يسعى العالم إلى خفض استهلاكه من الفحم الحجري لتخفيض انبعاثات غازات الدفيئة والحد من تلوث الهواء. وبعكس الاتجاه العالمي، تراهن بعض الدول العربية على الفحم وتدخله مجدداً في مزيج الطاقة.
استمر الفحم في لعب دور اقتصادي واجتماعي مهم على مر التاريخ. فهو الأساس الذي قامت عليه الثورة الصناعية في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر، وبالاعتماد عليه تحوّلت الولايات المتحدة إلى قوة اقتصادية هامة مطلع القرن العشرين، ومن خلاله اكتسبت ألمانيا قوتها في الحقبة نفسها، وهو العامل الأهم في النهضة الاقتصادية التي شهدتها الصين والهند في القرن الواحد والعشرين.
في المقابل، يُعتبر الفحم أكبر مساهم في انبعاثات غازات الدفيئة ضمن قطاع الطاقة، إذ تسبب بإطلاق 10 بلايين طن من ثاني أوكسيد الكربون في عام 2016، أو ما يعادل 77 في المئة مما أطلقه قطاع الطاقة بأكمله. وفي عام 2010 كانت كمية الفحم المنتجة عالمياً 7200 مليون طن، لكن الإنتاج بدأ بالتراجع اعتباراً من عام 2014، حيث انخفض بنسبة 0.6 في المئة مقارنة بالعام السابق، و2.8 في المئة عام 2015.
تحتل الصين منذ عام 1985 المركز الأول في إنتاج الفحم. وهي أنتجت ما يزيد عن 45 في المئة من المجموع العالمي، وفقاً لأرقام عام 2015، تلتها الولايات المتحدة بما نسبته 10.5 في المئة، ثم الهند فأوستراليا وإندونيسيا. وقد تراجع انتاج الولايات المتحدة من الفحم الحجري من 918 مليون طن في 2014 إلى 813 مليون طن في 2015 نتيجة انخفاض الطلب على الصادرات وتراجع الاستهلاك المحلي. وشهد العالم تراجعاً في صادرات الفحم بمقدار 4.1 في المئة بين عامي 2014 و2015.
تأتي أوستراليا وإندونيسيا في صدارة الدول المصدّرة للفحم الحجري، بحصة تقارب 30 في المئة لكل منهما، وتليهما روسيا في المرتبة الثالثة. أما أكثر الدول استيراداً للفحم فهي الهند والصين واليابان بحصة تقارب 15 في المئة لكل منها.
تراجع بعد ازدهار
نظراً لتدني سعره إلى أقل من نصف سعر البترول أو الغاز، وانتشاره الواسع في العديد من البلدان، شكّل الفحم حجر الزاوية في النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي عالمياً، وبقيت حصته في توليد الكهرباء خلال الأربعين عاماً الماضية في حدود 40 في المئة من الطاقة المنتجة عالمياً.
منذ عام 1971 تضاعفت الانبعاثات المرتبطة بالفحم بشكل كبير، حتى وصلت إلى 182 في المئة في عام 2013. واعتباراً من عام 2003 حلّ الفحم مكان النفط في طليعة أنواع الوقود التي تؤدي انبعاثاتها إلى ازدياد الاحتباس الحراري.
الحل الجذري لتحقيق خفض كبير في الانبعاثات من حرق الفحم، مثل حرق أي وقود أحفوري آخر كالنفط، هو تطوير تقنية التقاط الكربون وتخزينه (Carbon Capture and Storage-CCS). لكن كلفة استخدام هذه التقنية تؤدي إلى مضاعفة كلفة توليد الكهرباء من الفحم خمس مرات. علماً أن تكنولوجيا الالتقاط ليست مستخدمة على نطاق تجاري، باستثناء محطة حكومية في كندا هي الأولى عالميا جرى افتتاحها في 2014، وأخرى في الولايات المتحدة جرى افتتاحها في 2017، وكلتاهما تجريبيتان وتعتمدان على دعم مالي حكومي.
