عثرتُ في ملف قديم على رسالة من وزير سابق للبيئة، مرفقة بلائحة تضم عشرات المشاريع والبرامج المموَّلة من منظمات دولية. الوزير، الذي فوجئ بحجم هذه المشاريع في اليوم الأول لتسلّمه مهام الوزارة، أراد أن يتحقق من جدواها. تغطي المشاريع شؤوناً متنوّعة، بينها التشريعات البيئية والتخطيط الاستثماري البيئي وحماية الغابات وإدارة المناطق الساحليّة وإدارة الغابات وتغيُّر المناخ والتوعية.
جوابي إلى الوزير شدّد على ضرورة أن تكون هذه المشاريع والبرامج جزءاً من خطّة متكاملة للوزارة، وأن تخضع لأولويّاتها، فلا يشكّل موظفوها إدارة رديفة. لكن بعد نحو عقدين من الزمن، تخلّلتها مئات البرامج البيئية الدولية، التي صُرفت عليها آلاف الملايين في البلدان العربية، لم يتبدّل الوضع كثيراً، وما يزال التقييم يعتمد على عدد البرامج وعناوينها الجذابة بدلاً من دراسة نتائجها.
التعاون الدولي في مجال البيئة مهمّ جدّاً، ودعم الدول النامية بالتكنولوجيا والخبرة والتدريب والتمويل أساسيّ لإحداث التغيير. لكن هذا يضيع ويذهب عبثاً ما لم يحصل في نطاق خطة وطنية تقوم على تنفيذها إدارة حكومية مؤهّلة. لذا من الأجدى دعم المؤسسات الحكومية حتى تصبح قادرة على إدارة البرامج وتنسيقها والاشراف على تطبيقها، بدلاً من إنشاء إدارات موقتة موازية.
لنبدأ بتحديد الأولويات. من المعلوم أن هناك أهدافاً بيئية عالمية، تدعمها برامج للمساعدة التقنية والمالية. لكن ضرورة الانخراط في برامج كهذه، ليكون البلد مساهماً في المساعي الدولية، لا تعني إهمال الأولويات المحلية. فتغيُّر المناخ، بسبب انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، يجب ألا يغطّي على تلوّث الهواء بالكبريت وأول أوكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين، مثلاً، المضرّة مباشرة بالصحة. والتصدّي للتلوّث بالمعادن الثقيلة، مثل الزئبق، لا يبرّر إهمال التصدّي لتلويث البحر بالبكتيريا الناجمة عن صرف المجارير في الأنهار والبحار بلا معالجة. كما أن تأمين إمدادات متواصلة ونظيفة من الطاقة الكهربائية يجب أن يسبق إطلاق برامج وحوافز لتشجيع السيارات الكهربائية.
في غياب التنسيق، غالباً ما تتكرّر البرامج المموَّلة من جهات دولية مختلفة. فقد تمّ رصْد 4 برامج لوضع قواعد لتقييم الأثر البيئي للمشاريع، تم تمويلها في بلد واحد، خلال سنتين، ومعظمها منقول عما سبقه. وبعدما اعتمدت إحدى الوزارات خطة للتوعية البيئية موّلتها منظمة دولية، جرى تمويل دراستين مشابهتين، في السنة اللاحقة، من منظمتين، دولية وأوروبية. وبعد نفوق مئات الأطنان من الأسماك في نهر الليطاني اللبناني الصيف الماضي، تبيَّن أن عشرات الملايين التي خصّصتها البرامج الدوليّة، خلال ربع قرن، لمنع التلوّث عن النهر وبحيرة القرعون التي يصبّ فيها، ضاعت نتيجة غياب الدراسات السليمة والتنفيذ الدقيق والتنسيق والمراقبة. والمفارقة أن مستويات التلوُّث ازدادت أضعافاً بدلاً من أن تنخفض، إذ لم تعالِج البرامج المتتالية مصادرها الناجمة عن الصرف الصحي المنزلي وفضلات المصانع والمبيدات الزراعية السامة، التي تنتهي جميعاً في مجرى النهر وبحيرته.
