خلال السنوات بين 2013 و2017 كان سدّ الفرات موضع اشتباك بين القوات المتقاتلة على الأراضي السورية، وجرى التلويح باستخدامه كسلاح يهدد انهياره ثلث مساحة البلاد. ومع انتهاء العمليات العسكرية في محيط السدّ، جرى تأهيل بعض أقسامه المتضررة، كمجموعات التوليد والمباني الإدارية، بالاعتماد على الخبرات المحلية. فيما تبقى السلامة الهيكلية للسدّ، الذي جاوز عمره الاستثماري خمسين سنة، أمراً معلّقاً بانتظار تقييم المختصّين.
ثلث السدود خارج الخدمة
المخاطر المحتملة للسدود لا تقتصر على آثارها البيئية، إذ يزداد القلق في جميع أنحاء العالم بشأن نقص المفتشين القادرين على تقييم مخاطر تقادم السدود، مما يؤدي إلى تراكم عمليات المراقبة الدورية وزيادة المخاطر التي تستوجب الرصد. وكان تحقيق جرى في الولايات المتحدة بعد انهيار سدّ "أوروفيل" وجد أن عمليات التفتيش السابقة في السدّ فشلت في تحديد العيوب الهيكلية. ويتطلّب تقييم سلامة هذه المنشآت أدوات قياس متقدمة وخبرات عالية، فليس كل شيء في عالم السدود مرئياً أو يسهل قياسه.
ويحذّر تقرير صدر عن جامعة الأمم المتحدة مطلع هذه السنة، من أن الإرث المتزايد من السدود المتهالكة التي تجاوزت عمرها التصميمي يتسبب في زيادة هائلة في حالات انهيار السدود، أو حصول تسرُّب أو إطلاق طارئ للمياه يهدد مئات ملايين الأشخاص الذين يعيشون في اتجاه مجرى النهر. ويؤكد التقرير أن مفتشي السلامة العامة حول العالم لا يستطيعون مواكبة عبء العمل للتحقق من سلامة جميع السدود.
وحسب قاعدة بيانات "اللجنة الدولية للسدود الكبيرة"، التي تضم 104 بلدان أعضاء، يوجد 58,713 سداً كبيراً يزيد ارتفاع كل منها عن 15 متراً، أو تتجاوز سعته التخزينية 3 ملايين متر مكعب. ومن بين هذه السدود هناك نحو 20 ألف سدّ أصبح دورها هامشياً أو خرجت من الخدمة.
ويشير تحليل بيانات اللجنة إلى وجود 19 ألف سدّ كبير قيد العمل يزيد عمره عن 50 سنة، وهو العمر المعتاد الذي يستلزم القيام بإصلاحات واسعة أو الإزالة. وبمقاربة معقولة، يمكن القول إن نصف السدود الكبيرة الموضوعة في الاستثمار عالمياً دخلت مرحلة الشيخوخة.
وفي العالم العربي، يبلغ عدد السدود الكبيرة 287 سداً يقع أكثرها في منطقة المغرب العربي وسورية والسعودية، انتهى بناء نصفها خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ومع ذلك، يوجد 65 سداً تجاوز عمرها الخمسين سنة، أضخمها السدّ العالي في أسوان الذي افتتح عام 1970 ويبلغ ارتفاعه 111 متراً.
وتستطيع السدود أن تصمد لفترة تزيد عن 50 أو حتى 100 سنة إذا تم تصميمها على نحو جيد، وجرت صيانتها ومراقبتها بطريقة حسنة. وعلى سبيل المثال، اكتمل بناء سد "مايغروج" الخرساني في سويسرا سنة 1872، ومن المتوقع أن يصل عمره الاستثماري الآمن حتى 200 سنة.
وما يعزز مخاطر السدود ليس تقادمها فحسب، وإنما زيادة عدد الأشخاص الذين يستوطنون حوضها الأدنى. ويشير تقرير جامعة الأمم المتحدة إلى أنه بحلول سنة 2050، سيعيش معظم البشر في اتجاه مجرى النهر أمام السدود الكبيرة التي تم بناؤها في القرن العشرين.
