تسببت الحروب والنزاعات المسلحة في العراق على مدى أربعين سنة بملايين الوفيات والإصابات. قساوتها لم تترك ندوبها على قلوب الأبرياء فحسب، وإنما طالت الأرض والماء والهواء. المزارع والغابات كانت فريسةً سهلةً لنيران الصراع، وكذلك المصانع ومكامن النفط والثروات الطبيعية، التي أدى تدميرها إلى انتشار التلوث في كل مكان.
الحروب المتتالية أنهكت النظام الصحي في البلاد، وألحقت الضرر بالبنى التحتية الأساسية، وأضعفت الإدارة البيئية والرقابة على المنشآت والفعاليات الصناعية. والخطط التي وضعت بعد سنة 2003 لمعالجة هذه المشاكل لم تنجح في تحقيق أهدافها لقلة الموارد وفقدان الأمن وتفشي الفساد. وهذا ما جعل القضايا البيئية الشائكة، مثل المخلفات السامة والمشعة والتلوث النفطي وفقدان الأراضي الزراعية، تتراجع على سلم الأولويات وتبقى في أغلبها مهملة من دون علاج.
حجم التلوث وانتشاره في العراق كان كبيراً للغاية حتى أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حدد في سنة 2005 ستين منطقة ساخنة تتطلب الإصلاح وإعادة التأهيل، من بينها خمس مناطق تستوجب المعالجة الفورية. كما قدّرت تكاليف التدهور البيئي في سنة 2008 بنحو 8.7 بليون دولار وفقاً لأرقام رسمية.
وفي السنوات العشر الماضية، كان لتكرار مواسم الجفاف مع انخفاض تدفق المياه في دجلة والفرات، إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية والتوسع الحضري غير المدروس، الأثر الكبير في تملّح الأراضي الزراعية وانتشار التصحر ومحدودية مياه الشرب. وإلى جانب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، كان للمشاكل البيئية دور فاعل في تحضير الظروف الموائمة لتطوّر صراع جديد خلال السنوات العشر الأخير، تصدّر مشهده تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
وفيما الحرب تضع أوزارها، ينجلي غبار المعارك عن دمار واسع أصاب العديد من الحواضر والأرياف العراقية، أكان ذلك بفعل السياسة التخريبية لتنظيم الدولة أم نتيجةً للأعمال الحربية التي قامت بها الحكومة وحلفاؤها من أجل مواجهته.
برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) أصدر مؤخراً تقريراً حول القضايا البيئية في المناطق التي جرى استردادها من تنظيم الدولة، لاسيما مدينة الموصل مركز محافظة نينوى. وكان فريق من شعبة ما بعد النزاعات في يونيب أجرى مسحاً ميدانياً ركز على التلوث الناتج عن إشعال النيران في آبار النفط في ناحية القيّارة، وإحراق معمل كبريت المشراق جنوب مدينة الموصل، بالإضافة إلى تسرب المركبات العضوية الثابتة المستخدمة كعوازل ومواد تبريد في منشآت الطاقة الكهربائية. كما عرض التقرير للتحديات البيئية التي تفرضها كميات الأنقاض والنفايات الهائلة، بما فيها الأسبستوس الذي لوحظ في أكثر من موقع.
تقرير يونيب سجّل أيضاً انهيار الإدارة البيئية من الناحية البشرية، وكذلك التخريب الذي طال المنشآت والمختبرات التابعة لمديرية البيئة في محافظة نينوى وكلية العلوم البيئية في جامعة الموصل، وما يعني ذلك من أثر على جهود التأهيل وإعادة البناء.
كما أشار التقرير إلى الانعكاسات الخطيرة لقيام تنظيم الدولة باستخدام المنشآت المائية كسلاح في الحرب وإغراقه الأراضي بمياه بحيرات السدود، التي تسببت في تدهور الأراضي الزراعية وخلق إشكاليات اجتماعية واقتصادية طويلة الأمد.
