لم تعترض الدول النفطية على خفض الانبعاثات بتعزيز الكفاءة وإدخال المصادر المتجددة والنظيفة كعنصر أساسي في مزيج الطاقة، في حين اعترضت الدول المنتجة للحوم الأبقار على الإشارة إلى أثر إنتاجها واستهلاكها على البيئة والصحة.
مئات العلماء قدّموا مؤخّراً في اجتماع دولي ملخّصاً عن نتائج عملهم لست سنوات حول توقعات البيئة العالمية. وكان الهدف موافقة الدول على إعلان مشترك عن أبرز التحديات البيئية وسبل معالجتها، استناداً إلى الاجماع العلمي. التقرير، الذي يصدر في آذار (مارس) المقبل، يدعو إلى استخدام الموارد الطبيعية بكفاءة، وتسريع العمل لتقليل الانبعاثات الكربونية. ويتميز في أنه لا يكتفي ببحث أثر الانبعاثات على تغيّر المناخ، بل أيضاً على نوعية الهواء، الذي تؤكد منظمة الصحة العالمية أن تلوّثه هو المسبب البيئي الأكبر للأمراض.
يشير التقرير إلى أن تحقيق هدف إبقاء ارتفاع الحرارة العالمية دون الدرجة والنصف، وهو الحد الأقصى المقبول لتجنّب كوارث طبيعية تهدّد الوجود البشري نفسه، يتطلب التحوّل السريع إلى مصادر طاقة متجددة ونظيفة. كما يتطلب تعديلاً في أنماط الاستهلاك والإنتاج، لتعزيز الكفاءة والحد من الهدر.
ويحذّر التقرير من تدهور كبير في التنوع البيولوجي مع استمرار انقراض الأنواع، وتراجع الغابات، وتلوث التربة، وتقلص المساحات الصالحة للزراعة، بسبب الزراعة المكثفة والاستثمار المفرط للغابات وتوزيع استخدامات الأراضي على نحو غير مستدام. وهو دعا إلى مراعاة قدرة الطبيعة على تحمّل البصمة البيئية للإنتاج الزراعي باعتماد أساليب إنتاج مستدامة وتعديل أنماط الاستهلاك.
وكان تقرير علمي، صدر قبل شهور، وجد أن إنتاج اللحوم والألبان من أبرز مسببات تدهور الأراضي وتغيّر المناخ. فبينما توفر الثروة الحيوانية 18 في المئة فقط من السعرات الحرارية على مستوى العالم، فهي تستخدم 83 في المئة من الأراضي الزراعية. كما أن مزارع الأبقار هي من أبرز مصادر الغازات المسببة للاحتباس الحراري، أكان في إنتاج الاعلاف أو في الفضلات الصلبة والسائلة والغازية. لكن التقرير وجد أن تربية الأبقار في أراضٍ جافة لا تنتج أعلافاً طبيعية تسبِّب 12 ضعفاً من غازات الدفيئة مقارنة بتلك التي تنمو في مراعٍ طبيعية. ويؤكد التقرير أن التقليل من استهلاك اللحوم والألبان من أسرع الطرق التي يستطيع الأفراد من خلالها المساهمة في تخفيف البصمة البيئية والحد من تغيّر المناخ. المطلوب، إذاً، تربية الأبقار في المراعي الطبيعية الملائمة، والتقليل من استهلاك اللحوم بزيادة وجبات الخضار والحبوب والدجاج والأسماك.
إلى جانب موقعها المتقدم في إنتاج اللحوم، تحتل البرازيل موقعاً بارزاً في إنتاج الغاز الحيوي، إذ تأتي في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة. وحرق الوقود الحيوي - خاصة الإيثانول، الذي يتم إنتاجه من النبات - يُصدر انبعاثات أقل بنسبة 90 في المئة من البترول، ولهذا فهو في صلب تدابير البرازيل للالتزام بتعهداتها لخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 43 في المئة مع حلول عام 2030. يعتمد إنتاج الغاز الحيوي في البرازيل على قصب السكّر والذرة، التي تتطلب زراعتها مساحات شاسعة من الأراضي. لكن هذا يتم على حساب قطع الغابات، ما يتسبب بتدهور الموائل الطبيعية واضمحلال التنوّع البيولوجي. كما أن استخدام محاصيل الأراضي الصالحة للزراعة لإنتاج الوقود يشكل منافسة قويّة مع إنتاج الغذاء، المطلوب لاطعام مئات ملايين الجياع. لذا، يدعو التقرير البيئي إلى إقامة توازن بين الاحتياجات المختلفة، بالحفاظ على التنوّع البيولوجي والغابات وحق الجياع بالطعام، إلى جانب خفض الانبعاثات باستخدام الوقود الحيوي.
في الاجتماع الأخير، لم تعترض الدول المصدّرة للبترول، كما فعلت تقليدياً في الماضي، على الدعوة إلى تخفيض الانبعاثات عن طريق تعزيز تدابير كفاءة استخدام الوقود الأحفوري لتقليل الكميات المستهلكة، واعتماد الطاقات المتجددة على نطاق واسع. وهذا يعكس إقرار هذه الدول، في السنوات الأخيرة، سياسات قوية لتنويع الاقتصاد كعنصر أساسي في مزيج الطاقة. المفاجأة كانت اعتراض البرازيل بشدة على أية قيود تمسّ المزروعات المستخدمة لإنتاج الوقود الحيوي، معتبرة قراراتها في هذا الشأن حقاً سيادياً وطنياً.
كما تضامنت الأرجنتين مع البرازيل في رفض تضمين التقرير إشارة مباشرة إلى الآثار البيئية والصحية للإسراف في إنتاج لحوم الأبقار واستهلاكها. علماً أن البرازيل تقع في المرتبة الثانية والأرجنتين في المرتبة السادسة لمنتجي لحوم الأبقار في العالم.
الولايات المتحدة لم تعترض على تخفيض الانبعاثات من الوقود الأحفوري واعتماد الطاقة المتجددة، وصولاً إلى اقتصاد خالٍ من الكربون. لكنها اعترضت على الدعوة إلى نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية بلا قيود، وذلك حفاظاً على مصالح الشركات الكبرى، التي تملك حصرياً براءات الاختراع.
من حق الدول، بالطبع، الدفاع عن حقوقها في مصادر دخل تكفل مصلحة شعوبها، سواءٌ أكان من النفط أم اللحم أم الوقود الحيوي. لكن للطبيعة أيضاً حقوقاً يجب علينا احترامها، عن طريق إقامة توازن بين متطلبات الاقتصاد والبيئة، على نحو يكفل استمرار التنمية. ومن حق الدول النامية، التي نطالبها بالانتقال إلى اقتصاد خالٍ من الكربون، أن تتلقى الدعم التكنولوجي والمالي من الدول المتقدمة لتحقيق هذا الهدف.
ليس صحيحاً أن تلبية احتياجات عشرة بلايين إنسان من الطاقة والغذاء والمياه سنة 2050 تتطلب مضاعفة الكميات المنتجة، التي تزيد من البصمة البيئية، مهما ابتدعنا من أساليب مبتكرة. المطلوب تعزيز الكفاءة ووقف الهدر للحصول على الاحتياجات باستخدام موارد أقل. والمطلوب، أيضاً، تعديل أنماط الاستهلاك لضمان ترشيد استخدام الموارد.