شهدت سنة 2021 الكثير من الكوارث والخيبات، لكنها كانت أيضاً سنة "الأمل" البيئي. فعلى الصعيد السياسي حصلت تحولات هامة بوصول إدارة داعمة لقضايا البيئة إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة. كما شهدت السنة العديد من الابتكارات الخضراء والمشاريع البيئية الواعدة، قد يكون أبرزها مبادرة "الشرق الأوسط الأخضر" التي أطلقتها السعودية. وفي مجال الصحة العامة، حقق العلماء اختراقاً كبيراً في مواجهة فيروس كورونا المستجد عبر تطوير اللقاحات وبرامج التطعيم الواسعة، رغم عودة الفيروس ومتحوِّراته. وفي مواجهة الاحتباس الحراري، نجح المجتمعون في قمة غلاسكو في التوافق على تسريع العمل المناخي. وأقرّت دول عدة تشريعات لخفض النفايات البلاستيكة، بالتلازم مع تدابير للحدّ من انتاجها واستعمالها لمرة واحدة. وبدأ تنفيذ برامج ضخمة لحماية الغابات ورعاية الحياة البرية، من إندونيسيا إلى الإكوادور إلى بريطانيا. التحديات ما زالت ضخمة، لكن الأمل ما زال الأقوى.
مواجهة كورونا وما بعدها
قبل نحو سنتين، بدأت جائحة "كورونا" (كوفيد-19) بتخطي إجراءات الاحتواء وأخذت في الانتشار على نحو غير مسبوق، مما استدعى فرض حالة طوارئ صحية تضمنت الإغلاق والعزل وتدابير صحية إلزامية في جميع أنحاء العالم. ولم يقتصر أثر الجائحة على الإصابة بالعدوى، التي أودت حتى الآن بحياة نحو 5,35 مليون شخص وفق الأرقام الرسمية وأكثر من 20 مليون شخص وفق بعض التقديرات، بل تسببت في ركود اقتصادي عالمي وانقطاع في سلاسل الإمدادات وازدياد أعداد الجياع والعاطلين عن العمل.
وفي المقابل ساهمت تدابير الحدّ من انتشار الجائحة في تراجع حالات الإنفلونزا الموسمية في جميع أنحاء العالم. وسجّلت الولايات المتحدة خلال موسم الشتاء الأخير 700 حالة وفاة ناجمة عن الإنفلونزا الموسمية، في حين كان عدد الوفيات في الموسم السابق 22 ألف حالة، و34 ألف حالة في الموسم الذي قبله. كما تسببت هذه التدابير في خفضٍ طارئٍ للانبعاثات الكربونية وملوّثات الهواء، فيما يخشى العلماء من أن تؤدي إجراءات الإنعاش الاقتصادي بعد الجائحة إلى زيادة كبيرة في الانبعاثات والملوّثات.
وفي موازاة الحرب على الجائحة، كان المجتمع العلمي يواجه معركة أخرى قوامها الأخبار الزائفة والمعلومات المضلّلة التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ولئن أخذت كفة الحرب الأولى بالميل لصالح الإنسانية مع اعتماد لقاحات كورونا خلال هذه السنة وانتشار حملات التلقيح الواسعة النطاق، فإن التشكيك ونظريات المؤامرة لا يزال صوتها مرتفعاً في العالم الافتراضي. ومع ذلك يمثّل حصول نحو 4.5 مليار إنسان على أحد أنواع لقاحات "كوفيد-19"، أو ما يعادل 57 في المائة من تعداد سكان العالم، قصة نجاح لا يعكرها سوى ظهور السلالات الجديدة من فيروس كورونا والفروقات الكبيرة في نسب التلقيح بين الدول الغنية والدول الفقيرة. لكن الثابت أن تعميم حملات التلقيح ساهم في الحد من المخاطر الصحية المتطرفة لتفشي المتحورات الجديدة.
ويخشى العلماء أن يساهم الاحترار العالمي وتغيُّر استخدامات الأراضي في زيادة الأمراض الناشئة، لا سيما تلك المنتقلة من الحيوان إلى الإنسان. كما رصد العلماء توسيع الفطريات خلال السنوات الخمس الماضية لنطاق مواطنها، بفعل تغيُّر المناخ وتبديل عاداتها وتغيير أنماطها والاستفادة من حالات الطوارئ، مثلما هو الحال في ظل جائحة "كوفيد-19"، للعثور على ضحايا جدد. ويُقدّر عدد الأنواع الفطرية بنحو 5 ملايين نوع، من بينها 300 نوع تسبب المرض للإنسان وتودي بحياة نحو مليوني شخص سنوياً.
