في شهر أغسطس (آب) 2013 شهد العالم أول اختبار تذوق للحم مصنّع في أنابيب اختبار قام بتطويره مجموعة من الباحثين في جامعة ماستريخت الهولندية، من مجموعة خلايا جذعية بقرية، بتمويل من سيرجي برين الشريك المؤسس لمحرك البحث غوغل، وبكلفة تجاوزت 300 ألف دولار. محور الاختبار إنتاج شطيرة "لحم إصطناعي" تزن 130 غراماً فقط، وكانت النتيجة أن الطعم قريب من مذاق اللحم الحيواني.
لا تعدو إمكانية تصنيع لحوم في المختبرات عن كونها واحدة من بين التطورات الكثيرة في عالم الغذاء المتغير دوماً، وهي بفكرتها الاستثنائية وأسلوبها غير الطبيعي تمثل نقطة تحول ثالثة في علاقة الإنسان مع الحيوانات التي تستهلك كطعام.
وتبقى التربية المكثفة للمواشي والدواجن هي الناظمة لإنتاج اللحوم في العالم حالياً، أما ظهور سوق ترتكز على اللحوم الاصطناعية فهو حلم قد يتحقق في المستقبل المنظور. فالأمور متداخلة، وفي كل بلد يقترن إنتاج اللحوم بالسياسات الاقتصادية وطبائع المجتمع ونظم الإنتاج، وهذا يترك أثراً واضحاً على البيئة والإنسان والحيوان.
أول تجربة تذوق على قطعة لحم مصنّع مخبرياً بلغت كلفتها 300 ألف دولار
آثار سلبية على البيئة
في جميع أنحاء العالم، يجري تخصيص المزيد من الموارد لإنتاج اللحوم. وعلى عكس ما هو شائع، فإن قطاع تربية المواشي، لا صناعة الأخشاب، هو المحرك البشري الأول لإزالة الغابات عالمياً. ووفقاً لمنظمة "غرينبيس"، يعد إنتاج اللحم البقري مسؤولاً وحده عن 14 في المئة من المساحات التي يجري اقتطاعها من الغابات حول العالم سنوياً، كما أنه العامل المباشر الذي تسبب في إزالة 80 في المئة من مجمل المساحات المقطوعة ضمن غابات الأمازون.
وكانت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) أجرت في سنة 2006 تقييماً للآثار البيئية الناجمة بشكل مباشر أو غير مباشر عن صناعة اللحوم. وفي تقريرها "الظل الطويل للثروة الحيوانية"، أشارت الفاو إلى أن قطاع المواشي والدواجن مسؤول عن 18 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة المسببة للاحترار العالمي، وهذا يفوق ما يتسبب به قطاع النقل بأكمله.
وجاءت دراسة أعدها باحثون في جامعة أكسفورد البريطانية سنة 2018 متوافقةً مع تقديرات الفاو، حيث خلصت إلى أن إنتاج الطعام مسؤول عن 26 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة، وأن المنتجات الحيوانية تتسبب بنحو 58 في المئة من الانبعاثات المرتبطة بإنتاج الطعام عالمياً، على الرغم من أنها لا توفر لمتناوليها أكثر من 20 في المئة من السعرات الحرارية التي يحصلون عليها عبر الغذاء.
وتقول دراسة جامعة أكسفورد إن تجنب تناول اللحوم والألبان قد يخفض ما ننتجه من غازات الاحتباس (أو بصمتنا الكربونية) من الطعام بحوالي الثلثين. ولا يقل عن ذلك أهمية معرفة أين تنتج الأطعمة التي نتناولها والكيفية التي تُنتج بها، حيث يمكن للمواد الغذائية نفسها أن تترك آثاراً بيئيةً متباينةً من مكان إلى آخر.
على سبيل المثال، ينتج عن الماشية التي ترعى على أراضي الغابات الجرداء 12 ضعف كمية غازات الدفيئة التي تتسبب بها الماشية التي ترعى في الحقول الطبيعية. وتؤدي لحوم البقر المنتجة في أميركا اللاتينية إلى انبعاث 3 أضعاف كمية الغازات المسببة للاحترار العالمي التي تعزى للحوم البقر المنتجة في أوروبا، نتيجة تربيتها على مساحات أرض تزيد بعشر مرات.
