كانت الصين، حتى وقت قريب، الوجهة المفضلة للتخلّص من النفايات تحت مسمى "تجارة المواد القابلة للتدوير"، واستقبلت وحدها نحو 45 في المائة من نفايات العالم البلاستيكية منذ سنة 1992. إلا أن كل شيء تغيّر بعد قرار الحكومة الصينية تطبيق إجراءات تصاعدية في سياستها المعلنة لتقييد إستيراد المخلفات القابلة للتدوير وزيادة التفتيش على خلو الواردات من الشوائب والمواد الملوثة منذ مطلع سنة 2018.
دفعت هذه الخطوة الصينية، إلى جانب الدراسات المتزايدة حول انتشار التلوث البلاستيكي، لاسيما في المحيطات، دول العالم إلى مواجهة التكلفة الحقيقية لإدمان استخدامها البلاستيك، وأثّرت إيجاباً على الثقافة العالمية التي تتجاهل عادةً مصير النفايات المطلوب التخلص منها. وبينما تقدم أنواع كثيرة من البلاستيك خدمات مفيدة تدعم التطور الاقتصادي والاجتماعي وتقلل من استنزاف موارد أخرى، تشكّل المنتجات التي تستخدم لمرة واحدة، مثل عبوات المياه وأكياس التسوق، معظم كمية النفايات البلاستيكية المشكو منها.
وأخذت الكثير من البلدان تتبنى خيارات أفضل لإدارة النفايات، مثل توسيع قدرات المعالجة في أميركا الشمالية وأوروبا، وتحفيز المصنّعين على جعل منتجاتهم أكثر قابلية لإعادة التدوير. وعلى صعيد العمل المشترك، وافقت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، خلال محادثات جرت في نيروبي خلال شهر مارس (آذار) الماضي، على الحد بشكل كبير من تداول البلاستيك ذي الاستخدام الواحد، كالأكياس والقوارير والأكواب، بحلول سنة 2030.
وفي مايو (أيار) الماضي، اتفقت 180 دولة على إجراء تعديلات ملزمة في اتفاقية بازل تتضمن إضافة شحنات النفايات المختلطة، أو البلاستيكية غير الخطرة ولكن غير الجاهزة لإعادة التدوير، إلى قائمة المواد التي تتطلب موافقة مسبقة من المستوردين. وبذلك تم تحسين اللوائح التنظيمية الخاصة بتجارة النفايات البلاستيكية، وأصبح من الصعوبة بمكان التخلص من النفايات البلاستيكية في البلدان النامية التي لا تستطيع التعامل معها وإدارتها بشكل سليم.
أمام الاتجاهات العالمية الجديدة، مازال الموقف العربي ينطوي على كثير من التناقضات. فهو من جهة يشجّع على التقليل من استهلاك المواد البلاستيكية، وفق ما تظهره الكثير من المبادرات على المستويات المحلية والوطنية. لكنه من جهة أخرى لا يظهر الحماس لدعم القيود العالمية، بل يتجه للاصطفاف مع الولايات المتحدة ودول أخرى، ترى في هذه التحولات خطراً على صادراتها من البوليميرات.
ضعف في إدارة المخلفات البلاستيكية
تعتبر بعض أنواع النفايات مواد أولية يمكن استردادها بالتدوير وإعادة الاستخدام. ويقدّر حجم السوق العالمية المرتبطة بجمع المواد القابلة للتدوير واسترجاعها بنحو 400 مليار دولار، ولا يشمل ذلك الحصة الضخمة التي يعمل بها القطاع غير المنظّم، مثل جامعي المخلفات في القاهرة.
ونظراً لارتفاع كلفة تدوير النفايات البلاستيكية بالتحديد، نجد أن معدل التدوير العالمي قبل تطبيق الحظر الصيني كان يقارب نحو 9 في المائة فقط، في حين كان يتم حرق 12 في المائة من هذه النفايات، بينما يتم التخلص من باقي الكمية في مكبات النفايات أو على نحو عشوائي في الأماكن المفتوحة والأنهار والمحيطات.
