على أسوار مدينة هَرر الأثيوبية، يستعرض قطيعان من الضباع الرقطاء مظاهر القوة والتحدي تحت ضوء القمر. الأكثر جوعاً والأشد شراسةً سينال شرف الدخول منفرداً إلى سوق اللحوم في المدينة، وهناك سيحظى بوجبة من العظام ومخلفات الذبائح التي يلقيها بائعو اللحوم، في ممارسة يتبعونها جيلاً بعد جيل منذ أربعمئة سنة.
أحد سكان مدينة هرر يطعم الضباع كل مساء
الضبع من الحيوانات اللاحمة الثديية، وفصيلته (الضبعيات) هي خامس أصغر أسرة بيولوجية في آكلات اللحوم، كونها تضم أربعة أنواع فقط هي: الضباع الرقطاء، والضباع الغثراء أو البنية، والضباع المخططة، وذئاب الأرض.
على رغم من أنها تشبه، سلوكياً وشكلياً، فصيلة الكلبيات التي تضم حيوانات مثل الكلاب والذئاب والثعالب وبنات آوى، إلا أن الضباع أقرب وراثياً إلى فصيلة السنوريات كالأسود والنمور والفهود والقطط. كما أنها قريبة من فصيلة الزباديات التي تنتمي إليها حيوانات قط الزباد والرباح والقط المطوق.
أجداد الضباع الأولى تشبه الزباديات، وقد نشأت لأول مرة في أوراسيا خلال العصر الميوسيني الذي بدأ قبل 23 مليون سنة، وتمايزت في نوعين: الأول شبيه بالكلاب والثاني أكثر قوة وكاسر للعظام. ازدهرت الضباع شبيهة الكلاب قبل 15 مليون سنة، ثم انقرضت بفعل التغير المناخي ونتيجة انتشار فصيلة الكلبيات المنافسة لها في أوراسيا، ولم ينجُ منها سوى ذئاب الأرض. أما الضباع كاسرة العظام، فقد نجت من هذه المخاطر وأصبحت أكثر الحيوانات القمّامة انتشاراً في أوراسيا قبل 5 ملايين سنة، ومنها انحدرت الضباع الرقطاء والغثراء والمخططة.
تنتشر الضباع المخططة في مناطق واسعة تضم الشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا والقوقاز وآسيا الوسطى وشبه الجزيرة الهندية، والضباع الغثراء تتواجد في عدد من الدول جنوبي أفريقيا. وهذان النوعان قريبان من خطر الانقراض حسب القائمة الحمراء الصادرة عن الاتحاد الدولي لصون الطبيعة IUCN. في حين أن الضباع الرقطاء تستوطن وسط أفريقيا في جنوب الصحراء الكبرى، أما ذئاب الأرض فهي تنتشر في عدد من الدول شرقي أفريقيا، وهذان النوعان غير مهددين بالانقراض.
الضبع المخططة
الضبع الغثراء
الضبع الرقطاء
ذئب الأرض
الضباع حيوانات قمّامة تتغذى على جيف الحيوانات، ولكنها لن تفوّت صيداً سهلاً إذا ما واتتها الفرصة وكانت جائعة. وتتميز الرقطاء عن شقيقاتها بأن نحو 95 في المئة من غذائها هو مما تصطاده بنفسها. ويساعدها في ذلك طبيعة حياتها الاجتماعية في قطعان على خلاف باقي الأنواع. أما ذئب الأرض فيعتمد غذائه على الحشرات بشكل خاص، حيث يستطيع تناول أكثر من 300 ألف نملة في وجبة واحدة بفضل لسانه الطويل والواسع.
باستثناء الإنسان الذي يقوم باصطيادها لأسباب مختلفة، لا يوجد للضباع أعداء مباشرون، شأنها شأن معظم المفترسات. إلا أنها قد تتنازع التهام الفرائس مع الأسود والضباع الغريبة، فيحدث أن تقع بعض الضحايا نتيجة هذا الخلاف، وكذلك يمكن أن تقع الضباع فريسة للتماسيح، التي لا تميز بين الحيوانات التي تصطادها.
الضباع في ثقافات الشعوب
يجمع كثير من المختصين أن العائق الأكبر لحماية الضباع هو صورتها السلبية لدى غالبية الناس، وهم يعتبرون أن هذه الصورة ناتجة عن تفكير نمطي غير عادل تجاه مخلوق ذكي ومدهش وجميل. حتى أن فريق والت ديزني، الذي قام باستطلاع آراء العلماء في مركز دراسة الضباع في جامعة كاليفورنيا، لم يأخذ بالجانب المضيء الذي عرضه العلماء حول هذه المفترسات، فجاء سلوك الضباع الثلاثة في فيلم "الأسد الملك" مطابقاً للصورة النمطية باعتبارها كائنات غبية وجبانة وترضى الهوان.
الضباع الرقطاء غبية وجبانة في فيلم «الأسد الملك»
وفي روايته "تلال أفريقيا الخضراء" يصف أرنست همنغواي الضباع فيقول أنها: «تبدّل جنسها، تأكل بعضها، وتلتهم الموتى. تسلب الأبقار صغارها، تستل الخنازير، وقد تعضك في وجهك فيما أنت نائم. تعوي بحزن، تتعقب المخيمات، ولها رائحة كريهة. حمقاء، ذات أنياب تحطّم العظام التي يتركها الأسد، تجر من البطون، وتقفز بعيداً في السهوب الداكنة».
لطالما ارتبطت الضباع بالسحر والظواهر الخارقة في التراث والأساطير الأفريقية، وهي تقوم بالدور ذاته الذي يقوم به القط الأسود وفق الموروث الأميركي، باعتباره الحيوان المرعب والمفضّل لدى الساحرات. وفي تنزانيا والهند ينظرون إلى الضباع على أنها واسطة التنقل التي تفضل امتطاءها الساحرات.
