سلّطت أزمة "كورونا" (كوفيد-19) الأضواء على المباني وأهميتها في الحياة اليومية وهشاشتها تجاه العوامل المحيطة. وطوال فترة الوباء، كان المنزل هو النقطة المحورية في الحياة اليومية للملايين، فهو مكتب لأولئك الذين يعملون عن بعد، وروضة أو فصل دراسي للأطفال والتلاميذ، وبالنسبة للكثيرين كان مركز تسوق أو ترفيه عبر الإنترنت.
ويُعتبر الاستثمار في المباني عاملاً هاماً في إنعاش قطاع البناء والاقتصاد عامةً في مرحلة التعافي بعد الوباء، إذ توفّر مشاريع تأهيل المباني فرص عمل كثيرة، وتخلق استثمارات في سلاسل التوريد المحلية في غالب الأحيان، كما تزيد من الطلب على المعدات العالية الكفاءة في استخدام الطاقة، وتعزز فرص مواجهة تغيُّر المناخ، وتضيف قيمةً طويلة الأجل للممتلكات.
موجة تجديد المباني الأوروبية
تعدّ المباني مسؤولة عن حوالي 40 في المائة من استهلاك الطاقة في الاتحاد الأوروبي، و36 في المائة من انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن استهلاك الطاقة، ولكن 1 في المائة فقط من المباني تخضع لعملية تجديد تتسم بالكفاءة في استخدام الطاقة كل عام.
ومن أجل تحقيق الهدف الأوروبي في خفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 55 في المائة على الأقل بحلول 2030، يجب تقليل الانبعاثات في المباني بنسبة 60 في المائة وخفض استهلاكها من الطاقة بمعدل 14 في المائة، كما يجب إنقاص الطاقة المستخدمة في التدفئة والتبريد بنسبة 18 في المائة.
وبفضل السياسة الأوروبية وتوفير التمويل، تستهلك المباني الجديدة نصف الطاقة مقارنة بالأبنية التي شُيّدت قبل 20 عاماً. ولكن 85 في المائة من الأبنية القائمة حالياً في الاتحاد الأوروبي، أو 220 مليون مبنى، جرى تشييدها قبل سنة 2001. ومن المتوقع أن يبقى نحو 85 إلى 95 في المائة منها قائماً حتى سنة 2050. من أجل ذلك، يعمل الاتحاد الأوروبي على دعم ما يصفه بـ "موجة تجديد المباني"، لتصبح أكثر انسجاماً مع المعايير البيئية ولإيجاد فرص عمل جديدة وتحسين نوعية الحياة.
نشرت المفوضية الأوروبية مؤخراً استراتيجيتها التي تحمل عنوان "موجة تجديد لأوروبا، تخضير مبانينا وخلق فرص العمل وتحسين الحياة". وتهدف هذه الاستراتيجية في الحد الأدنى إلى مضاعفة معدلات تجديد المباني خلال السنوات العشر القادمة، والتحقق من أن التجديدات تضمن زيادة كفاءة استهلاك الطاقة والموارد.
وتتوقع المفوضية أن يؤدي تطبيق هذه الاستراتيجية إلى تحسين نوعية حياة الأشخاص الذين يعيشون ضمن المباني المجدّدة أو يستخدمونها، وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في أوروبا، وتعزيز الرقمنة وإعادة استخدام المواد وتدويرها. وترى المفوضية أنه بحلول سنة 2030 يمكن تجديد 35 مليون مبنى وخلق ما يصل إلى 160 ألف فرصة عمل خضراء إضافية في قطاع البناء.
ومع وجود ما يقرب من 34 مليون أوروبي غير قادرين على تحمل تكاليف الحفاظ على تدفئة منازلهم، فإن السياسات العامة التي يتبناها الاتحاد الأوروبي لتعزيز التجديد الموفّر للطاقة هي أيضاً استجابة لفقر الطاقة، ودعم صحة الناس ورفاههم، ومساعدة في تقليل فواتير الطاقة الخاصة بهم.