ولا تقتصر مشكلة البلاستيك على التخلص منه عشوائياً، إذ أن حجم الإنتاج العالمي من اللدائن يزداد سنة بعد سنة. وفيما كان وزن المنتجات البلاستيكية نحو مليوني طن في سنة 1950، ارتفع إنتاج العالم من البلاستيك إلى 381 مليون طن في سنة 2015، أي بمعدل نمو يبلغ 8.4 في المائة سنوياً. فإذا استمر الإنتاج في التصاعد وفق هذا المعدل، واستمر التخلص العشوائي من النفايات البلاستيكية كما هو قائم حالياً، فمن المتوقع أن تكون كمية البلاستيك المتراكم في مكبات النفايات وفي البيئة الطبيعية نحو 12 مليار طن بحلول سنة 2050، وهذا الوزن يزيد عن وزن الهرم الأكبر في الجيزة بألفي مرة.
وفي الدول العربية، تقدّر كمية النفايات المتوقع التخلص منها في سنة 2020 بنحو 200 مليون طن في السنة، تشكّل فيها المواد العضوية ما نسبته 50 إلى 60 في المائة. وتتباين كمية المواد البلاستيكية في هذه النفايات حسب معدلات الدخل وطبيعة المجتمعات، فنسبتها في مصر تتراوح ما بين 3 و12 في المائة من مجمل النفايات المتولدة، بينما تبلغ في السعودية ما نسبته 5 إلى 17 في المائة، وفي الجزائر ولبنان نحو 12 في المائة. فإذا افترضنا أن نسبة المواد البلاستيكية إلى مجمل النفايات التي يتم التخلص منها في العالم العربي هي في حدود 10 في المائة وسطياً، ومع إهمال ما يجري استرجاعه بالتدوير حيث لا تزيد نسبة تدوير مجمل أنواع النفايات عربياً عن 4 في المائة، نجد أن كمية النفايات البلاستيكية التي ستجد طريقها إلى مكبات النفايات والأوساط الطبيعية في الدول العربية هي في حدود 20 مليون طن في سنة 2020 وحدها.
وتتسرب النفايات البلاستيكية إلى مجمل الأوساط الإيكولوجية، بما فيها التربة والماء والهواء، لتصل إلى جسم الإنسان في نهاية المطاف. وأظهرت دراسة قامت بها جامعة مينيسوتا في سنة 2017 أن 83 في المائة من عيّنات المياه المأخوذة من الصنابير في ثماني مناطق حول العالم ملوثة بالألياف البلاستيكية، حيث كانت الولايات المتحدة صاحبة أعلى معدل تلوث بنسبة 94.4 في المائة، يليها في المنطقة العربية لبنان بمعدل تلوث يصل إلى 93.8 في المائة، فيما كانت عيّنات مياه الدول الأوروبية هي الأقل تلوثاً.
ووفقاً لتقرير توقعات البيئة العالمية السادس (جيو6) الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة هذه السنة، تُقدّر كمية النفايات البلاستيكية التي تصل إلى المحيطات سنوياً بنحو 8 ملايين طن، وذلك نتيجة الإدارة السيئة للنفايات البلدية في المناطق الساحلية. وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه، من المتوقع أن تبلغ كمية المواد البلاستيكية المتراكمة في البحار ما بين 100 إلى 250 مليون طن في سنة 2025.
وفيما تحتل الصين المرتبة الأولى عالمياً في مساهمتها بتلويث المحيطات بالنفايات البلاستيكية بنسبة 27.7 في المائة، تليها إندونيسيا بنسبة 10.1 في المائة، يأتي العرب مجتمعون في المرتبة الثالثة عالمياً بنسبة 8.6 في المائة. وتحتل مصر منفردةً المرتبة الأولى عربياً والسابعة عالمياً بنسبة 3 في المائة، وتليها الجزائر في المرتبة 13 عالمياً بنسبة 1.6 في المائة، ثم المغرب في المرتبة 18 عالمياً بنسبة 1 في المائة.