ويستخدم البشر نحو ربع مساحة اليابسة لرعي المواشي وتربية الدواجن. كما يخصصون 43 في المئة من الأراضي الحقلية لإنتاج الأعلاف، أو ما يعادل 14 مليار هكتار من الأراضي الزراعية في سنة 2016. وبالتالي فإن الأرض المخصصة للإنتاج الحيواني تمثل 30 في المئة من مساحة اليابسة، إذا استثنينا السطوح الجليدية.
ويمتد تأثير انتاج اللحوم ليطال الموارد المائية العذبة، حيث أظهرت دراسة أعدها باحثون سويديون ونشرت في مجلة "سياسة الغذاء" سنة 2016 أن إنتاج كيلوغرام واحد من لحوم البقر يحتاج إلى 15500 لتر من الماء، بينما يمكن استخدام الكمية ذاتها لإنتاج 12 كيلوغراما من القمح و118 كيلوغراما من الجزر.
ويُقدر أن إنتاج الأعلاف حول العالم مسؤول عما نسبته 15 في المئة من كميات المياه الجوفية التي يجري ضخها سنوياً، لاسيما في منطقة السهوب المرتفعة جنوبي الولايات المتحدة وأجزاء عديدة من الهند والصين وبوتسوانا. وفي السعودية كانت كمية المياه التي تستهلكها زراعة الأعلاف الخضراء تساوي 17 مليار متر مكعب، في مقابل 3 مليارات متر مكعب يستهلكها القطاع السكني والتجاري سنوياً، وهذا ما دفع الحكومة السعودية إلى البدء في تطبيق حظر على زراعة الأعلاف للحفاظ على الموارد المائية اعتباراً من مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2018.
تضاعف في الإنتاج العالمي
تتداخل في صناعة تربية الماشية المكثفة العديد من العوامل السياسية والاقتصادية، إلى جانب تداعياتها البيئية والأخلاقية، لأن هذا النوع من السلع يتسبب بأضرار بيئية واضحة ويحظى في المقابل بتواطؤ السلطات. وهذه الأضرار تزداد سنة بعد سنة بعدما دخل العالم في "ثورة بنية" حيث أنتج المزارعون 276 مليون طن من أنواع اللحوم المختلفة في سنة 2007، وهذا يعادل أربعة أضعاف ما أُنتج في سنة 1961. ومنذ ذلك الحين ارتفع هذا الرقم إلى 323 مليون طن في سنة 2017، أي بزيادة 17 في المئة في غضون عشر سنوات.
ويقدر تقرير "التوقعات الزراعية 2018-2027"، الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة (فاو) ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن يرتفع إنتاج العالم من اللحوم بمقدار 15 في المئة في غضون السنوات العشر التالية. ومن المتوقع أن تستأثر البلدان النامية بأغلبية الزيادة الكلية في الإنتاج، بفضل اتساع استخدام نظم التغذية المكثفة التي تقوم على الحبوب.
ويشير التقرير إلى تناقص في الطلب العالمي على لحوم الدواجن والخنزير، في مقابل زيادة الطلب على لحوم العجول والخراف، لاسيما لدى المستهلكين في البلدان النامية، وذلك بفضل نمو الدخل الذي يسمح بتنويع مصادر البروتين الحيواني لتشمل المنتجات ذات السعر الأعلى مثل اللحوم الحمراء.
ومن الواضح أن النمو المتسارع في إنتاج اللحوم خلال السنوات الخمسين الماضية كان نتيجة زيادة عدد سكان العالم إلى أكثر من الضعف، إلى جانب ارتفاع مستوى الدخل العالمي إلى أكثر من ثلاثة أضعاف خلال الفترة ذاتها. ولكن الزيادة في كميات اللحوم المعروضة لم تكن لتتحقق من دون تطور آليات الإنتاج الصناعي المكثف، التي سمحت لعدد محدود من الشركات الضخمة بالسيطرة على أغلبية إنتاج البروتين الحيواني حول العالم.
