توربينية غازية لتوليد الطاقة من أجل تزويد طواحين الرز بالكهرباء وإنارة القرى النائية. كما يتطلع إلى تخزين الغاز الناتج من قشور الرز لتشغيل الآلات المستخدمة في المزارع.
قال البروفسور أندرسون: "إنجازات أليكسيس جاءت بمبادرة ذاتية منه وباعتماده على موارده الشخصية. وتأسيس مركز لمعالجة قشور الرز هدف يستحق كل دعم وجهد لتحقيقه، لأنه سيفيد ملايين الأشخاص في الكثير من الدول".
ويواصل بيلونيو جهوده الحثيثة بعزيمة لا تلين وإرادة لا تكل من أجل تحقيق هدفه المتمثل في استثمار مصادر الطاقة المهملة، لتمكين العائلات في كثير من الدول النامية من طبخ طعامها بوسائل أكثر نظافة وكفاءة وبأقل التكاليف المالية والبيئية الممكنة.