ولا نعجب، في هذه الحال، إذا تولّت هيئة أوروبية تمويل حملة لتنظيف الشواطئ من الفضلات البلاستيكية في بعض بلدان حوض البحر المتوسط، من خلال حملات ينفذها متطوّعون من الأهالي والجمعيات، في حين لا يزال استعمال منتجات البلاستيك ذات الاستخدام الواحد مسموحاً في معظم هذه البلدان. أما كان الأجدى المساعدة في ايجاد بدائل لأكياس البلاستيك ووضع قوانين لمنع استخدامها، والضغط لتنفيذها، كما حصل في المغرب؟ وما نفع الملايين التي تُصرَف على حملات التنظيف الأهلية ذات الأثر العابر، غير توزيع المنافع والهبات؟
لا نعجب أيضاً إذا قرأنا عن مشروع بتمويل دولي لدراسة "الأثر الجندري لتغيُّر المناخ"، يركّز على التفاوت في الاستجابة للمشكلة المناخية بين الرجال والنساء. فهل هذه أولوية في بلدان ما زالت تحبو على طريق التعامل مع التغيُّرات المناخية وفهم أبعادها؟ والأنكى من هذا كله حملة إعلانية بتمويل دولي في موضوع المساواة بين الجنسين، ملأت شوارع بيروت، التي ما برحت ترزح تحت خراب انفجار المرفأ، ناهيك عن الانهيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
المشاريع والبرامج البيئية والانمائية ذات التمويل الدولي والخارجي أنواع. فبعضها تنفّذه الجهات المانحة عن طريق موظفين محليين وأجانب يعملون في مكاتبها وتحت إدارتها. وبعضها تنفذه الوزارات المعنية. أما البعض الآخر فبرامج تمتد لسنوات، يتم تنفيذها عن طريق موظفين محليين، تختارهم الهيئات الدولية لتأدية مهمات محددة في مكاتب الوزارات المعنية. وهذا يؤدي إلى مجموعة من الإشكالات، إذ يتقاضى هؤلاء الموظفون، الذين يُعتبَرون "خبراء دوليين"، أضعاف معاشات مواطنيهم في الوزارة نفسها، الذين غالباً ما يمتلكون مؤهلات مشابهة. وبدلاً من أن يشكّلوا "قيمة مضافة" لتحسين أداء زملائهم الموظفين الحكوميين وإنتاجيتهم، يقيمون إدارة بديلة معزولة، ويعتبرون عملهم موقتاً لاكتساب خبرة تؤهلهم للانتقال إلى وظائف ثابتة في منظمات دولية، غالباً خارج بلدانهم. والأدهى من كل هذا أن كثيراً من هذه البرامج تتلقى التمويل من الحكومات المحلية، التي تسدِّد بدلات "الخبراء" المحليين عن طريق المنظمة الدولية المعنية. وتحتفظ المنظمة بجزء منها كنفقات إدارية، فيما تدفع الباقي -وهو يساوي أضعاف المعاشات المحلية- لموظفي البرامج. فلا عجب، والحال هذه، أن يتم توزيع التوظيف في البرامج الدولية-المحلية هذه لكسب ودّ الوزراء والزعماء السياسيين في البلدان النامية. مع العلم أن قليلاً من هذه البرامج يُدار بكفاءة ويحقق إنجازات كبيرة وفوائد مشهودة للبلدان المعنية. أما في معظم الحالات، فتبقى بابَ استرزاق وتنفيعات، ويقتصر تقييمها على تقارير بإنجازات وهمية يعدّها القائمون عليها، بلا رقابة فعلية خارجية مستقلة.
أقول لصديقي الوزير السابق، الذي حاول التغيير لكن صدمه تحالف المصالح، إنّ الوضع لم يتغيّر. فعشرات البرامج الدولية على أيامه أضحت مئات. لكن الهواء ما يزال ملوّثاً، والمجارير ما برحت تُلقى في البحر بلا معالجة، ومكبّات النفايات العشوائية تتوسع، والغابات تقضي تحت ضربات القطع العشوائي والحرائق. ولا حلّ إلّا بتأهيل مؤسسات البيئة الوطنية وتقويتها، لتصبح قادرة على التعاطي المتوازن مع البرامج الدولية وتحويلها إلى منافع واقعية.
|