وحسب المعطيات الأخيرة الواردة في تقرير "التوقعات الزراعية 2018-2027"، يحظى سكان أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) بأعلى حصة من اللحوم عالمياً، حيث استهلك الفرد الواحد سنوياً 94.36 كيلوغراماً من اللحوم المختلفة، وفقاً لمتوسط السنوات بين 2015 و2017. في حين كان معدل الاستهلاك العالمي من اللحوم 34.26 كيلوغراماً في السنة.
وكان للنمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته بعض الدول، خاصة دول بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) تأثير كبير في زيادة الاستهلاك العالمي، حيث تجاوزت حصة الفرد من اللحوم في هذه الدول 32 كيلوغراماً سنوياً. وإذا استثنينا الهند، حيث يقارب استهلاك الشخص 4 كيلوغرامات فقط في السنة بسبب المعتقدات الدينية، فإن باقي دول بريكس عرفت تضاعفاً في الاستهلاك.
وفي الصين، على سبيل المثال، ارتفع استهلاك المواطن من اللحوم إلى 20 كيلوغراماً في نهاية ثمانينات القرن الماضي، بعدما كان في الستينيات لا يتجاوز 5 كيلوغرامات في السنة. وفي السنوات الأخيرة تجاوز الاستهلاك 60 كيلوغراماً.
اتجاهات متباينة عربياً
ليس ببعيد عن معدلات استهلاك اللحوم في دول بريكس، تبلغ حصة الفرد الواحد في العالم العربي 25 كيلوغراماً في السنة. وللمقارنة، يمثل هذا الاستهلاك ضعف حصة الشخص في أفريقيا حيث يبلغ المعدل 12.4 كيلوغراماً، وهو أدنى استهلاك لمنطقة محددة في العالم.
لكن معدل الاستهلاك العربي يخفي خلفه تباينات واسعة ترتبط بمعدلات الدخل الوطنية. فالدول الخليجية، إلى جانب لبنان والأردن، تستهلك اللحوم بكميات تفوق المعدل العالمي، وقد تجاوز الاستهلاك في الكويت والسعودية خلال سنوات محددة أكثر من 100 كيلوغرام للشخص في السنة. أما الدول الأقل دخلاً، بالإضافة إلى العراق والجزائر، فيتراوح الاستهلاك السنوي للفرد فيها ما بين 20 و30 كيلوغراماً في السنة.
وما يميز استهلاك اللحوم في العالم العربي اعتماده على الدواجن بشكل كبير ثم على لحوم أنواع الماشية المختلفة باستثناء لحم الخنزير، علماً أن النوع الأخير هو الأكثر طلباً في السوق العالمية. وفيما شهدت جيبوتي وموريتانيا تراجعاً في استهلاك اللحوم خلال السنوات الخمسين الماضية، فإن جميع الدول العربية عرفت زيادةً ملحوظة في معدلات الاستهلاك. وتأثرت هذه الزيادة بالأوضاع الاقتصادية والسياسية لاسيما بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وحرب الخليج الثانية 1990-1991، وتراجع أسعار النفط خلال العقد الأخير، واضطرابات الربيع العربي.
ويؤكد تقرير "الأمن الغذائي، تحديات وتوقعات"، الصادر عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) سنة 2014، على ضرورة أن تكون نظم الإنتاج الحيواني في العالم العربي مستدامة وتراعي حماية البيئة من خلال تخفيف التلوث وتعزيز كفاءة استخدام المياه والاستخدام المستدام للأراضي، كما يدعو التقرير إلى التقليل من استهلاك اللحوم والتحوّل إلى استهلاك المزيد من الخضار والفاكهة والحبوب، من أجل حماية البيئة والصحة العامة في وقت واحد.
يبدو أن الدول العربية لا تملك خياراً آخر سوى السير في هذا الاتجاه نتيجة ندرة الموارد المائية المتاحة ومحدودية الأراضي الصالحة للرعي وزراعة الأعلاف. ولعل التحولات التي شهدتها البلدان الخليجية في السنوات القليلة الماضية، من خلال الحد في زراعة الأعلاف للحفاظ على المياه الجوفية والسير في خفض الدعم الحكومي، كانت عاملاً مؤثراً في تراجع استهلاك اللحوم في الإمارات والكويت وتباطؤ الاستهلاك في السعودية.