ستعطي الاستراتيجية الأولوية للعمل في ثلاثة مجالات، هي إزالة الكربون من التدفئة والتبريد، ومعالجة فقر الطاقة والمباني ذات الأداء الأسوأ، وتجديد المباني العامة كالمدارس والمستشفيات والمباني الإدارية. وتقترح المفوضية كسر الحواجز في جميع مراحل سلسلة التجديد، من تخطيط المشروع إلى تمويله وإنجازه، بمجموعة من التدابير التنظيمية وأدوات التمويل والمساعدة الفنية.
وستشمل الاستراتيجية تبني لوائح ومعايير أعلى حول أداء الطاقة في المباني لوضع حوافز أفضل لتجديدات القطاعين العام والخاص، وضمان الحصول على تمويل موجّه يسهل الوصول إليه، وزيادة الكفاءة في إعداد وتنفيذ مشاريع التجديد، عبر المساعدة التقنية للسلطات الوطنية والمحلية وتدريب وتنمية مهارات العاملين في الوظائف الخضراء الجديدة، وتوسيع سوق منتجات وخدمات البناء المستدامة.
كما تلحظ الاستراتيجية ابتكار طراز تصميم معماري جديد يجمع بين الجماليات العامة والأداء الوظيفي اليومي، وتطوير نهج الجوار في المجتمعات المحلية لدمج الحلول المتجددة والرقمية وإنشاء مناطق مستقلة في الطاقة يصبح فيها المستهلكون باعة للطاقة المتجددة. وتتضمن الاستراتيجية أيضاً مبادرة الإسكان الميسور في 100 منطقة.
وكانت اللجنة الأوروبية للأقاليم أبدت في منتصف مارس (آذار) الماضي تأييدها لاستراتيجية تجديد المباني. وقدمت اللجنة، التي تضم ممثلين عن المجتمعات المحلية والأقاليم في البلدان الأوروبية، مجموعةً من المقترحات الإضافية لنشر موجة التجديد بنجاح في كل منطقة.
وتشمل هذه المقترحات، على سبيل المثال، اتخاذ تدابير لتجنب عمليات الإخلاء لتنفيذ أعمال التأهيل وتجنب نقل تكاليف التجديد إلى المستأجرين، على أن تتم زيادة الإيجارات بالتناسب مع الوفورات الناتجة عن حفظ الطاقة. وتدعو اللجنة إلى نشر موجة التجديد بشكل متساوٍ في المناطق النائية والأقل تحضراً، بما في ذلك المجتمعات الريفية.
ومن المقترحات أيضاً، تعزيز العمليات الدائرية في قطاع البناء وتشجيع اختيار تقنيات ومواد البناء على أساس دورة حياتها. وكذلك تقديم دعم كبير لقطاع البناء الذي تأثر بشدة خلال أزمة فيروس كورونا، ومواصلة نشر أنظمة إدارة الطاقة ونمذجة معلومات البناء.
تحولات البناء الأخضر في العالم العربي
عبر مراحل التاريخ، تطورت أساليب العمارة في البلدان العربية، لكنها كانت على الدوام عمارةً محليةً متآلفةً مع محيطها وصديقةً للبيئة. ويتجلى ذلك في استخدام مواد البناء الطبيعية كالحجارة والطين والخشب التي توفّر الحماية من تقلّبات المناخ ويجري تدويرها عند إعادة الهدم والبناء، أو من خلال تطبيق عناصر معمارية تضمن ظروف الإضاءة والتهوية، مع الحفاظ على الخصوصية في الوقت ذاته، مثل الملاقف والمشربيات والقمريات. وفي العديد من الأماكن، كانت البيوت تنغلق على الخارج وتعوض ذلك بفضائها الداخلي حيث الأشجار ونباتات الزينة وبركة المياه.