كوارث مناخية
تشير التقييمات الأولية إلى أن 2021 ستكون السنة السادسة أو السابعة الأكثر سخونة في التاريخ المسجّل، وأكثر سخونة من أية سنة قبل 2015. وفي أكثر من مكان في العالم، تسببت الكوارث المناخية بأضرار بشرية ومادية واسعة، لا سيما خلال منتصف السنة. فمن الهند إلى إنكلترا وروسيا والصين ونيوزيلندا والولايات المتحدة وإندونيسيا وأوغندا وألمانيا، بدا الأمر كما لو أن كل ركن من أركان العالم قد تعرض لهطول الأمطار والفيضانات الشديدة.
وفي منتصف السنة أيضاً، اجتاحت موجات الحرّ الشديدة اليابان وإيرلندا وتركيا وغرب أميركا الشمالية وإنكلترا، كما شهدت سيبيريا وغرب أميركا الشمالية ومنطقة البحر المتوسط حالات جفاف شديدة. ومع مزيج الظروف الحارّة والجفاف، اندلعت حرائق الغابات في هذه المناطق، حيث تعرضت ولاية كاليفورنيا لثاني أسوأ موسم حرائق غابات على الإطلاق بعد موسم 2020، وشهدت سيبيريا أقسى صيف جاف وأسوأ موسم حرائق غابات منذ 150 سنة.
ووفقاً لتقديرات شركات التأمين، تُعتبر 2021 السنة الثالثة منذ 1970 التي تتجاوز فيها قيمة الخسائر المؤمَّن عليها ضد حوادث الطقس القاسية في جميع أنحاء العالم 100 مليار دولار. ولا توجد حتى الآن تقديرات لمجمل الأضرار العالمية الناجمة عن كوارث الطقس المتطرِّفة التي تعزى إلى تغير المناخ، ولكن على سبيل المثال أودت موجة البرد الشديدة التي عصفت بولاية تكساس في شهر فبراير (شباط) الماضي بحياة 111 شخصاً وألحقت أضراراً مادية قاربت 200 مليار دولار.
وتُلحق حرائق الغابات أضراراً واسعةً بالغطاء النباتي وتهدد التنوع الحيوي والنظم البيئية. ففي حوض الأمازون طالت نيران الحرائق الموائل الطبيعية لنحو 85 في المائة من الأنواع الحية المهددة بالانقراض. وفي غابات ألاسكا وسيبيريا والأقاليم الشمالية الغربية لكندا، تزداد المخاوف من اتساع ظاهرة "الحرائق الزومبي" التي تعاود الاشتعال فجأة في الشتاء بعد إخمادها، وذلك نتيجة غنى التربة بالكربون والميثان، وما يعنيه هذا من انبعاث مئات ملايين الأطنان من غاز ثاني أوكسيد الكربون.
وكانت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ أصدرت في أغسطس (آب) الماضي تقييمها السنوي السادس، الذي خلُص على نحو قاطع، لأول مرة في سلسلة تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ، إلى أنه لا يوجد شك علمي متبقٍ بان البشر يغذّون تغيُّر المناخ وما يصاحبه من إحوال متطرِّفة في الطقس، فهذا الأمر "لا لبس فيه".
ويشير تقييم الهيئة إلى أن العلماء تجنبوا في السابق تعليل أحداث الطقس الفردية بتغيُّر المناخ، فيما زادت الثقة الآن في الربط بين المعطيات وقياس تأثير ارتفاع درجات الحرارة. ويظهر ذلك جلياً بعد الموجة الحارّة في شمال غرب المحيط الهادئ وكندا في أواخر يونيو (حزيران)، الماضي إذ وجدت مجموعة من العلماء أن تغيُّر المناخ الذي يسببه الإنسان زاد من فرصة حصول هذه الموجة 150 مرةً على الأقل.
مبادرات بيئية طموحة
لم يكن من قبيل المصادفة أن توصف مفاوضات المناخ في غلاسكو بأنها مفاوضات الحسم ونقطة تحوُّل للبشرية. فبينما كانت الغاية من مؤتمر باريس 2015 صياغة معاهدة عالمية جديدة للحدّ من ظاهرة تغيُّر المناخ، نجحت قمة غلاسكو 2021 في التأكيد على توافق الإرادات لتحقيق عمل مؤثر من خلال مضاعفة الجهود لاحتواء الاحتباس الحراري ضمن 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
وتضمنت اتفاقية غلاسكو المناخية لأول مرة نصاً يطالب الدول بتقليل اعتمادها على الفحم والتراجع عن دعم الوقود الأحفوري، وهي خطوات تستهدف مصادر الطاقة التي يرى العلماء أنها الدافع الأساسي لتغيُّر المناخ الذي يتسبب به الإنسان. ويُحسب لقمة غلاسكو نجاحها في تحقيق التوافق حول آلية عمل تجارة الكربون العالمية لتسريع العمل المناخي، وهي أحد الإجراءات المتعثرة منذ قمة باريس 2015.
