قبل ثلاثة عقود، أجمعت 175 دولة على تحديد 20 هدفاً لوقف انقراض الأنواع الحية بحلول سنة 2020. وفيما نجح المجتمع الدولي في إحراز تقدم ملحوظ، لا سيما في مضاعفة مساحة الأراضي المحمية الغنية بالتنوع الحيوي، إلا أن العالم لا يزال متخلفاً كثيراً عن تحقيق الغاية العامة لهذه الأهداف.
ويُعتبر تدمير الموائل الطبيعة وانتشار الأنواع الغازية أهم عامِلَين في فقدان التنوع الحيوي. ورغم تصنيف مساحات واسعة حول العالم على أنها "مناطق محمية"، إلا أن الإدارة داخل هذه المناطق لا تزال غير كافية في كثير من الأحيان. وفي المقابل لا يزال التقدم محدوداً في السيطرة على الأنواع الغازية، وهي حيوانات أو نباتات غريبة جرى إدخالها عن طريق الخطأ أو قصداً إلى بيئة لا توجد فيها عادةً، فانتشرت وأصبحت مدمِّرةً أو مثيرةً للقلق.
الأنشطة البشرية تعزّز الأنواع الغازية
يخلُص بحث نُشر في دورية "نيتشر" لشهر مارس (آذار) الماضي إلى أن الأنواع الغازية تسببت بضرر اقتصادي عالمي يُقدّر بنحو 1.28 تريليون دولار منذ سبعينات القرن الماضي. ويشير البحث إلى أن فاتورة الخسائر الناتجة عن الأنواع الغازية كانت تتضاعف كل ست سنوات، بحيث وصلت إلى 162 مليار دولار سنة 2017. ولا تشمل هذه الأرقام الأضرار التي يتعذّر قياسها، مثل انبعاثات الكربون وفقدان خدمات النظام البيئي.
وتلعب المشاريع الضخمة دوراً مؤثراً في نشر الأنواع الغازية، حيث تسبّب شق قناة السويس في انتقال مئات الأنواع غير الأصلية من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، من بينها سمكة الأسد السامّة. ويُعتقد أن بعض الأنواع الغازية تنتقل من مكان إلى آخر بفضل الطيور المهاجرة، مثلما هو الحال بالنسبة إلى شجرة "التبغ الكاذب".
وتعدّ أميركا الجنوبية الموطن الأصلي لشجرة التبغ الكاذب التي تستعمر الأراضي المهملة وجوانب الطرقات، وتحلّ مكان الأنواع الأصلية. وهي تتميز بقدرتها السريعة على التعافي من الجفاف، وبنتاجها الضخم من البذور التي تنتقل مع الرياح أو مياه السيول والفيضانات أو الطيور المهاجرة أو مع بذور المحاصيل الزراعية المستوردة. وكان التحذير من هذا النبات انتشر في وسائل الإعلام السعودية قبل أربع سنوات، وبدأ التحذير منه في سورية واليمن خلال هذه السنة.
وتؤدي التجارة بالأنواع الحية إلى تعزيز فرص انتقال الأنواع الغازية إلى موائل جديدة. ولعل طائر المينا الهندي، الذي تسلل إلى بلدان عربية عدة عبر تجارة طيور الزينة، أحد أكثر الأنواع التي لفتت الأنظار خلال السنوات الماضية، بسبب قضائه على الطيور المنافسة وتعدّيه على المحاصيل الزراعية.
وكثيراً ما يفتح الاهتمام بإكثار الأنواع النباتية الغريبة الباب أمام انتشار الأنواع الغازية. فنبتة "لانتانا كامارا"، على سبيل المثال، هي واحدة من أسوأ 50 نوعاً غازياً حول العالم، حيث تعمل تجمعاتها الكثيفة على الإقلال من التنوع الحيوي، وزيادة مخاطر الحريق في الغابات المطيرة الجافة، وإقلال الإنتاج الزراعي بتداخلها مع المحاصيل، وزيادة الجريان السطحي وتآكل التربة، إلى جانب احتوائها على مواد سامة، وتوفيرها الموئل لحوامل الأمراض مثل البعوض وذبابة "تسي تسي".
ويجري الترويج لنبتة "لانتا كامارا" في العالم العربي حالياً على أنها نبتة زينة تحمل اسم "شجيرة أم كلثوم". ومن الملاحظ أن هذه النبتة أخذت تتسلل إلى الحدائق العامة والأراضي الفارغة بعيداً عن الاهتمام الرسمي، علماً أن بلداناً كثيرة أنفقت مبالغ كبيرة في محاولة وقف انتشارها من دون جدوى، حيث تقدر كلفة السيطرة على هذه النبتة في الهند بنحو 2,6 مليار دولار.
أخطر النباتات الغازية في العالم العربي
وفق قاعدة البيانات العالمية للأنواع الغازية، يوجد في العالم العربي 225 نوعاً حياً غازياً، من بينها 114 نوعاً نباتياً. ومن ضمن هذه الأنواع النباتية يوجد نوعان يصنّفان ضمن قائمة العشرين الأخطر عالمياً هما نبات القصب وطحلب "كوليربا تاكسيفوليا".
وفيما يعدّ القصب نباتاً أصيلاً في بلاد الشام، فإنه يصنّف نباتاً غازياً في البلدان العربية الأخرى. ويتواجد القصب بكثافة على ضفاف الأنهار وضمن المجاري المائية، حيث ينافس الأنواع النباتية المحلية ويزيحها من موطنها. وهو سريع الاشتعال، مما يعزّز من فرص اندلاع الحرائق وشدتها، وفي المقابل يتعافى من الحرائق بمعدل 3 إلى 4 مرات أسرع من النباتات المحلية الأخرى، مما يعزّز فرص تكاثره وانتشاره.
