بحلول سنة 2050، من المتوقع أن تكون المدن مسكناً لثلثي أعداد البشر. وبالتزامن مع هذا التحوُّل، ستجد أعداد متزايدة وأنواع مختلفة من الحيوانات أساليب للتكيُّف مع الحياة بين الطرقات الإسفلتية والأبنية الخرسانية، فيما تستمر المدن بالارتفاع والتوسع.
ومنذ الحضارات الأولى، كان الإنسان على صلة وثيقة مع الطبيعة وكائناتها الحية. واستطاع الطرفان خلال مراحل التمدّن المختلفة تعزيز هذه العلاقة، التي أصبحت أكثر تنظيماً بمرور الزمن، رغم أن الطبيعة كانت في أغلب الأحيان لا تعترف بالقيود التي توضع لها.
القطط في منطقة الهلال الخصيب تعايشت مع أولى المجتمعات الزراعية التي عرفتها البشرية. ويرتبط هذا الأمر بتخزين الحبوب التي جذبت القوارض المزعجة، وهي بدورها جذبت القطط إلى حيث يوجد البشر. ولا يمكن الحسم حول الفترة التي عرفت فيها العلاقة بين الإنسان والقطط تحولاً من التعايش إلى الترويض، ولكن في زمننا المعاصر يمكن تصنيف القطط حسب معيشتها إلى قطط برية لا تزال على فطرتها الأولى، وقطط أليفة تسكن البيوت وتحظى برعاية البشر، وقطط شاردة تكيَّفت على الحياة المستقلة في المدن.
وتمثّل المنتزهات والحدائق، إلى جانب أطنان نفايات الطعام التي يجري التخلص منها يومياً، عنصر جذب للعديد من الحيوانات. كما أصبح النظام البيئي الحضري أكثر رسوخاً، بحيث أمست الحيوانات المفترسة تتجوّل بين الأبنية بحثاً عن فرائسها، وهو نمط من المرجَّح اتساعُه أكثر في السنوات المقبلة.
على أسوار مدينة هَرر في شرقي إثيوبيا، تستعرض الضباع الرقطاء مظاهر القوة والتحدي تحت ضوء القمر. فالأكثر جوعاً والأشد شراسةً سينال شرف الدخول منفرداً إلى سوق اللحوم في المدينة، وهناك سيحظى بوجبة من العظام ومخلّفات الذبائح التي يُلقيها بائعو اللحوم في ممارسة يتبعونها جيلاً بعد جيل منذ 400 سنة، فيما يبدو أن العلاقة بين المدينة والضبع لا تعترف بالسمعة السيئة التي يوصم بها الأخير.
ويغلب على سكان المشرق العربي التعامل مع يمام النخيل (ست ستيت) على أنه طائر المدينة المسالم، فلا يتعرضون له بالصيد أو بالأذى، ويولونه اهتمامهم شأنه شأن الحيوانات الأليفة. ولكن أنواعاً أخرى من الحيوانات لا تعترف بهذه الصداقة، فالحمام هو فريسة شهية للقطط الشاردة. وفي مدن كثيرة، يمكن مشاهدة صقور الشاهين التي تطارد الحمام بسرعات تزيد عن 300 كيلومتر في الساعة، وتبني أعشاشها على قمم المنشآت المرتفعة كدور العبادة والأبنية البرجية.
هذا الاحترام الذي يعامل فيه المشرقيون طيور اليمام يجد له ما يقابله في أكثر من مدينة حول العالم. فسكان مدينة جودبور الهندية على وفاق تام مع قردة اللانغور، ويغضّون الطرف عن أعمال السرقة التي تقوم بها في الأسواق والحدائق. وفي مدينة نارا اليابانية، اعتاد رهبان الشنتو على العيش بسلام مع غزلان سيكا منذ عدة قرون، حتى أن هذه الحيوانات ألِفت البشر فتخلّت عن أية نوازع برية، وأصبحت تزاحم الزوّار في الحدائق.
وبالإضافة إلى وفرة الطعام، تكون درجات الحرارة داخل المدن أكثر اعتدالاً على نحو ملحوظ بالمقارنة مع المناطق الريفية، مما يوفر للكائنات الحية بعض الراحة خلال ظروف الشتاء القاسية. وبفضل تعدد أشكال أماكن الاختباء والسكن التي تنتج عن البنى الحضرية المختلفة، تفضل الكثير من الحيوانات الاستقرار على الهجرة، والنشاط على السبات، فيزداد التنوع الحيوي داخل المدينة وتتبدل طبيعة معيشة الحيوانات.