إلى جانب التقرير الأولي الذي أصدرته يونيب، قامت منظمة "باكس" الهولندية بنشر تقريرها "الحياة تحت سماء سوداء" ضمن فعاليات اللقاء الثالث لجمعية الأمم المتحدة للبيئة الذي جرى في نيروبي مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي. ويمثّل تقرير باكس إيجازاً للمعطيات التي جمعتها المنظمة طيلة السنوات الثلاث الماضية، وهي تشمل كامل الأراضي العراقية، بما فيها مدينة الموصل وجوارها، التي اقتصر عليها التقرير الأممي. ويمكن إيجاز القضايا البيئية التي تناولها التقريران في ثلاثة محاور: التلوث النفطي، وأضرار المنشآت المدنية، والآثار الجانبية.
التلوث النفطي
تنطوي الصناعة النفطية على مخاطر واسعة نتيجة التعامل مع مواد كيميائية خطرة ومنتجات ثانوية سامّة. وفي العراق، كانت المصافي النفطية الحكومية تعد بؤراً للتلوث لعدم كفاية إجراءات الإدارة البيئة والصحية. وقد تسبب الصراع الحالي في مضاعفة هذه المشاكل نتيجة التعديات التي قامت بها الميليشيات والمجموعات المحلية على المنشآت النفطية من مصافٍ وخزانات وأنابيب وحقول، إلى جانب الضربات الجوية التي طالت المئات من صهاريج نقل النفط.
علاوة على ذلك، مارس تنظيم الدولة في مواجهة تقدم القوات الحكومية سياسة الأرض المحروقة والسماء السوداء، من خلال إشعال النيران في الآبار النفطية لتغطية تحركات قواته وإلحاق الضرر بالموارد الاقتصادية لخصومه. وأدى هذا إلى تسربات نفطية واسعة وانتشار السحب الدخانية إلى مسافات بعيدة.
ومن أبرز حوادث التلوث في هذا المجال إحراق عشرين بئرا في حقل القيّارة النفطي جنوب مدينة الموصل، حيث ابتدأت أولى الحرائق في أيار (مايو) 2016 ولم تخمد جميع النيران إلا مع نهاية آذار (مارس) 2017، وقدّرت كمية النفط التي احترقت بحدود 1.4 إلى 2 مليون برميل وفقاً لمصادر حكومية. أما في جبل حمرين شرق مدينة تكريت، فيستمر منذ نحو ثلاث سنوات وحتى الآن احتراق العديد من الآبار ضمن حقلي عجيل وعلاس.
كما تعرضت مصفاة بيجي إلى تفجيرات وحرائق ضخمة في خزانات النفط والبنى التحتية الأساسية، وتسببت بإحراق نحو 20 ألف متر مكعب من النفط، وألحقت ضرراً كبيراً يصعب إصلاحه. وطالت الهجمات البنى التحتية للقطاع النفطي في محافظة كركوك، بما فيها رؤوس الآبار ومضخات النفط ومعامل الغاز والمصافي وأنابيب نقل النفط والغاز.
الحرائق النفطية، مع ما تتسبب به من إطلاق لمواد خطيرة مثل أكاسيد الكبريت والنيتروجين والمركبات العضوية الثابتة والمعادن الثقيلة التي تلحق أضراراً واسعةً بالبيئة والصحة العامة، كانت واحدة من مظاهر تلوّث البيئة العراقية خلال مراحل الصراع الحالي. ويضاف إليها تسرّب النفط الذي يفسد التربة ويصل إلى المياه السطحية والجوفية التي تستخدم في ري الأراضي الزراعية وكمصدر لماء للشرب، فيلوثها بالمركبات العضوية الثابتة والمعادن الثقيلة.