وتشكّل الحصائر الجذرية الليفية الطويلة والمتداخلة للقصب هيكلاً حياً خلف الجسور والقنوات والمنشآت المائية الأخرى، مما يؤثر على وظيفتها ويخلّ بالنظم البيئية. ونظراً لنموه السريع وتكاثره الخضري، يستطيع القصب غزو مناطق جديدة بسرعة والقضاء على النباتات الأصلية وتقليص موائل الحياة البرية وإحداث تغيير بيئي جذري.
وتغض معظم البلدان العربية النظر عن مخاطر نبات القصب على النظم البيئية والمجاري المائية، بسبب عوائده الاقتصادية الظاهرة. فهو يزرع كسياج في الأراضي الزراعية، كما يستخدم في صناعة الحصائر والأسقف والجدران الخفيفة، ويُستفاد منه كوقود للتدفئة والطبخ.
أما "كوليربا تاكسيفوليا" فهو طحلب بحري غازٍ موطنه الأصلي المحيط الهادئ والبحر الكاريبي، ويستخدم على نطاق واسع كنبات زينة في أحواض السمك. وقد أُدخلت سلالة منه تتحمل البرد عن غير قصد إلى البحر المتوسط مع مياه الصرف الصحي من متحف المحيطات في موناكو في ثمانينات القرن الماضي، فأصبح ينتشر على أكثر من 15 ألف هكتار من قاع البحر.
ويوصف هذا النبات على أنه "طحلب قاتل" يخنق الأنواع الأخرى من الطحالب والأعشاب البحرية ومجتمعات اللافقاريات، عن طريق منافستها على الغذاء والضوء أو بسبب تأثيراته السامة. ونظراً لقضائه على موائل الأسماك، يتسبب الطحلب القاتل في تراجع عوائد الصيد. ويؤدي تغذي بعض أنواع الأسماك، مثل سمك الدنيس والشُلبة، على هذا الطحلب إلى تراكم السموم فيها مما يجعلها غير صالحة للاستهلاك البشري.
وتتطلب السيطرة على الأنواع الغازية في كثير من الأحيان استخدام أعداء حيوية من الموطن الأصلي للأنواع الغازية، وينطوي ذلك على إنفاق مبالغ طائلة ودراسات مستفيضة لمخاطر الأعداء الحيوية، وفي معظم الحالات يتعذر الوصول إلى نجاح تام في القضاء على النوع الغازي.
تعتبر عشبة ورد النيل من أخطر النباتات الغازية، وهي انتشرت من موطنها الأصلي في أميركا الجنوبية إلى جميع أنحاء العالم. وتمتلك تلك العشبة، التي تنمو ضمن المسطحات المائية العذبة، القدرة على مضاعفة حجمها خلال 10 أيام، وهي بذلك أسرع النباتات نمواً على وجه الأرض. وتستهلك نبتة ورد النيل الواحدة أربعة ليترات من الماء يوميا،ً فتؤدي تجمعاتها الضخمة إلى شحّ المياه في العديد من الأماكن، كما أنها تتسبب بموت الأحياء المائية في الأنهار والبحيرات.
ولا يمكن الاستفادة من نباتات ورد النيل بسبب امتصاصها العناصر الثقيلة السامة، التي تنتقل إلى الحيوانات التي تتغذى عليها أو الأراضي التي تدفن فيها. وتحوي جذورها العديد من العوائل الوسيطة لكثير من الطفيليات، مثل القواقع التي تصاب بطفيل البلهارسيا، كما تستخدمها إناث البعوض لوضع بيضها وتوفر موئلاً لاحتضان يرقاتها.
ويُنتج ورد النيل أزهاراً جميلة كانت السبب في إدخاله إلى مصر خلال فترة حكم محمد علي لتزيين المسطحات المائية حول القصور الملكية. إلا أنه خرج عن السيطرة وسبب العديد من المشاكل، إلى أن جرى التحكم به في مصر بعد سنة 2000 من خلال إطلاق أنواع من السوس الذي تم استيراده من أميركا الجنوبية. وتمثل التجربة المصرية نموذجاً ناجحاً لبلدان عربية أخرى، مثل سورية ولبنان، للسيطرة على ورد النيل الذي ظهر في مسطحاتها المائية منذ سنوات قليلة.
وتفرض العديد من الدول إجراءات احترازية لمواجهة انتقال الأنواع الغازية، حيث يسعى الاتحاد الأوروبي حالياً إلى اعتماد تشريع يجعل أوروبا أكثر أماناً بيولوجياً عبر مجموعة متنوعة من تدابير الرقابة على الحدود، ومعالجة الأنواع الغريبة التي نجحت في الانتشار، وحشد الجهود للقضاء على الأنواع التي أصبحت مصدر إزعاج. ويمثّل التشريع الأوروبي المرتقب مصدر قلق لخبراء البستنة، بسبب الحظر المتوقع على عدد من أنواع النباتات الغريبة التي يقومون بإكثارها.
إن التكاليف الباهظة للأنواع الغازية، والإخفاقات العديدة في التحكم بها وإدارتها، وتزايد فرص انتشار الأنواع الحية وانتقال مواطنها بسبب تغيُّر المناخ، تستوجب اتباع مبدأ "السلامة أولاً"، من خلال الرقابة الحازمة على انتقال الأنواع النباتية والحيوانية عبر الحدود، ورصد انتشار الأنواع الغريبة قبل أن تتحول إلى أنواع غازية تضر بالأنواع الحية الأخرى وتخل بالنظم الطبيعية.