وتُبنى السدود عادةً من الردميات الترابية والحجارة والخرسانة، وتزداد مخاطر انهيارها مع الزمن بسبب تحلل الخرسانة وتشققها، وتسرب المياه، واتساع الشقوق الخفية في الصخور، وزيادة الحمولات عليها. كما يمكن أن تتضرر النواة الغضارية للسدود، أو يفقد السدّ استقراره نتيجة الزلازل أو التخريب المتعمّد، أو الانجراف بفعل خلل في تفريغ التدفّق الطارئ للفيضانات.
سدّ الموصل في العراق، الذي يعدّ رابع أضخم سدّ في العالم العربي من حيث السعة التخزينية، يمثّل حالة دراسية عن السدود الخطرة حول العالم. فالسدّ، الذي بني في 1984 على صخور كلسية تتعرض للذوبان بفعل الضغط وتخزين المياه، يتطلب سنوياً حقناً بنحو 200 طن من الإسمنت والغضار لإغلاق التجاويف التي تتشكل في قاعدته.
وكان حقن سدّ الموصل بالمواد الداعمة توقف لأشهر طويلة نتيجة ضعف التمويل، وذلك بعد عملية تحريره في أغسطس (آب) 2014. وتؤكد التصريحات الرسمية الحالية سلامة السدّ وتشغيله على نحو آمن بخبرات محلية، فيما تراجعت مساحته السطحية بمقدار 60 في المائة منذ تسعينيات القرن الماضي، بسبب دورات الجفاف القاسية ومشروع جنوب شرق الأناضول (غاب) الذي تنفذه تركيا على نهري دجلة والفرات.
ومن ناحية أخرى، يؤدي تراكم الرواسب خلف السدود إلى إضعاف جدواها، ويجعلها في بعض الأحيان أكثر خطورة. وينتج ذلك عن تناقص السعة التخزينية لبحيرة السدّ مما يجعله أكثر عرضةً للغرق أثناء هطول الأمطار الغزيرة. ومن أجل حماية بنى السدّ، قد يضطر القائمون على تشغيله لإجراء تفريغ مفاجئ في قنوات المفيض خلال ذروة الفيضانات.
بعد أن اجتاح إعصار "ميتش" أميركا الوسطى سنة 1998، لقي مئات الأشخاص حتفهم داخل منازلهم في تيغوسيغالبا، عاصمة هندوراس، عندما اجتاح جدار من الماء عدداً من أحياء المدينة الفقيرة الواقعة على ضفاف نهر شولوتيكا. وأظهر التحقيق أن هذا الجدار المائي تشكّل عندما قام مشغّلو السدّين الرئيسيين في المدينة بتحرير مفاجئ للمياه في ذروة الفيضان. وعلى الرغم من أن السدّين شُيّدا في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن الرواسب خلفهما أفقدتهما الكثير من سعتهما التخزينية المجدية.
وتؤدي دورات الجفاف المتكررة التي تترافق مع تدفق ضعيف وارتفاع في معدلات التبخّر إلى زيادة إشكالية الإطماء خلف السدود في العالم العربي. ففي الأردن، انخفضت السعة التخزينية للسدود من 46 في المائة في 2010 إلى 33 في المائة في 2011. وفي المغرب، تراجعت السعة من 75 في المائة إلى 20 في المائة خلال الفترة بين 1986 و2004. وفي مصر، يحتجز السدّ العالي 100 مليون طن من الرواسب والطمي خلفه سنوياً، ويرى البعض أن المكسب الوحيد لمصر من بناء سدّ النهضة في أثيوبيا هو في تقليل هذه الكمية الهائلة من الطمي التي تؤثر على جدوى السدّ العالي، في حين تبقى آثاره الأخرى كارثية على الأمن المائي والغذائي في مصر.
وتتضاعف مخاطر السدود أيضاً تحت تأثير تغيُّر المناخ، الذي يتسبب بحصول المزيد من الفيضانات المفاجئة نتيجة الهطولات الومضية في العديد من الأماكن. ومما يزيد الطين بلّة أن تصميم وبناء أغلب السدود القائمة كان على أساس السجّلات الهيدرولوجية في حقبة ما قبل تغيُّر المناخ.