على أن ذلك بدأ بالتغيُّر قبل نحو قرن من الزمان، مع دخول الإسمنت البورتلاندي على نطاق واسع في قطاع البناء. وأصبح النمو الحضري في العالم العربي يحمل الطابع التجاري أكثر من تلبيته لحاجة المجتمعات في السكن الاجتماعي المريح والصحي. ومما شجع على ذلك شركات البناء المحلية، التي فضلت استيراد قوالب عمرانية غريبة عن محيطها بدلاً من تطوير أساليب العمارة التقليدية لتتناسب مع الأعداد المتزايدة من السكان.
وباستثناء تجارب محددة، لعل أشهرها المباني الريفية الطينية التي صممها المعماري المصري حسن فتحي، لم تحظ العمارة الخضراء التقليدية بالاهتمام الواسع في المنطقة العربية إلا قبل نحو عشر سنوات نتيجة أزمة الطاقة العالمية. وكان من نتيجة ذلك ظهور كودات بناء تتضمن اشتراطات تخص العزل الحراري، إلى جانب ما يتعلق بالتهوية والإنارة في اشتراطات الترخيص البلدية.
ويلحظ مشروع كود البناء الخليجي الموحّد اشتراطات تتعلق بالاستدامة والمباني الخضراء والحفاظ على الطاقة. كما أصبح كود العزل الحراري نافذاً في سورية اعتباراً من نهاية سنة 2019 إلى جانب ترتيبات تخص استخدام الطاقة الشمسية لتسخين المياه في الأبنية الجديدة السكنية والخدمية الخاصة والتعاونية. وفي العراق جرى إنجاز عدد من المدونات التي تتصل بالعمارة الصديقة للبيئة مثل مدونة العزل المائي، ومدونة العزل الحراري، ومدونة التهوية الطبيعية والأصول الصحية، ومدونة الإنارة الطبيعية، ومدونة العمارة الخضراء. كما تبنّت الإمارات نهج العمارة الخضراء، وأصبحت معاييره إلزامية في كل من أبوظبي ودبي وفي المباني الحكومية في سائر البلاد.
وفي مصر جرى اعتماد دليل تشغيل وحدة البيئة في صندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري بهدف تحقيق بيئة صحية سليمة خالية من التلوث من خلال تقديم حوافز لتوفير الطاقة، ورفع الوعي حول أفضل الطرق للتخلص من النفايات وتدويرها، وضمان الاستخدام الآمن للمباني، وتطبيق الكود المصري لتحقيق كفاءة استخدام الطاقة في المباني، مع إمكانية استخدام الطاقة المتجددة في بعض المواقع.
ومن الملاحظ أن معظم اللوائح العربية الخاصة بالأبنية الصديقة للبيئة تكاد تحصر اهتمامها بمسألة العزل الحراري في الأبنية الجديدة، وهي في أغلبها إرشادية غير إلزامية ولذلك لا نجد تطبيقاً فعلياً لها سوى في الأبنية العامة التي يجري تمويلها من قبل الدولة.
وتوجد بعض المبادرات العربية في مجال تجديد المباني القائمة وتأهيلها لتصبح صديقة للبيئة، مثلما يجري في السعودية بتأهيل عدد من الأبنية الحكومية لا سيما تلك التابعة لوزارة البيئة والمياه والزراعة. وكذلك في الإمارات حيث تعمل شركة الاتحاد التابعة لهيئة كهرباء ومياه دبي على تأهيل 30 ألف مبنى من المباني القائمة في دبي لتصبح مباني خضراء بحلول سنة 2030، باستثمارات تصل إلى 10 مليارات درهم.
وفيما تعدّ موجة تخضير المباني وتجديدها التي انطلقت في الاتحاد الأوروبي استجابةً لتغيُّر المناخ، فإن تجديد المباني في كثير من بلدان العالم العربي يمثل ضرورةً، ليس فقط لمواجهة تحديات المناخ وإنعاش الاقتصاد بعد أزمة كورونا، وإنما كمكوّن حيوي في أعمال إعادة التأهيل الواسعة للكثير من الأبنية العامة والخاصة التي طالها الضرر خلال السنوات القليلة الماضية بفعل غياب الاستقرار السياسي والاجتماعي.