ويبقى الخيار الواقعي الوحيد لتخفيض الانبعاثات من محطات الفحم محصوراً في رفع الكفاءة، من خلال تحسين شروط العمل التكنولوجية وتجفيف الفحم قبل استخدامه. لكن أثر هذا لن يتعدى 30 في المئة. وبالتالي، فإن مصطلح "الفحم النظيف" هو وصف تلطيفي لا يعكُس حقيقة التلوث الناتج عن حرق الفحم، إذ لا توجد حتى الآن حلول مجدية لخفض جذري في الانبعاثات.
الثابت أن خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الناجمة عن استخدام الفحم ضروري لوفاء بلدان العالم بالتزاماتها للحد من ارتفاع معدل الحرارة العالمية. وتتفاوت استجابة الدول لهذا التحدي من تحسين كفاءة الإنتاج في محطات توليد الطاقة العاملة على الفحم الحجري كمرحلة انتقالية، وصولاً إلى وقف استخدام الفحم كلياً خلال فترة زمنية محددة.
الحكومة الدانماركية حظرت بناء محطات الكهرباء التي تعمل على الفحم في عام 1997، وكذلك تتجه الحكومة الصينية لإلغاء خطط بناء 100 محطة كهربائية تعمل على الفحم، من بينها محطات قيد الإنشاء كان من المتوقع أن تولّد 100 جيغاواط من الكهرباء. وتخطط الصين في المقابل لتوليد 130 جيغاواط من طاقة الرياح والطاقة الشمسية بحلول 2020.
في الاتحاد الأوربي 300 محطة كهربائية تعمل على الفحم، وهناك 11 محطة أخرى قيد الدراسة، ومع ذلك فإن استخدام الفحم في أوروبا يتناقص بمقدار واحد في المئة سنوياً. ومنذ عام 2008 ألغت الدول الأوروبية خططاً لبناء مئة محطة جديدة تعمل على الفحم. وقد أوصت دراسة صدرت مؤخرا بأن يسعى الاتحاد الأوربي لإغلاق جميع المحطات العاملة على الفحم في 2030 من أجل تحقيق أهداف اتفاقية باريس المناخية.
معظم الدول وضعت مواصفات قياسية للحد الأقصى المسموح به من الانبعاثات، كما في كندا منذ 2012، والولايات المتحدة من خلال الخطة الأميركية للطاقة النظيفة ضمن قانون "الهواء النظيف"، الذي وعدت الإدارة الأميركية الجديدة بمراجعته لتخفيف وطأته على قطاع الطاقة. كما أن الشركات الخاصة أخذت تبتعد تدريجاً عن الفحم، كما فعلت شركة "دونغ"، عملاق الطاقة الدانماركي، التي أعلنت مؤخرا خطتها للتخلي عن الفحم في 2023 واعتبارها أن المستقبل هو لمصادر الطاقة المتجددة. وكذلك فعل "دويتشه بنك" الألماني الذي أوقف القروض الجديدة الخاصة بالفحم، تماشياً مع متطلبات اتفاقية باريس المناخية.
صناعة الفحم في الولايات المتحدة تتراجع نتيجة ازدياد العرض عن الطلب والمنافسة مع مصادر الطاقة المتجددة. وقد أنتجت الطاقة المتجددة والغاز نصف حاجة الأميركيين من الطاقة الكهربائية في 2016، في حين لم تتجاوز مساهمة الفحم 30 في المئة، وهي النسبة الأدنى منذ سبعين عاماً. وتقع نصف شركات الفحم الأميركية حاليا تحت مظلة الحماية من الإفلاس.
الفحم يتقدم عربياً
في مقابل التراجع العالمي في استخدام الفحم، تتجه بعض البلدان العربية إلى التوسُّع في استخدامه. وهي ستعتمد على الاستيراد، إذ إن المنطقة فقيرة بالاحتياطات الفحمية. وإذا استثنينا الفحم النفطي المتشكل كمنتج ثانوي في صناعة تكرير البترول، فإن الفحم الحجري لا يوجد بشكل مؤكد إلا في ثلاثة بلدان عربية هي المغرب والجزائر ومصر.