أما المخطوطات الطبية الفارسية من القرن الرابع عشر، فهي تحذر من هجين الإنسان والضبع (المستضبع) الذي يهاجم الناس تحت جنح الظلام. وفي أوروبا العصور الوسطى، كان هناك اعتقاد سائد بأن الضباع تحفر القبور وتتغذى على جثث البشر.
رسم من القرن الثاني عشر لضبع ينتهك قبراً
وبشكل عام، يُشار إلى الضباع على أنها رمز للخيانة والغباء، وهي في ثقافات العديد من الشعوب تجسيد مادي للجن أو للأرواح الشريرة، خاصةً الضباع الرقطاء التي تطلق أصواتاً أشبه بأصوات الضحك البشري الهستيري. ويستغل المخادعون الغموض والخوف الذي يحيط بالضباع، فيصفون أعضاءها كعلاجات سحرية واستطبابات تقليدية.
الضباع في التراث العربي
الضبع في اللغة العربية اسم أنثى ومذكره ضبعان، ويضرب بها المثل في الحمق فيقال: «أحمق من ضبع» و «لا يخفى ذلك على ضبع» و«أحمق من أم عامر» أي الضبع. كما يضرب بها المثل في الفساد، فإنها إذا وقعت في الغنم عاثت، ولم تكتف بما يكتفي به الذئب. فإذا اجتمع الذئب والضبع في الغنم سلمت لأن كل واحد منها يمنع صاحبه. والعرب تقول في دعائها: «اللهم ضبعاً وذئباً» أي اجمعهما في الغنم لتسلم.
وهي موصوفة بالغدر، فيقال «كمجير أم عامر» وهي قصة إعرابي أنقذ ضبعاً من صيادين يطاردونها. وبعد أن أطعمها غدرت به وقتلته، فجاء ابن عم له فوجده على تلك الصورة، فتعقب الضبع حتى قتلها، ثم أنشد يقول شعراً مطلعه: ومن يصنع المعروف في غير أهله يلاقي الذي لاقى مجير ام عامر.
ورؤية الضبع في المنام تدل على كشف الأسرار، وقيل: الضبع امرأة قبيحة المنظر، دنيئة الأصل، ساحرة عجوز، كما جاء في كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري من القرن الرابع عشر. وقد ورد ذكر الضبع في عدد من كتب التراث الأخرى، مثل كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزويني من القرن الثالث عشر، الذي جاء فيه: «الضبع حيوان قبيح المنظر، قليل العدد، ينبش القبور، ويجر الجيف، والعرب تقول: لم يزل يأكل إلا لحوم الشجعان».
ثم يصف القزويني علاقة الضبع بالكلبيات فيقول: «وبين الضبع والذئب مصادقة، والضبع إذا سفد (لقّح) بالذئب جاءت بولد يقال له السمع، ويكون شكله عجيباً بين الذئب والضبع، وإن سفد الذئب الضبع جاءت أيضاً بولد يقال له العسبار».
رسم لضبع في كتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات
وقد استمرت فرضية هذا الحيوان الهجين حتى وقتنا المعاصر، وما دعاه القزويني بـ "العسبار" يُطلق عليه اسم "الشيب" في السعودية واسم "السلعوة" في مصر والعراق وبلاد الشام. أما من الناحية العلمية، فإن هذه الفرضية مستحيلة لأن الذئب يملك 78 صبغياً (كروموسوم) في حين أن الضبع يملك 40 صبغياً، وبالتالي لا يمكن للإخصاب أن يتم من الناحية الوراثية. وقد يكون العسبار نتيجة إلقاح ضمن الفصيلة الكلبية، كأن يكون هجين من كلب وابن أوى كونهما يملكان العدد نفسه من الصبغيات.
أما كتاب "أنس الملا بوحش الفلا" للمنكلي القاهري من القرن الرابع عشر، فقد استفاض في وصف طرق صيد الضبع، ثم أنه تناول الخصائص السحرية والعلاجية لأعضائها، ومن ذلك ادعاؤه أن لسان الضبع إذا عُلّق في عضد رجل كان منجاة له من عض الكلاب، ومن علّق مخالب اليد اليمنى لضبع على يده اليسرى أحبه كل من قصده.
الهجمات على البشر
علاقة البشر بالضباع قديمة جداً، وقد ظهرت رسوم لها على جدران الكهوف تعود إلى العصر الحجري القديم. ومن المعروف أنها كانت تفترس البشر حيث تم العثور على شعر بشري في متحجرة روث ضبع تعود إلى نحو مئتي ألف سنة أو يزيد. كما يعتقد بعض علماء الحفريات أن ضباع الكهوف، التي انقرضت لاحقاً، هي من أعاق عبور الإنسان من قارة آسيا إلى قارة أميركا الشمالية عبر مضيق بيرينغ خلال العصر الجليدي.
رسوم لضباع من العصر الحجري القديم في كهف أرديش، فرنسا
وفي تاريخنا المعاصر جرى الإبلاغ عن عدد من حالات افتراس الضباع الرقطاء للبشر، كما في مالاوي وموزامبيق. أما الضباع المخططة فهي خجولة للغاية تجاه البشر، لكنها قد تظهر سلوكاً عدائياً في الليل، ونادراً ما تتحول للافتراس. وغالباً ما يكون عدد ضحايا الضباع أقل من عدد ضحايا أنواع أخرى من الحيوانات، كالذئاب والثيران والخنازير والفيلة والنمور والفهود.