"الطاقة المستدامة للجميع" شعار نبيل، قامت عليه مبادرة دولية أطلقها الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون. الواقع أن ثلاثة بلايين شخص حول العالم ما زالوا يفتقرون إلى امدادات طاقة مأمونة وميسرة. فالبعض لا تبلغه شبكات الكهرباء، والبعض الآخر يعتمد على الحطب وبراز الحيوانات للتدفئة والطهو، في غياب مصدر آخر للوقود.
لا شك أن الوصول إلى مصادر الطاقة المأمونة حق إنساني أساسي، وشرط لتحقيق النمو الاقتصادي. وقد تضمن البند السابع من أهداف التنمية المستدامة لسنة 2030 "ضمان حصول الجميع بكلفة ميسورة على خدمات الطاقة الحديثة الموثوقة والمستدامة".
النص كان واضحاً حين حدّد صفات الطاقة المطلوبة بـ"الحديثة والموثوقة والمستدامة". لكن البعض تجاهل صفة "المستدامة"، في محاولة لتفسير النص على أنه إجازة مفتوحة حتى سنة 2030 لاستخدام أي نوع وشكل من الطاقة، مهما كان ملوِّثاً، تحت غطاء ضرورة إيصال الطاقة للجميع، بأي ثمن. وإذا كان لهذا التوجّه ما يبرره قبل عشرين عاماً، فقد أصبح الآن من الماضي، بعد التطورات التكنولوجية غير المسبوقة في مجال الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، والانخفاض الكبير في أسعارها. فلا مبرر للاصرار على التلويث اليوم، بعد وصول كلفة إنتاج الكهرباء الشمسية في بعض البلدان إلى أدنى من كلفة الإنتاج بأي نوع من الوقود الأحفوري.
لم ينجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إقناع العالم بالتخلي عن الالتزام بخفض الانبعاثات الكربونية المسببة لتغيّر المناخ، عدا عن أنه لم ينجح حتى في إقناع المجتمع العلمي ومعظم الولايات في أميركا نفسها. فهناك اتفاق عام على أن المناخ يتغير بسبب النشاط البشري، خاصة من انبعاثات الوقود الأحفوري. وانضم إلى الفريق المعارض لتوجّهات ترامب، مؤخراً، زعماء دينيون حول العالم، اعتبروا مكافحة تغيّر المناخ واجباً أخلاقياً وروحيّاً. فرئيس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس جمع الشهر الماضي في الفاتيكان رؤساء شركات كبرى لبحث ضرورة التحوّل إلى مصادر نظيفة للطاقة، تكون في متناول الجميع، لأن "هذه مسؤولية نتحملها تجاه الملايين حول العالم، بما أننا جزء من العائلة الانسانية". وقال بوضوح إن "الطاقة للجميع يجب ألّا تقود إلى تفاقم آثار تغيّر المناخ... فالحضارة تحتاج إلى الطاقة، لكن ليس تلك الأنواع من الطاقة التي تدمّر الحضارة نفسها".
في العاصمة اليونانية أثينا، وبالتزامن مع كلام البابا في روما، أطلق البطريرك الأرثوذوكسي المسكوني برتلماوس كلاماً لا يقل قوة، خلال اجتماع دعا إليه في الأكروبوليس. فهو أكّد أن "هوية المجتمعات ومقياس ثقافتها لا تحددها فقط مستويات التطور التكنولوجي والنمو الاقتصادي. فالحضارة تُقاس أساساً بمستوى احترام الكرامة الانسانية والتكامل مع الطبيعة".
عظيم أن يأتي كلام واضح كهذا من زعماء روحيين يستمع إلى إرشادهم مئات الملايين من البشر حول العالم. لكن النّيات لا تتحوّل دائماً إلى أفعال عند الرعيّة. فقبل أيام من كلام برتلماوس الداعي إلى التكامل مع الطبيعة واحترامها، برّر مرجع ديني في لبنان إنشاء مشروع إعماري ضخم على أراضٍ محميّة تملكها الطائفة وتمتد إلى شواطئ عامة. وفي ردّه على اعتراضات مجموعات بيئية طالبت بالحفاظ على الموقع الطبيعي الفريد وحماية الشاطئ، استشهد بمقطع من "سفر التكوين" في العهد القديم جاء فيه: "أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدبّ على الأرض". فكأنه يدّعي تفسيراً خاصاً يعطي البشر حقاً لانتهاك الطبيعة. لكن من المرجوّ أن يتغيّر الموقف من تفسير "سفر التكوين" بعد كلام برتلماوس.
وكانت الندوة الدولية الاسلامية حول تغيّر المناخ، التي عُقدت عام 2015 في اسطنبول، اعتبرت أن التصدي لتغيّر المناخ التزام أخلاقي وجزء من الواجب الديني للمسلمين، انطلاقاً من التعاليم النبوية. كما دعت الندوة إلى التحوّل التدريجي إلى الطاقة المتجددة لخفض الانبعاثات. ومن المأمول أن تصدر إعلانات مشابهة عن المراجع الدينية الاسلامية العليا حول العالم.
قد يفهم بعضهم من الدعوة إلى الطاقة النظيفة والمتجددة، كشرط حتمي للحد من تغيُّر المناخ، أنها حرب ضد الوقود الأحفوري، من بترول وغاز وفحم حجري. الواقع أن العالم يتجه إلى اقتصادات خالية من الكربون، أي التخلّي تدريجاً عن الوقود الأحفوري. فلا ندفننَّ رؤوسنا في الرمل. وأمام الدول المنتجة فرصة للتحوّل، قد لا تطول أكثر من ثلاثين سنة. خلال هذه الفترة، ستبقى للغاز والبترول حصة مرموقة في مزيج الطاقة، يجب على الدول المنتجة استغلالها على أفضل وجه، لاستخدام الدخل في تنويع الاقتصاد.
التحوّلات في مجال الطاقة تحصل سريعاً. من المتوقع أن يرتفع عدد السيارات الكهربائية على طرقات العالم من مليون اليوم إلى 300 مليون سنة 2040، من أصل ألف مليون سيارة. هذا سيعني انخفاضاً في الطلب المتوقع على البترول قد يصل إلى الثلث، لأن الاستخدام الأساسي للبترول السائل هو في وسائل النقل. فماذا ستكون عليه الحال سنة 2050 وبعدها؟ وماذا يحصل إذا نجحت الصين سريعاً في تحويل السيارات الكهربائية إلى سلعة استهلاكية رخيصة، كما تخطّط اليوم؟
نحن مقبلون على تحولات غير مسبوقة. فهَلّا استخدمنا الفسحة المتاحة على أفضل وجه استعداداً لعصر جديد؟