تكاليف باهظة لتأهيل السدود أو إزالتها
تواجه السدود مجموعة من التحديات والاحتياجات، أولها الحاجة الكبيرة في أجزاء عديدة من العالم إلى مزيد من الموارد المائية العذبة والطاقة الكهربائية. وتتبعها الحاجة إلى خليط من مصادر الطاقة المختلفة وتوفير تخزين ملائم للطاقة، فيما العالم يطوّر المزيد من مصادر الطاقة المتجددة المتقطعة التي تتعذر السيطرة عليها. ويعتبر توليد الكهرباء من التوربينات على السدود المائية المصدر الأكبر للطاقة المتجددة في معظم أنحاء العالم اليوم.
ولم تعد صناعة السدود تقدم نفسها باعتبارها خياراً مستقلاً لتوليد "الكهرباء النظيفة"، بل أصبحت منتجاً مكملاً لمصادر الطاقة المتجددة الأخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن معالجة الاختلافات الموسمية في هطول الأمطار من خلال الاعتماد على الطاقة الشمسية خلال موسم الجفاف والطاقة الكهرمائية خلال موسم الأمطار، أو ضخّ المياه بالطاقة الشمسية إلى مناطق أعلى نهاراً، واستخدامها لتوليد الكهرباء بالتوربينات المائية ليلاً.
كما أصبح المطلوب أن تساهم السدود في التخفيف من تغيُّر المناخ والتكيُّف مع آثاره، خاصةً ما يتعلق بإمدادات المياه والتحكم في الفيضانات وإنتاج الطاقة. وهي تواجه أيضاً التحديات المرتبطة بقيود التنمية، كالتمويل والالتزامات البيئية والمسؤولية الاجتماعية.
ويرى الخبراء أن العديد من السدود المتقادمة لا تزال آمنة، ومع ذلك يجب إجراء فحص أكثر صرامة للسدود كلما زاد عمرها الاستثماري. وغالباً ما يستلزم الأمر القيام بإصلاحات باهظة الثمن، خاصةً إذا جرى تأهيل السدود للتعامل مع تدفقات الأنهار الشديدة التي تختلف عن تلك التي تم افتراضها عند بنائها أول مرة.
ويشير تقرير جامعة الأمم المتحدة إلى ازدياد السدود التي لم تعد تحقق أهدافها التصميمية الأساسية، بسبب تراكم الطمي أو نتيجة توفر مصادر أقل كلفة للطاقة. وفي أغلب الحالات، تبقى هذه السدود قائمة في مكانها، لأن إزالتها مكلفة وصعبة من الناحية الفنية، مما يجعلها تهديداً كامناً للسلامة العامة وعائقاً أمام استعادة النظم البيئية للأنهار.
وفيما تُعدّ الولايات المتحدة الرائدة عالمياً في إزالة السدود، حيث أزالت أكثر من ألف سدّ خلال 30 سنة مضت، فإن السدود التي أزيلت حتى الآن صغيرة يقل ارتفاعها عن 5 أمتار. ويُستثنى من ذلك سد غلينز كانيون في ولاية واشنطن، الذي أزيل سنة 2014، حيث يُعتبر هذا السدّ الخرساني، الذي افتتح سنة 1927 ويبلغ ارتفاعه 70 متراً، أضخم سدّ تجري إزالته على الإطلاق. وقد استغرقت عملية الإزالته عقدين من الزمن للتخطيط والتنفيذ.
بحلول سنة 2050، سيكون هناك نحو 240 سداً كبيراً في العالم العربي دخل مرحلة الاهتلاك وأصبح بحاجة إلى إصلاحات واسعة. ومع تغيُّر المناخ وزيادة الرواسب، سيخفق الكثير منها في تحقيق الغاية من تصميمه ويصبح تشغيله خاسراً. يصعب تخيُّل التعامل مع هذه المشكلة مستقبلاً، ولكن الأمل يبقى في ابتكار تقني يسترجع جدوى هذه السدود أو يبسّط عملية إخراجها من الخدمة.