توقف استخراج الفحم الحجري في المغرب بشكل رسمي بعد إغلاق منجم الفحم في مدينة جرادة المغربية في 2001، بعد استثمار دام 74 عاماً، حيث ساهم الفحم بحصة 77 في المئة من مجمل الكهرباء. ثم تراجعت هذه المساهمة إلى 40 في المئة بعد الاعتماد على الفحم المستورد. وقد تسبب استخراج الفحم بمشاكل خطيرة في الجهاز التنفسي لعمال المناجم.
أما الجزائر فقد اتجهت نحو التنقيب عن النفط وتوقف استخراج الفحم الحجري من منجم الفحم في مدينة القنادسة في 1975، بعد استثمار دام 58 عاماً. وعانى العمال الجزائريون مشاكل صحية مشابهة لنظرائهم المغاربة. وفي 2013 أعلن وزير الطاقة والمناجم عن نية السلطات الجزائرية دراسة فتح المناجم في ولاية بشار، حيث يعتبر منجم القنادسة أهمها باحتياطيات تقدر بـ 142 مليون طن.
في مصر، اكتشف الفحم في شبه جزيرة سيناء ضمن عدة مناطق أهمها منطقة المغارة، التي يقدر الاحتياطي المؤكد فيها بنحو 21 مليون طن من الفحم، لكنه من النوع المتوسط والقليل القيمة حرارياً. وقد بدأ استخراج الفحم من منجم المغارة عام 1995 وتوقف عام 2005 لانعدام الجدوى الاقتصادية.
أما أكبر بلد مستهلك للفحم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فهو تركيا، بأرقام تجاوزت 51 مليون طن مكافئ فحمي في عام 2014، تليها إسرائيل بنحو تسعة ملايين طن ثم المغرب بنحو ستة ملايين طن، فالإمارات ومصر بنحو مليوني طن لكل منهما.
على عكس التوجه العالمي في الإقلال من الاعتماد على الفحم كمصدر للطاقة، أخذت بعض الدول العربية بتوسيع استثماراتها القائمة على الفحم الحجري المستورد، نتيجة انخفاض أسعاره تحت تأثير تراجع الطلب عليه عالمياً. ومن ذلك مثلاً قيام وزارة الكهرباء المصرية بإعداد الدراسات لإنشاء محطة كهربائية تعمل على الفحم في 2018 باستطاعة ستة آلاف ميغاواط وباستثمارات تقدر بعشرة بلايين دولار. وبرز مؤخراً اتجاه لتأجيل مشاريع توليد الكهرباء من الفحم لبضع سنوات، ما اعتبره الناشطون المصريون فرصة لاعادة النظر في هذا الخيار.
كما بدأت الحكومة المغربية ببناء محطة كهربائية تعمل على الفحم في مدينة آسفي، بقدرة 1386 ميغاواط وباستثمارات تبلغ 2.6 بليون دولار، ومن المتوقع البدء بتشغيلها في عام 2018 لتلبي ربع حاجة البلاد من الطاقة الكهربائية. وسيؤدي تشغيل هذه المحطة إلى رفع واردات المغرب الفحمية من 6 ملايين طن إلى نحو 10 ملايين طن. في المقابل، بدأ في المغرب تنفيذ خطة طموحة لإنتاج 52 في المئة من الكهرباء من مصادر متجددة، خاصة الشمس، بحلول سنة 2030.
وتسعى دبي إلى إدخال الفحم ضمن مزيج الطاقة الخاص بها، بحيث تصل مشاركته إلى 7 في المئة بحلول عام 2030 مقابل 25 في المئة للطاقة الشمسية و7 في المئة للطاقة النووية و61 في المئة للغاز الطبيعي. وفي الطريق لتحقيق ذلك أعلنت مؤخراً عن استكمال ترتيبات التمويل الخاصة بمشروع مجمع حصيان لتوليد الطاقة بتقنية "الفحم النظيف" بقدرة 2400 ميغاواط وباستثمارات تقارب 3.4 بلايين دولار.
الفحم بديل لرفع الدعم
إن إدخال الفحم في تركيبة مصادر الطاقة في بعض الدول العربية، على الرغم من التلوث الذي ينتج عنه، عائد لأسباب مالية في الدرجة الأولى، وهي ترتبط بالدعم الحكومي لقطاع الطاقة وانخفاض الإيرادات على المستوى الوطني.