وإلى جانب التسربات النفطية الواسعة التي حصلت في حقل القيّارة وجبل حمرين ومناطق عدة في كركوك، بما في ذلك ضخ النفط الخام إلى نهر دجلة وأقنية الري والأراضي الزراعية، تعرّض الخط الرئيسي لتصدير النفط العراقي إلى تركيا إلى تفجيرات متكررة. وفي سنة 2014 تسبب تفجير أنبوب قريب من نهر دجلة في تسرّب بقعة نفطية وصل طولها إلى 70 كيلومتراً. ومن أجل تخفيف التلوث في النهر، جرى إشعال هذه البقعة، فتشكلت سحب سوداء وضباب كثيف، واضطرت العديد من المدن، بما فيها بغداد، إلى وقف التزود بالمياه إلى ما بعد عبور هذه البقعة.
كما انتشرت "الحرّاقات" لتكرير النفط بطريقة بدائية في أكثر من عشرين موقعاً، أهمها في جنوب الموصل وفي شمال شرق تلعفر وفي الحويجة وفي التلال وعلى طول الطريق الشرقي المحاذي لنهر دجلة. هذا المصافي البدائية، التي زاد عددها عن 1600 حرّاق، لم تقم وزناً للاعتبارات البيئية، وافتقدت لأدنى متطلبات السلامة العامة، وتسببت بأمراض خطيرة للعاملين فيها، لاسيما الأطفال. وتشير التقديرات إلى أن هذه الممارسة كانت أوسع في سورية، حيث وصل عدد الحرّاقات إلى أكثر من 50 ألف وحدة تنتشر في ستين موقعاً.
الأنقاض والمنشآت المدنية
تلوث الهواء بسبب أنقاض البناء في مناطق الحروب لا يقتصر على الجسيمات الدقيقة للإسمنت والرمل، بل يشمل أيضاً المركبات السامة كالأسبستوس المستخدم في مواد البناء والمعادن الثقيلة الموجودة في طلاء الجدران، إلى جانب المواد الكيميائية الخطيرة التي تدخل في تصنيع الذخائر المتفجرة. العديد من المدن والقرى والمناطق الصناعية في العراق تعرّضت لأعمال حربية عنيفة أدت إلى دمار واسع في أكثر من مكان. وتعد مدينة الموصل مركز الاهتمام في هذا الشأن، باعتبارها كبرى المدن العراقية التي كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة.
تقدّر كمية الأنقاض الناتجة عن الحرب في مدينة الموصل بأكثر من 10 ملايين متر مكعب، وتبلغ كلفة ترحيلها خارج المدينة نحو 250 مليون دولار. والأمر لا يقتصر على ترحيل الأنقاض، بل يتطلب أيضاً هدم المباني والمنشآت المتضررة بشكل كبير وجمع مخلفاتها، مع ما يستتبع ذلك من مخاطر صحية وبيئية، خاصةً بوجود بعض الذخائر غير المنفجرة.
مدينة الرمادي هي أيضاً من بين المدن التي تعرضت أحياؤها وبنيتها التحتية لدمار واسع، وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة الفلوجة، وإن بدرجة أقل. وفي سبيل توفير مواد البناء اللازمة لإعادة الإعمار، تسعى العديد من البلديات لتعديل التشريعات الوطنية التي تحظر تجريف الحصى والرمال من أحواض الأنهار. وفي حال نجاحها في تحقيق ذلك، فإن مشكلة تهدّم المساكن والمنشآت سترخي بعبئها الثقيل على النظم البيئية المائية، لاسيما في نهر دجلة.
الأضرار التي تعرضت لها البنى التحتية في العراق تشمل أيضاً تسرّب المركبات العضوية الثابتة من المحطات الفرعية ومراكز التحويل الكهربائية، وهي تعد مواد خطيرة تسبب العيوب الخلقية والسرطان وتؤخر النمو العقلي عند الأطفال. ومن الأماكن التي رُصدت فيها التسربات مدينة الموصل، ومواقع متفرقة في محافظة ديالى، بالإضافة إلى مدينة سامراء.