وتعزز التقنيات الناشئة سنة 2021 الأمل في مواجهة التحديات الكبرى التي يواجهها الكوكب، لا سيما ما يتعلق بمواجهة تغيُّر المناخ واستدامة الغذاء وتحسين الصحة العامة. وقد أتاحت تقنيات إعادة بناء الحمض النووي والبيولوجيا التركيبية إنتاج الأمونيا الخضراء، والمحاصيل المهندسة وراثياً لتركيب الأسمدة الخاصة بها، والميكروبات التي تحلّ محل الأسمدة الكيماوية، والبروتينات المستخدمة في بدائل اللحوم.
وتبقى المخاوف من أن يؤدي هذا التطور التقني إلى آثار جانبية ليست بالحسبان. وكانت دراسة صدرت نتائجها في 2021 كشفت عن أول حالة فعلية لإمكانية الإخلال بنظام بيئي متكامل بعد تسلّل مورثات محورة إلى مجموعة نباتية برية. وأظهرت الدراسة أن مورثات انتقلت من محاصيل قطن معدّلة جينياً في المكسيك جعلت بعض نباتات القطن البري تطلق كميةً أقل من الرحيق، مما قلّل جاذبيتها للنمل الذي يحميها من الحشرات الآكلة للنبات.
وكما في السنوات السابقة، استمرت سنة 2021 ثورة النقل الصديق للبيئة مع ازدياد مبيعات السيارات العاملة على الكهرباء حول العالم، وإعلان الولايات المتحدة عن هدفها بأن تعمل نصف سياراتها المباعة في سنة 2030 على الكهرباء. وتبع هذا إعلان ألمانيا عن خطة لوضع 15 مليون سيارة كهربائية على طرقاتها خلال إقل من 10 سنوات. كما توقعت وكالة الطاقة الدولية ازدياد إمدادات الطاقة الخالية من الكربون في العالم بسرعة كبيرة خلال السنوات الخمس المقبلة.
وتقدم الإمارات نموذجاً متقدماً عن مستقبل الطاقة المتجددة، إذ إنها نجحت خلال سنة 2021 في إضافة 600 ميغاواط من القدرة التشغيلية للطاقة الشمسية النظيفة ليرتفع إنتاجها الإجمالي إلى نحو 1600 ميغاواط. ومن المتوقَّع أن تبدأ محطة الظفرة في أبوظبي إنتاج ما يزيد عن 2000 ميغاواط من الطاقة الشمسية خلال سنة 2022، مما يكفي لتزويد أكثر من 160 ألف منزل بالكهرباء.
وفي قصص النجاح هذه السنة، جرى الإعلان خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي عن أضخم تمويل على الإطلاق تقوم بتوفيره مؤسسات خاصة لدعم الحفاظ على التنوع البيولوجي عبر تعزيز وتوسيع المناطق المحمية ودعم سيادة السكان الأصليين على الأراضي التقليدية. وتبلغ قيمة التمويل، الذي يوفّره "صندوق بيزوس للأرض" و "مؤسسة بلومبرغ" الخيرية ومجموعات أخرى، خمسة مليارات دولار للمساهمة في تحقيق هدف حماية 30 في المائة من اليابسة والبحار على كوكب الأرض بحلول 2030.
وفي قمة "مبادرة الشرق الأوسط الأخضر" أعلنت السعودية عن إنشاء مبادرة عالمية للإسهام في تقديم حلول الوقود النظيف لتوفير الغذاء لأكثر من 750 مليون شخص في العالم، وإنشاء صندوق للاستثمار في حلول تقنيات الاقتصاد الدائري للكربون في المنطقة. ويبلغ إجمالي الاستثمار في هاتين المبادرتين ما يزيد عن 10 مليارات دولار، وستكون مساهمة السعودية المالية نحو 1.5 مليار دولار.
وتهدف "مبادرة الشرق الأوسط الأخضر"، التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في نهاية شهر مارس (آذار) الماضي، إلى دعم الجهود والتعاون في المنطقة لخفض الانبعاثات الكربونية بما يمثّل أكثر من 10 في المائة من إجمالي الإسهامات العالمية الحالية، وزراعة 50 مليار شجرة واستصلاح نحو 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة.
رغم استمرار التحديات الكبرى التي ما زالت تواجه البيئة، تفتح السنة الجديدة أبوابها على مبادرات مفعمة بالأمل.