«إذا كان الخيار بين الطيور وسلامة الطائرات وحياة ركّابها وطواقمها، طبعاً سنختار طيور الميدل إيست». هكذا برّر رئيس شركة طيران الشرق الأوسط (ميدل إيست) محمد الحوت الحملة المنظمة لصيد طيور النورس في محيط مطار بيروت مطلع سنة 2017. وكانت الأزمة تفاقمت بعد إقامة مركز لجمع النفايات وطمرها على شاطئ «كوستابرافا» الملاصق لمدارج المطار. وإذا كانت الطيور البحرية تشكل تهديداً معروفاً لمطارات كثيرة حول العالم تقع على الشواطئ وقرب البحيرات والأنهار، فمن غير المألوف إقامة مطمر للنفايات على شاطئ ملاصق لمدارج مطار دولي، لأن هذا يضاعف المشكلة.
ليست هي المرة الأولى التي يعاني فيها مطار بيروت، مثل كثير من مطارات العالم الواقعة على شواطئ، من مشاكل مع الطيور البحرية. ففي 2015 تضرر محرك إحدى طائرات شكة لوفتهانزا نتيجة اصطدامها بمجموعة من الطيور عند الهبوط، وفي 2010 تسبب طائر بأضرار في مقدم طائرة تتبع لطيران الملكية الأردنية أثناء مغادرتها مطار بيروت، وفي الحالتين كانت الأضرار مادية ومحدودة. سلطات المطار سبق لها أن قامت بتركيب أجهزة تصدر أصواتاً مزعجة لإبعاد الطيور عن مدارج المطار، لكن هذا الإجراء لم يكن كافياً على ما يبدو.
محيط المطار يضم على سوره الغربي مصب نهر الغدير، الغني بالمواد المغذية نتيجة عدم معالجة مياه الصرف المنزلية والصناعية التي تصب فيه، وأرضاً مهملة تحولت مكباً للأنقاض بعد حرب تموز 2006 ثم مطمراً موقتاً لنفايات بيروت بعد الأزمة البيئية التي شهدتها العاصمة اللبنانية منذ سنتين.
مواقع التخلص من النفايات التي تقع بالقرب من شاطئ البحر تعاني بشكل كبير من طيور النورس. وبطبيعة الحال، عندما تواجه هذه الطيور نقصاً في الغذاء الطبيعي خلال أوقات معينة من السنة، فهي تتجه إلى المكبات. ولذلك غالباً ما تتفاقم المشاكل مع طيور النورس خلال فصل الشتاء. إن تغطية النفايات بالتربة تقلل من المشكلة بشكل كبير، ولكن طيور البحر هي من الذكاء بحيث تقوم بنبش طبقات التغطية سعياً وراء الطعام.
مراكز فرز النفايات ومعالجتها وطمرها، أيّاً كان موقعها، تجتذب الطيور لأنها توفر لها مصدراً سهلاً للطعام، خصوصاً إذا احتوت على كميات من المواد العضوية. وقد تم رصد حالات كثيرة توقفت فيها بعض أنواع الطيور، خاصة اللقلاق الألماني الأبيض، عن الهجرة شتاء من الشمال البارد والمتجمد إلى أفريقيا بحثاً عن طعام، حيث وفرت مطامر النفايات القريبة «مطاعم طريق» في بلدان مثل بولندا واليونان وإسبانيا، ما يشكل إخلالاً بالتوازن الطبيعي.
عام 1971 قامت وكالة البيئة الأميركية بإجراء مسح لمخاطر الاصطدام بين الطيور والطائرات بالقرب من مواقع التخلص من النفايات. وجاء في تقريرها أن هذه المواقع، بما فيها المكبات العشوائية والمطامر الصحية، تزيد من احتمال حصول الحوادث، وأن المسؤولية القانونية قد تقع على الحكومة إذا كان خطر الاصطدام معلوماً. وعقب هذا التقرير، صدرت أحكام قضائية تدين الحكومة الأميركية وتفرض عليها تعويضات مالية، نتيجة حوادث طيران سببتها الطيور.