التدوير وحده ليس الحل
يظن البعض أن تدوير المخلفات البلاستيكية هو الهدف الأهم في الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، لكن هذا غير صحيح. ذلك أن الهوس بتدوير البلاستيك يشجع على استهلاك المزيد من المنتجات ذات الاستخدام الواحد بعيداً عن تحقيق الغاية الأهم، وهي خفض استهلاك المواد البلاستيكية.
وقد خلصت دراسة قام بها باحثون من جامعتي كاليفورنيا ولوس أنجلس إلى أن الأشخاص الذين يتخلصون من القوارير البلاستيكية في حاويات إعادة التدوير لا يهتمون باستخدام هذه القوارير أكثر من مرة قبل التخلص منها، ولذلك فإن استهلاكهم من المواد البلاستيكية يبقى مرتفعاً. كما أن إغراق الأسواق بالمواد المصنّعة من بلاستيك معاد تدويره يدفع سعره إلى الانخفاض، ويزيد من الطلب على المواد الخام. والتدوير يكون مجدياً فقط في حال أدى إلى خفض إنتاج البلاستيك الخام. ويذكر أن معدل استهلاك الفرد من الأكياس البلاستيكية سنوياً في بعض الدول العربية يصل إلى 40 كيلوغراماً للشخص، في مقابل المعدل العالمي الذي يبلغ 24 كيلوغراماً.
ويشهد العالم خطوات متصاعدة لمواجهة الإفراط في استهلاك المواد البلاستيكية. ووفقاً لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة بعنوان "الحدود القانونية للمواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد والميكروبلاستيك"، كانت 127 دولة فرضت إطاراً تنظيمياً يخص الأكياس البلاستيكية، وذلك قبل شهر يونيو (تموز) 2018. ومن بين هذه الدول، حظرت 27 دولة استهلاك أو إنتاج نوع أو أكثر من المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، وسيزداد عدد الدول مع دخول الحظر الأوروبي على بعض هذه المنتجات حيز التنفيذ بحلول سنة 2021.
في العالم العربي، بدأت بعض الدول بفرض حظر على تصنيع وتداول واستيراد الأكياس البلاستيكية، مع تفاوت في التطبيق. وقد تكون التجربة المغربية الأشمل والأنجح في هذا المجال، حيث يتم فرض الحظر بشكل كامل تقريباً، مع توفير بدائل من أكياس مصنوعة من مواد ورقية. وفي مصر انفردت محافظة البحر الأحمر بتطبيق حظر محلي على الأكياس والمنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد. أما في العراق، فاقتصر الحظر على استيراد الأغذية المغلفة بمواد بلاستيكية معاد تدويرها. وفي لبنان، توجد بعض المبادرات المحلية لحظر استهلاك الأكياس البلاستيكية، كما في جبيل وبيت مري. أما في سورية وقطر وعُمان والصومال، فتوجد بعض القيود على استخدام المواد البلاستيكية التي تكون على تماس مباشر مع الأغذية، من دون وجود حظر تام. وتعد البحرين آخر الدول العربية التي فرضت حظراً على الأكياس البلاستيكية حتى الآن، وكان ذلك في شهر يونيو (تموز) الماضي.
هذه المبادرات العربية لتقييد إنتاج وتداول واستهلاك المواد البلاستيكية لاتزال أقل من المطلوب، بالمقارنة مع عشرات ملايين أطنان النفايات البلاستيكية التي يتم التخلص منها عشوائياً كل سنة. ولعل السياسة التي اتبعتها الصين في إطار خطة أطلقت عليها اسم "السيف الوطني" للحد من التلوث وتشجيع التدوير تكون حافزاً لتطبيق "سيف عربي" يضع حداً لهذه المشكلة.