المغرب يعتمد بشكل شبه كامل على وارداته من الخارج لتوفير الطاقة، حيث تتراوح فاتورة المستوردات ما بين 9 إلى 10 بلايين دولار سنوياً، ولا يزال الدعم الحكومي للمشتقات النفطية في حدود 3 بلايين دولار. ويعمل المغرب على خفض فاتورة الواردات النفطية باعتماد خليط من مصادر الطاقة، يقوم على استخدام الفحم الرخيص (حمل تلوث كبير) في مقابل التوسع في استغلال مصادر الطاقة المتجددة (حمل تلوث منخفض)، والإفادة من حصة المغرب من الغاز الطبيعي الذي يمر في أراضيها قادماً من الجزائر باتجاه أوروبا.
قطاع الإسمنت في مصر يمثل أحد أوجه الاستثمار الأجنبي الذي يستفيد بشكل كبير من الدعم الحكومي الموجّه لأسعار الطاقة، مع انخفاض أسعار المواد الأولية وكلفة اليد العاملة. وقد كان يفترض بهذه الحوافز أن تؤدي إلى خفض أسعار الإسمنت في البلاد، إلا أن الشركات توجهت إلى تصدير منتجاتها ورفعت الأسعار محلياً بهدف زيادة أرباحها، وفقاً لتقارير رسمية. وقد بدأ عام 2013 الحديث عن تحويل صناعة الإسمنت من الغاز الطبيعي إلى الفحم، ثم زيادة حصة الفحم في توليد الكهرباء. وكان ذلك تحت تأثير ارتفاع فاتورة الطاقة نتيجة زيادة الطلب على الكهرباء، ومحدودية كمية الغاز المستخرجة محلياً، والدعم الحكومي لقطاع الطاقة، الذي التهم حوالي خُمس الإنفاق العام في 2011/2012.
ولما كانت كلفة تشغيل مصانع الإسمنت بالغاز المستورد تصل إلى ضعف كلفة تشغيلها بالفحم، سمحت الحكومة المصرية بإدخال الفحم ضمن منظومة الطاقة في نيسان (أبريل) 2014 على الرغم من اعتراض وزارة البيئة والعديد من منظمات المجتمع المدني.
الإمارات لم تكن في منأى عن تداعيات الأزمة المالية العالمية، ولذا خفضت اعتباراً من منتصف 2015 دعم الطاقة لتقليص عجز الميزانية الناجم عن النفط الرخيص. وبحسب تصريح لوزير الطاقة الإماراتي، فإن هذه الأزمة شكلت "فرصة جديدة لتقليل الكلفة وبناء اقتصاديات متنوعة لا تعتمد على النفط فقط". ويبدو أن الفحم كان أحد خيارات الطاقة المنخفضة التكاليف، إلى جانب مصادر الطاقة المتجددة والطاقة النووية، التي بدأت الإمارات تنفيذ برامج ضخمة لاستخدامها على نطاق واسع.
وحسب هيئة كهرباء ومياه دبي، تبلغ الكلفة التناسبية للطاقة الكهربائية المولدة باستخدام الفحم في مجمع حصيان 4.241 سنت لكل كيلوواط ساعة، وهي أعلى من كلفة الطاقة الشمسية لمجمع أبو ظبي في منطقة سويحان، التي وصلت إلى 2.42 سنت، وكذلك كلفة الطاقة الشمسية للمرحلة الثالثة من مجمع محمد بن راشد في دبي التي تبلغ 2.99 سنت. وهذا يمثل أدنى أسعار إنتاج الكهرباء الشمسية في العالم. لكن إنتاج الكهرباء من الفحم يبقى أرخص كثيراً من تخزين الكهرباء الشمسية خلال الليل.
الاعتبارات الاقتصادية والرغبة في تنويع مصادر الطاقة كانت وراء الطفرة في استخدام الفحم الحجري في بعض البلدان العربية. المأمول أن تكون هذه مرحلة انتقالية عابرة، في منطقة تختزن العديد من أنواع الطاقة التقليدية والطاقة المتجددة.