وقد وجدت الوكالة أن عدد الطيور وتكرار تواجدها في مناطق معالجة النفايات يعتمد على عدة أسباب، كالمناخ وطريقة تشغيل الموقع ونوع النفايات وترتيبات التحكم بمشكلة الطيور، إلى جانب عوامل أخرى تساهم في جذب الطيور مثل وجود الماء وتوفر أماكن التعشيش ومصادر الطعام المتاحة في المنطقة. لهذا أوصت اللجنة بإغلاق جميع مواقع التخلص من النفايات التي تجتذب طيورا تشكل خطرا على الطائرات. وقد تحولت هذه التوصية إلى قانون في عام 2000 يحظر إنشاء مطامر النفايات البلدية الصلبة ضمن مسافة عشرة كيلومترات عن أي مطار يستقبل عادة الطائرات التي يقل عدد ركابها عن ستين راكباً، لأن الطائرات الصغيرة أكثر عرضة لخطر السقوط نتيجة الاصطدام بالطيور.
أول ضحية لحوادث الاصطدام كان رائد الطيران الأميركي كالبريث رودجرز، الذي فقد حياته عام 1912 عندما علق طائر نورس بأسلاك طائرته متسببا بسقوطها في المحيط الهادئ مقابل كاليفورنيا. وخلال السنوات الثلاثين الأخيرة، قُتل 250 شخصاً نتيجة حوادث سبّبها اصطدام طيور بطائرات، معظمها من الحجم الصغير. أما أكبر الخسائر في الأرواح في حادثة واحدة فكانت في 1960، عندما اصطدمت طائرة إليكترا أثناء إقلاعها من مطار بوسطن الأميركي بسرب من طيور الزرزور، الذي تسبب بتضرر محركاتها الأربعة وتحطمها في ميناء بوسطن، مودية بحياة 62 شخصاً.
تصطدم الطيور بالطائرات قرب المطارات يومياً، وتحدث عشرات آلاف حوادث الاصطدام كل عام. لكن معظم هذه الحوادث تقتصر على الأضرار المادية البسيطة، ونادراً ما تتسبب بسقوط ضحايا، باستثناء الطيور نفسها. ذلك لأن محركات الطائرات تملك طاقة تستطيع سحق مجمل الطيور من دون ضرر كبير، وعادة ما يتم التحقق من وضع المحرك بعد كل حادث اصطدام. من النادر أن يتسبب طائر بمفرده بخطر ذي شأن. إلا أن المخاوف تصبح أكبر في حال وجود طائر ضخم كالإوز الكندي، أو في حال وجود سرب من الطيور، كما يحصل بالقرب من مواقع التخلص من النفايات أو على مسارات هجرتها.
الثابت أن الطيور والطائرات تتزاحم في الجو، وهذا الأمر يجب لحظه عند التخطيط لإقامة مطار جديد، بحيث لا يكون مجاوراً لأماكن تجمع الطيور، أكان قرب مواقع التخلص من النفايات أم عند مصبات الأنهار أو في نطاق موائلها الطبيعية، كبعض الجزر والبحيرات. كما يجب تفادي تشييد المطارات على خطوط مسارات الهجرة المعروفة للطيور، ولا سيما في المناطق التي تشكل عنق زجاجة في هذه المسارات، كما هي الحال في شبه جزيرة سيناء وعند مضيق باب المندب. فالطيور تفضل الطيران فوق خط الساحل وتتجنب التحليق فوق المسطحات المائية الكبيرة، ما لم تكن مضطرة لذلك. ومعروف أن مطارات نيويورك الرئيسية الثلاثة تقع على مسارات هجرة الطيور. وهذا ما يتم تجنّبه الآن عند إنشاء مطارات جديدة. ولما كانت أية إجراءات للحد من تجمع الطيور في المطامر هي في الأغلب إجراءات غير مستدامة وليست مضمونة النتائج بشكل كامل، فإن الإصرار على بنائها بالقرب من المطارات هو مراهنة خطرة قد تتسبب بفقدان الأرواح.