ومن الملاحظ أن الطيور المهاجرة التي تتأثر بوفرة المياه والغذاء على مسار رحلتها، صارت تتخذ من مواقع التخلص من النفايات محطات استراحة دافئة تحصل فيها على الطعام من دون بذل مجهود يذكر، بل أن بعض أنواع الطيور كاللقلق الأبيض تتوقف عن الهجرة وتستوطن مكبات النفايات إذا توفرت لها أماكن التعشيش المناسبة.
وتتشكل داخل المدن "جُزُر الحرارة الحضرية" نتيجة دَور مواد البناء والرصف الطرقي في الحدّ من انعكاس أشعة الشمس بالمقارنة مع ما كان يقوم به الغطاء النباتي في المناطق التي شهدت توسعاً حضرياً، وينتج عن ذلك إشعاع طاقة مضافة على شكل حرارة إلى الهواء المحيط.
ووفقاً لوكالة حماية البيئة الأميركية، تزيد حرارة مدينة نيويورك بمعدل 1 إلى 3 درجات مئوية عن حرارة الريف المحيط بها، وتصل هذه الزيادة إلى 12 درجة مئوية في بعض أمسيات الصيف. وتوفّر جزر الحرارة الحضرية وأنظمة التدفئة الإصطناعية الأجواء المناسبة لإستيطان الطيور التي كانت تهاجر جنوباً بحثاً عن الدفء.
وفيما كانت الحيوانات البرية تنتقل للعيش في المدينة كنوع من أشكال المبادرة الحذرة المدفوعة بالحصول على الطعام المجاني والمسكن السهل، تغيّرت الأحوال على نحو متزايد، حيث أخذ الامتداد العمراني يلتهم الأراضي والمواقع الطبيعية، مجبراً الأنواع الحية على تبني أسلوب حياة المدينة بهدف النجاة والبقاء.
ويرى علماء كثيرون في البيئات الحضرية ساحة جديدة للبحث في تكيُّف الحيوانات وتطوّرها. وقد وجدت دراسة تناولت تكيُّف الفئران مع العيش في المدينة أن مجموعات الفئران في المنتزهات المتباعدة كانت معزولة وراثياً عن بعضها البعض وأقل تنوعاً وراثياً من نظيراتها الريفية. وخلص الباحثون إلى أن الحواجز، مثل المباني والطرق التي تحول دون تدفق المورثات، تساهم في تشكيل المستقبل التطوري لهذه الحيوانات.
وفي حين لا توجد أدلة ملموسة على ظهور أنواع جديدة متمايزة نتيجة استيطان الحيوانات للمدن، يرجح بعض الباحثين أن المدن قد توفر الظروف لحدوث هذه العملية عبر زيادة معدل الطفرات الجينية. وكان باحثون في جامعة ماكماستر الكندية وجدوا أن طيور النورس التي تعيش بالقرب من مصانع الصلب الملوثة لديها معدل تحوُّر أعلى من طيور النورس الأخرى.
وينتج عن التحضر مجموعة من الظروف البيئية التي قد تعمل كضغوط انتقائية قوية على أجزاء معينة من المورثات. فعلى سبيل المثال يمكن للتلوث الضوئي المتزايد أن يعزز الأنماط الجينية التي تمنح حساسية أقل للضوء، بينما تدفع نفايات الطعام الوفيرة إلى تطوير سمات أيضية معينة، في حين يؤدي تأثير جزيرة الحرارة الحضرية إلى زيادة تحمّل الحرارة. وكانت دراسة أجريت في مدينة كليفلاند الأميركية وجدت أن نمل البلوط، الذي يعيش في المدينة ومحيطها، أكثر تحملاً للحرارة وأقل تحملاً للبرودة مقارنة بنظرائه في المناطق الريفية.
يمكن لظروف المدينة أن تدعم "التدجين الذاتي" للحيوانات الحضرية، مثلما ساعدت أكوام قمامة الإنسان البدائي في تدجين أسلاف الكلاب البرية. لكن التأثيرات على مستوى النظام البيئي لا تزال غير معروفة بشكل عام، وخاصةً ما يتعلق بزيادة فرص الاحتكاك بين الإنسان والحيوان في المدينة وما قد ينشأ عنها من أمراض منتقلة.