إستكمالاً لموقف لجنة تشيلكوت البريطانية للتحقيق في الحرب على العراق، التي تجاهلت الضحايا المدنيين العراقيين من غزو العراق وإحتلاله في عام 2003، أعلنت الحكومة البريطانية عن نيتها إلغاء ملف التحقيق في جرائم الجنود البريطانيين بحق آلاف المواطنين العراقيين. وكان هذا من خلال إيقاف التحقيق الذي يقوم به "فريق التحقيق في الإنتهاكات في العراق" (IHAT)، ضمن مساعي الحكومة للتخلص من تركة رئيس الحكومة الأسبق توني بلير، الذي ورّط المملكة المتحدة في الحرب على العراق، بناءً على معلومات مختلقة، ولم يعاقبه أحد لحد الآن.
الفريق المذكور شكّلته وزارة الحرب البريطانية في عام 2010 للتحقيق في دعاوى سوء معاملة مدنيين عراقيين على أيدي أفراد القوات المسلحة البريطانية خلال الفترة من نيسان (أبريل) 2003 إلى تموز (يوليو) 2009. وقد نظرت بالفعل في ما لا يقل عن 1515 قضية لضحايا الإنتهاكات، منها 1235 اتهاماً بانتهاك حقوق مواطنين ومواطنات عراقيات، بينها اتهامات بالتعذيب والاغتصاب، ونحو 280 دعوى بالقتل خارج إطار القانون. وأعرب مسؤولها الشرطي السابق مارك وارويك لصحيفة "إندبندنت" في كانون الثاني (يناير) 2016 عن إعتقاده بأنه "ستكون هناك أدلة كافية لتبرير توجيه اتهامات جنائية. هناك إدعاءات جادة يحقق فيها الفريق تتضمن القتل، وأشعر أنه تم جمع أدلة كافية لتقديم قضية قوية أمام هيئة الادعاء لبدء المحاكمة وتوجيه اتهامات". وأكد لصحيفة Business Insider البريطانية أنه "قد تتم مقاضاة القوات البريطانية التي قاتلت في العراق خلال الحرب بين 2003 و2011 بتهم ارتكاب جرائم حرب"، مضيفاً أن هناك "الكثير من القضايا المهمة التي تستوجب المناقشة حول ما إذا كانت تُصنّف ضمن إطار جرائم الحرب".
الجيش البريطاني شكّك في صحة الاتهامات بادئ الأمر، إلا ان الصور المنقولة عن الجنود أنفسهم أو شهاداتهم المباشرة أجبرت السلطات البريطانية على الموافقة على التحقيق والتعاون معه، بعدما انتقدتها محكمة بريطانية لعدم كشفها عن وثائق تفيد بعلم الوزارة بالشكاوى التي تلقتها بهذا الصدد وقت حدوثها.
ومن المقرر أن يختتم الفريق المكلّف تحقيقاته بنهاية عام 2019، أي بعد 10 أعوام من إنسحاب آخر القوات القتالية البريطانية من العراق. ولم يسفر عمله لليوم عن أية توصيات بمحاكمات، ويواجه انتقادات من حقوقيين جراء تحركه ببطء. إلا أن وارويك ناشد الجميع الصبر. وقال إنه "في غضون ما بين 12 و18 شهراً ستتم مراجعة كل القضايا لفهم الصورة بشكل أفضل، وأعتقد أنه آنذاك سنتمكن من تحديد ما إذا كان موعد عام 2019 سيكون أمراً واقعياً"، مؤكداً: "نحن ننظر إلى مصداقية الإدعاءات في المقام الأول".