لقد تسببت الطيور بإلغاء خطط بناء مطارات في أكثر من مكان في العالم. فقد كانت جزيرة سالتهولم التي تبعد نحو عشرة كيلومترات عن كوبنهاغن موقعاً مرشحاً لإقامة مطار. لكن وجود مستعمرة ضخمة لطائر النورس الفضي وأعداد كبيرة من الطيور المائية الشتوية جعلت الدانماركيين يصرفون النظر عن هذا الموقع. وكانت السهول الطينية في مصب نهر التايمس مقترحة كموقع لمطار لندن الثالث، إلا أن الأعداد الكبيرة من الطيور كالإوز الأسود والبط والكراكي والنوارس والعصافير كانت من بين الأسباب التي أدت إلى استبعاد الموقع.
صيد النوارس بالقرب من مطار بيروت للحد من مخاطرها لا يعتبر سابقة، إلا في الأسلوب، الذي وجده بعضهم عشوائياً. فهناك حالات مشابهة، لعل أشهرها حملة القتل المنظم في محيط مطار نيويورك، التي كانت حصيلتها مقتل 70 ألف طائر من أنواع الزرزور الأوروبي وحمام الحِداد والنورس والإوز الكندي. وقد شملت الحملة التقاط الطيور في شباك، قبل قتل معظمها ونقل أعداد أخرى منها إلى مناطق بعيدة، إضافة إلى اصطيادها بالأسلحة النارية من قبل اختصاصيين محترفين من موظفي إدارة الحياة البرية، وذلك ضمن مسافات آمنة بعيدة عن المحيط المباشر للمطار. وفي حين سمحت إدارة الحياة البرية الأميركية بالتخلص من معظم أنواع الطيور في محيط المطارات التي تهدد سلامة الطائرات، فقد حظرت قتل الأنواع المعرّضة للانقراض والخاضعة للحماية، وأبرزها النسر الأصلع والنسر الذهبي. وجاء هذا التدبير بعد الهبوط الاضطراري لطائرة أميركية عام 2009 على متنها 155 راكباً، إثر اصطدامها بسرب من الإوز الكندي، ما أدى إلى تعطيل محرّكيها الاثنين بعد ثلاث دقائق على الاقلاع من مطار «لاغارديا» في نيويورك. لكن قرار القبطان الهبوط فوراً في نهر هدسون، حيث عامت الطائرة فوق الماء، أدى إلى إنقاذ الركاب من كارثة محققة. وأصبحت الحادثة تعرف بـ«أعجوبة هدسون».
قتل الطيور في محيط مطارات نيويورك لم يأتِ بنتيجة، إذ تضاعفت تقارير الإبلاغ عن حوادث الاصطدام. وتبين أن أفضل الطرق لمعالجة مشاكل الطيور ليس في صيدها ولكن في اتخاذ إجراءات تشمل تعديل موائلها، من خلال التحكم بمصادر تغذيتها كالمكبات والمصبات، وإدارة الغطاء النباتي لمنع تعشيشها، وضبط المسيلات والبرك العذبة التي ترتوي منها، وبالتأكيد، عدم إقامة مكبات ومطامر للنفايات ملاصقة لمدارج المطارات، خاصة على الشواطئ.
المطلوب تخطيط أفضل لكي تصبح الأجواء آمنة للطيور والطائرات معاً. فلا تُبنى المطارات على مسارات هجرة الطيور، ولا تقام مكبات النفايات على أسوار المطارات. وإلى أن يحصل هذا، لا مفر من إجراءات تُبعد طيور النورس عن مطار بيروت وتحفظ سلامة الطائرات والبشر.
مواقع جذب الطيور غرب مطار بيروت
الطيور تلحق النفايات
تزاحم في الأجواء بين أسراب الطيور والطائرات
الطائرة التي هبطت في نهر هدسون نتيجة اصطدامها بطيور الإوز