كما تأثرت المنشآت المائية بالحرب القائمة، ومن ذلك مثلاً التخريب المتعمد للتجهيزات والقنوات، واستخدام الماء كسلاح في المعركة، كما حصل في سدّة الفلوجة وسد الموصل وسد حديثة. وكان لإفاضة الأراضي أو حبس الماء في السدود أثر ضار على الأراضي الزراعية، دفع الأهالي إلى هجر قراهم وتسبب بحرمانهم من مصادر الماء والطاقة. وتقدّر الحكومة العراقية كلفة تأهيل المنشآت المائية المتضررة بنحو 600 مليون دولار.
أما أهم المنشآت الصناعية التي طالتها المعارك فكان معمل كبريت المشراق، الذي أدى إحراقه عمداً في حرب سنة 2003 إلى إطلاق أضخم سحابة لثاني أوكسيد الكبريت من مصدر غير بركاني جرى رصدها بواسطة الأقمار الاصطناعية عندما بلغ وزن الغاز المتحرر نحو 600 ألف طن. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2016 قام تنظيم الدولة بإحراق 30 ألف طن من أكوام الكبريت ضمن معمل المشراق، مسبباً إصابة أكثر من ألف شخص في المناطق المجاورة بأعراض صحية خطيرة أودت بحياة 20 منهم. ولا يزال هناك نحو مليوني طن من نفايات الكبريت في أرض المعمل هي بمثابة قنبلة موقوتة ما لم يتم توفير إجراءات الحماية الكافية.
ومن المنشآت الصناعية الهامة التي تعرضت للقصف معمل أدوية الحكماء شمال الموصل، والشركة العامة للفوسفات في قضاء القائم، التي كان يبلغ إنتاجها قبل الحرب 650 ألف طن من الأسمدة بالإضافة إلى مواد كيميائية أخرى كحمض الفوسفوريك الذي يصل إنتاجه إلى 400 ألف طن سنوياً. وهناك مخاوف من تعرّض المنشآت الصناعية إلى السرقة كما حصل بعد حرب 2003، وكما جرى مؤخراً في مصفاة بيجي، التي تُركت للنهب المنظم، مما رفع تكاليف إصلاحها إلى 12 بليون دولار.
ليس ببعيد عن التلوث الناتج عن الأعمال الحربية والممارسات التي قامت بها بعض الجماعات، فإن الصراع في العراق جلب على السكان طيفاً واسعاً من التحديات البيئية غير المباشرة. ووفقاً لتقرير المنظمة العالمية للهجرة، يوجد حالياً أكثر من ثلاثة ملايين نازح عراقي تركوا أرضهم وأرزاقهم بحثاً عن الأمان، حيث اتجه أغلبهم إلى إقليم كردستان، كما فعل الكثير من إخوانهم السوريين. موجة النزوح هذه أدّت إلى ضغط كبير على المرافق والخدمات البلدية في إقليم كردستان، وزادت الطلب على الموارد المائية والكهربائية، وترافقت مع زيادة التلوث والنفايات.
وفي حين يعتمد ثلث العراقيين على الزراعة كمورد لكسب عيشهم، تعرض الإنتاج الزراعي في البلاد لضرر بليغ لأسباب عدة، من بينها انتشار الألغام والذخائر غير المنفجرة في الحقول، ونزوح المزارعين عن أراضيهم، وسرقة وحرق صوامع الغلال ومخازن المحاصيل، وندرة الأسمدة والبذور، ومحدودية مصادر الطاقة والمياه، وغياب الدعم الحكومي. كما عانى الإنتاج الحيواني من ظروف قاسية مشابهة، كان من نتائجها خسارة ثلاثة أرباع قطعان المواشي من بقر وخراف وماعز وجواميس.
إن الأبعاد البيئية للصراع المسلح في العراق، وتأثيره على السكان والنظم الطبيعية، يتطلب المزيد من البحث والدراسة وتوفير الدعم الكافي لإجراء أعمال التأهيل والإصحاح البيئي. كما يًفترض بالحكومة العراقية أن تخصص الاعتمادات المالية والخبرات المناسبة لتأمين الرعاية الصحية وتطبيق الرقابة البيئية في المناطق المتضررة، ولحظ شروط التنمية المستدامة بشكل صريح ضمن مشاريع إعادة الإعمار.