غير أن الحكومة البريطانية إستغلت مخالفة قام بها أحد أعضاء الفريق لتعتبر عمل الفريق "ألحق الأذى بسمعة الجيش البريطاني". وبهذه الذريعة أعلن وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون في 11 شباط (فبراير) الماضي بأن بلاده "عازمة على وقف التحقيق في جرائم جنود بريطانيين بحق مواطنين عراقيين، خلال مشاركتهم بحرب العراق عام 2003، وستجري احالة 20 ملفاً فقط إلى شرطة البحرية البريطانية". وأضاف ان القرار "يشكّل مصدر ارتياح لجنودنا الذين حامت حولهم شكوك لمدة طويلة جداً". وكان تقرير للجنة الدفاع قال: "إن فريق التحقيق عمل من دون أي اعتبار للتأثير على الجيش البريطاني الذي جرى إلحاق الأذى المباشر بسمعته في جميع أنحاء العالم". وألقى التقرير اللوم على وزارة الدفاع لتمكين شركات المحاماة من رفع آلاف القضايا، مشيراً إلى أن "هؤلاء قيد التحقيق عانوا ضغوطاً غير مقبولة، وكانت حياتهم على المحك، وتم تدمير حياتهم المهنية".
أما مئات القضايا، التي رفعها ضحايا من المدنيين العراقيين، والتي ستترك من دون حل، فهي ليست مهمة بالنسبة لحماة مرتكبي جرائمها العسكريين.
منظمة العفو الدولية إنتقدت القرار على الفور، معتبرة، بحق، ان الانتهاكات المقترفة في العراق "ينبغي عدم نسيانها". كما انتقدت احالة 20 ملفاً فقط إلى شرطة البحرية البريطانية. وقالت المنظمة في بيان لها "ان سمعة الجيش البريطاني على المحك، وأي مزاعم ذات صدقية بشأن انتهاكات لحقوق الانسان من قبل القوات البريطانية في العراق وافغانستان يجب أن تخضع لتحقيق مستقل من جهاز مستقل عن الجيش". وأشارت المنظمة إلى أن "القوات البريطانية ارتكبت اموراً فظيعة في سجونها".
من جهتها، اعتبرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب العراقي قرار الحكومة البريطانية القاضي بإغلاق التحقيق في انتهاكات ارتكبها عسكريون بريطانيون في العراق "استهانة واضحة بحقوق العراقيين"، مبيّنةً أنها ستناقش هذا القرار في اجتماعها المقبل للخروج بتوصيات يتم تقديمها إلى مجلس النواب للتصويت عليها. وقال رئيس اللجنة عبد الباري زيباري أن "القرار البريطاني يعتبر غير مقبول لدينا دون الوصول إلى نتائج منصفة لضحايا تلك التجاوزات".
ويذكر أن نحو 120 ألف جندي بريطاني خدم في العراق أثناء الحرب والإحتلال. وغادر آخر الجنود البريطانيين العراق في عام 2009، لكن وزارة الدفاع أبقت عدداً محدوداً حتى 2011 لتدريب القوات العراقية. وكانت المملكة المتحدة أعلنت في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 عن نيتها التنصل من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان في مدة الحرب، لتمكين عسكرييها من تفادي ملاحقات "تعسفية"، الأمر الذي ندّدت به منظمات الدفاع عن حقوق الانسان. وعلّق الناشط المدني والباحث والكاتب كاظم الموسوي: "مهما كانت العراقيل ومحاولات التأجيل، وهي حالة بريطانية بيروقراطية بامتياز، فلن تتقادم الجرائم وستظل تلحق مرتكبيها ورؤسائهم الذين دفعوهم لارتكابها، كما وتظل سبابات الضحايا مرفوعة ودماؤهم ملطخة جباه قادة الاجرام ومجرمي الحرب الرئيسيين".
لقد وقفت الجهات الرسمية العراقية موقفاً لا مبالياً من تجاهل تقرير لجنة تشيلكوت للضحايا المدنيين العراقيين، الذي صدر قبل 8 أشهر، وكأن الأمر لا يعنيها. فماذا تنتظر لتتحرك لإدانة قرار إلغاء التحقيق بقضايا ضحايا الغزو والاحتلال العراقيين، وتسعى لانتزاع حقوقهم من الحكومة البريطانية والإدارة الأميركية؟
د. كاظم المقدادي أكاديمي عراقي مقيم في السويد